الإمامة بيد اللّه سبحانه و تعالى
إنّه وإن أخبر النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن ثبوت الإمامة لأمير المؤمنين سلام اللّه عليه قبل هذا العالم، أخبرنا بأنّ الإمامة والوصاية والخلافة من بعده ثابتة لعلي، بإرادة من اللّه سبحانه منذ ذلك، هذا الثبوت قبل هذا العالم كان لأمير المؤمنين، كما ثبتت النبوة والرسالة لرسول اللّه قبل هذا العالم… أخبرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم عن هذا الموضوع في حديث النور، هذا الحديث المشهور بين الفريقين، إذ قال كما في أحد ألفاظه: «كنت أنا وعلي نوراً بين يدي اللّه تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق اللّه آدم، قسّم ذلك النور جزئين، فجزءٌ أنا وجزء علي».
ومن رواة هذا الحديث من أعلام أهل السنّة:
1 ـ أحمد بن حنبل.
2 ـ أبو حاتم الرازي.
3 ـ ابن مردويه الإصفهاني.
4 ـ أبو نعيم الإصفهاني.
5 ـ ابن عبد البر القرطبي.
6 ـ الخطيب البغدادي.
7 ـ ابن عساكر الدمشقي.
8 ـ عبد الكريم الرافعي القزويني، الإمام الكبير عندهم.
9 ـ شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني.
وجماعة غير هؤلاء، يروون هذ الحديث عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، بواسطة عدّة من الصحابة، وبأسانيد بعضها صحيح(1).
وقد اشتمل بعض ألفاظ الحديث على قوله صلّى اللّه عليه وآله: «فجعل فيّ النبوّة وفي علي الخلافة»(2)، وفي بعضها: «فجعل فيّ الرسالة وفي علي الوصاية»(3).
فإمامة علي ثابتة من ذلك الوقت بحكم هذا الحديث وأمثاله.
لكن كلامنا في هذا العالم، فإن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر منذ اليوم الأول من بعثته عن أنّ الإمامة إنّما هي بيد اللّه سبحانه وتعالى، الإمامة حكمها حكم الرسالة والنبوّة كما ذكرنا، ففي أصعب الظروف وأشدّ الأحوال التي كان عليها رسول اللّه في بدء الدعوة الإسلاميّة، عندما خوطب من قبل اللّه سبحانه وتعالى بقوله: (فَاصْدَع بمَا تُؤْمَرْ)(4)جعل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)يعرض نفسه على القائل العربية، ففي أحد المواقف حيث عرض نفسه على بعض القبائل العربيّة ودعاهم إلى الإسلام، طلبوا منه واشترطوا عليه أنّه إن بايعوه وعاونوه وتابعوه أن يكون الأمر من بعده لهم، ورسول اللّه بأشدّ الحاجة حتى إلى المعين الواحد، حتّى إلى المساعد الواحد، فكيف وقبيلة فيها رجال، أبطال، عدد وعُدّة، في مثل تلك الظروف لمّا قيل له ذلك قال: «الأمر إلى اللّه…» ولقد كان بإمكانه أن يعطيهم شبه وعد، ويساومهم بشكل من الأشكال، لاحظوا هذا الخبر:
يقول ابن إسحاق صاحب السيرة ـ وهذا الخبر موجود في سيرة ابن هشام، هذا الكتاب الذي هو تهذيب أو تلخيص لسيرة ابن إسحاق ـ: إنّه ـ أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ، وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم ويقال له بحيرة بن فراس قال: واللّه لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثمّ قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمرُ إلى اللّه يضعه حيث يشاء»، فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك اللّه كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه(5).
وفي السيرة الحلبيّة: وعرض على بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظفرك اللّه على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال: «الأمر إلى اللّه يضعه حيث شاء»، فقال له: أنقاتل العرب دونك، وفي رواية: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، أي نجعل نحورنا هدفاً لنبالهم، فإذا أظهرك اللّه كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك. وأبوا عليه(6).
هذا، والرسول ـ كما أشرت ـ في أصعب الأحوال وأشدّ الظروف، وكلّ العرب وعلى رأسهم قريش يحاربونه ويؤذونه بشتّى أنواع الأذى، يقول: «الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء»، وهذا معنى قوله تعالى: (اللّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسَالَتَهُ)(7).
ولو راجعتم الآيات الكريمة الواردة في نصب الأنبياء، غالباً مّا تكون بعنوان «الجعل» وما يشابه هذه الكلمة، لاحظوا قوله تعالى: (إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاس إمَاماً)(8) هذا في خطاب لإبراهيم (عليه السلام)، وفي خطاب لداود: (إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاس)(9).
ومن هذه الآية يستفاد أنّ الحكم بين الناس حكم من أحكام النبوّة والرسالة (إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ) الحكم من أحكام الخلافة، وليست الخلافة هي الحكومة، وقد أشرت إلى هذا من قبل في بعض البحوث وقلت بأن الخلافة ليست الحكومة، وإنّما الحكومة شأن من شؤون الخليفة، فقد تثبت الخلافة الشرعية لشخص ولا يتمكّن من الحكومة على الناس ولا يكون مبسوط اليد ولا يكون نافذ الكلمة، إلاّ أنّ خلافته محفوظة، كما هو الحال في النبوّة، فما أكثر الأنبياء الذين لم تطعهم الأُمم بل أُوذوا واستشهدوا، ولكنّ ذلك لم يضرّ بنبوّتهم ورسالتهم الإلهيّة، أمّا من تمكّن منهم من الحكومة بين الناس فقد قام بالواجب وأدّى المسئوليّة.
وإذا كانت الآيات دالّة على أنّ النبوّة والإمامة إنّما تكون بجعل من اللّه سبحانه وتعالى، فهناك بعض الآيات تنفي أن تكون النبوّة والإمامة بيد الناس، كقوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(10)، وذيل الآية ربّما يؤيّد هذا المعنى، من حيث إنّ القول باشتراك الناس وبمساهمتهم وبدخلهم في تعيين النبوّة لأحد أو تعيين الإمامة لشخص، هذا نوع من الشرك، ولذا نرى أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يصرّح بأنّ الأمر بيد اللّه، أي ليس بيد النبي، فضلاً عن أن يكون بيد أحد أو طائفة من الناس.
حتّى إذا اُمر بإنذار عشيرته بقوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرتَكَ الأقرَبِينَ)(11) فجمع أقطابهم، فهناك أبلغ الناس بأن الجعل بيد اللّه، وأخبرهم بالذي حصل الجعل له من اللّه من بعده(12).
وهكذا كان (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصّ على علي، وإلى آخر لحظة من حياته المباركة.
ولم نجد، لا في الكتاب ولا في سنّة رسول اللّه، دليلاً ولا تلميحاً وإشارة إلى كون الإمامة بيد الناس، بأن ينصبوا أحداً عن طريق الشورى مثلاً، أو عن طريق البيعة والإختيار، ولا يوجد أيّ دليل على ثبوت الإمامة بغير النصّ.
(1) مناقب علي لأحمد بن حنبل: 178 ـ 179، ح: 251، وعنه المحبّ الطبري في الرياض النضرة 3: 103، وسبط ابن الجوزي في التذكرة: 50 ـ 51، ورواه الحافظ الكنجي في الكفاية: 314 عن ابن عساكر والخطيب البغدادي، ونظم درر السمطين: 7، 78 ـ 79، وفرائد السمطين 1: 39 ـ 44، والمناقب للخوارزمي: 145، والمناقب لابن المغازلي: 87 ـ 89، شرح نهج البلاغة 9: 171.
(2) ابن المغازلي في المناقب.
(3) رواه جماعة، منهم: ابن المغازلي في المناقب، شرح نهج البلاغة 9: 171. تاريخ مدينة دمشق 42: 67.
(4) سورة الحجر: 94.
(5) سيرة ابن هشام 1 / 289.
(6) السيرة الحلبية 2 / 4.
(7) سورة الأنعام: 124.
(8) سورة البقرة: 124.
(9) سورة ص: 26.
(10) سورة القصص: 68.
(11) سورة الشعراء: 214.
(12) هذا إشارة إلى حديث الدار في يوم الإنذار، وللكلام حوله مجالٌ آخر.