قال سعد الدين التفتازاني:
زعمت الإمامية من الشيعة أن محمّد بن الحسن العسكري اختفى عن الناس خوفاً من الأعداء، ولا استحالة في طول عمره كنوح ولقمان والخضر عليه السلام ـ هذا رأي الشيعة ـ وأنكر ذلك سائر الفرق، لأنّه ادّعاء أمر مستبعد جدّاً، ولأنّ اختفاء إمام هذا القدر من الأنام بحيث لا يذكر منه إلاّ الإسم بعيد جدّاً، ولأنّ بعثه مع هذا الإختفاء عبث، ولو سلّم فكان ينبغي أنْ يكون ظاهراً، فما قيل أو فيما يقال: إنّ عيسى يقتدي بالمهدي أو بالعكس شيء لا مستند له، فلا ينبغي أنْ يعوّل عليه(1).
هذا غاية ما توصّل إليه متكلّمهم سعد الدين التفتازاني.
أقول: إن تطرح هذه الأسئلة كبحوث علمية ومناقشات، فلا مانع، ويا حبّذا لو تطرح كذلك ويلتزم فيها بالآداب والأخلاق والمتانة، ولا يكون هناك شتم وسبّ وتهجّم وتهريج واستهزاء، وهكذا فعل بعض العلماء وبعض الكتّاب المعاصرين.
إلاّ أنّنا إذا راجعنا (منهاج السنّة) وجدناه في فصل البحث عن المهدي قد ملأ كتابه حقداً وبغضاً وعناداً وسبّاً وشتماً وتهريجاً وتكذيباً للحقائق!!! بحيث لو أنّكم أخرجتم من كتاب منهاج السنّة ما يتعلّق بالمهدي وما اشتمل عليه من السب والشتم لجاء كتاباً مستقلاً، وقد أوردنا في المقدمة بعض ذلك.
وقد تبعه أولياؤه في هذا المنهج من كتّاب زماننا وفي خصوص المهدي سلام اللّه عليه واعتقاد الشيعة في المهدي، تراهم يتهجّمون ويسبّون وينسبون إلينا الأكاذيب، ويخرجون عن حدود الآداب، ومع الأسف يكون لكتبهم قرّاء ومن يروّج لها في بعض الأوساط.
والحقيقة، أنّه تارةً يشك الباحث في أحاديث المهدي، أو يُناقش في أحاديث «الأئمّة الإثنا عشر»، أو لا يرتضي حديث «من مات ولم يعرف إمام زمانه» فهذا له وجه، بمعنى أنّه يقول: بأنّي لا أُوافق على صحّة هذه الأحاديث، فيبقى على رأيه، ولا يتكلّم معه إن لم يقتنع بما في الكتب، لا سيّما بروايات أبناء مذهبه.
وأمّا بناء على أنّ هذه الأحاديث مخرّجة في الصحاح، وفي السنن، والمسانيد، والكتب المعتبرة، وأنّها أحاديث متّفق عليها بين السلمين، وأنّ الإعتقاد بالمهدي عليه السلام أو الإعتقاد بالإمام في كلّ زمان واجب، وأنّ المهدي هو الثاني عشر في الحديث المعروف المتفق عليه، فيكون البحث بنحو آخر، لأنّه إنْ كان الباحث موافقاً على هذه الأحاديث، وعلى ما ورد من أنّ المهدي ابن الحسن العسكري، فلا محالة يكون معتقداً بولادة المهدي عليه السلام، كما اعتقدوا، وذكرنا أسماء كثيرين منهم.
1 ـ مسألة طول العمر
نعم، منهم من يستبعد طول العمر، بأنْ يبقى الإنسان هذه المدة في هذا العالم، وهذا مستبعد كما عبّر السعد التفتازاني، فإن التفتازاني لم يكذّب ولادة المهدي من الحسن العسكري سلام اللّه عليه، وإنّما استبعد أن يكون الإمام باقياً هذه المدة من الزمان.
ولذا نرى بعضهم يعترف بولادة الإمام عليه السلام ثمّ يقول: «مات»، يعترف بولادته بمقتضى الأدلّة الموجودة لكنّه يقول بموته، لعدم تعقّله بقاء الإنسان في هذا العالم هذا المقدار من العمر، لكن هذا يتنافى مع «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» حيث قرّرنا أنّ هذا الحديث يدلّ على وجود إمام في كلّ زمان.
ولذا نرى البعض الآخر منهم يلتفت إلى هذه النواحي، فلا يقول مات، بل يقول: «لا ندري ما صار»، ولد، إلاّ أنّه لا ندري ما صار، ما وقع عليه، لا يعترف ببقائه، لأنّه يستبعد البقاء هذه المدة، ولا ينفي البقاء لأنّه يتنافى مع الأحاديث، يعترف بالولادة فيقول: لا ندري ما صار، وأين صار، وما وقع عليه، ممّا يظهر أنّهم ملتزمون بهذه الأحاديث، ومن التزم بهذه الأحاديث لابدّ وأن يلتزم بولادة المهدي عليه السلام ووجوده.
ثمّ الإستبعاد دائماً وفي كلّ شيء، وفي كلّ أمر من الأُمور، الإستبعاد يزول إنْ حدث له نظير، لو أنّك تيقّنت عدم شيء أو عدم إمكان شيء، فوقع فرد واحد ومصداق واحد لذلك الشيء، ذلك الإعتقاد بالعدم الذي كنت تجزم به مائة بالمائة سيكون تسعين بالمائة، لوقوع فرد واحد، فإذا وقع فرد آخر، وإذا وقع فرد ثالث، ومصداق رابع، هذا الإعتقاد الذي كان مائة بالمائة ثمّ أصبح تسعين بالمائة ينزل على ثمانين، وسبعين، و، و، إلى خمسين وتحت الخمسين، فحينئذ، نقول للسعد التفتازاني:
إنّ اللّه سبحانه وتعالى أمكنه أنْ يعمّر نوحاً هذا العمر، أمكنه أن يبقي خضراً في هذا العالم هذه المدة، أمكنه سبحانه وتعالى أنْ يبقي عيسى حيث هو حيّاً هذه المدّة، الذي هو من ضروريات عقائد المسلمين، ومن يمكنه أنْ ينكر وجود عيسى؟!
وأيضاً: في رواياتهم هم يثبتون وجود الدجال الآن، يقولون بوجوده منذ ذلك الزمان.
فإذا تعدّدت الأفراد، وتعدّدت المصاديق، وتعدّدت الشواهد، يقلّ الإستبعاد يوماً فيوماً.
وهذه الإكتشافات والإختراعات التي ترونها يوماً فيوماً قد حوّلت المستحيلات إلى ممكنات.
فحينئذ، ليس للسعد التفتازاني وغيره إلاّ الإستبعاد، وقد ذكرنا أنّ الإستبعاد يزول شيئاً فشيئاً.
يمثّل بعض علمائنا ويقول: لو أنّ أحداً ادّعى تمكّنه من المشي على الماء، يكذّبه الحاضرون، وكلّ من يسمع هذه الدعوى يقول: هذا غير ممكن، فإذا مشى على الماء وعبر النهر مرّةً يزول الإستغراب أو الإستبعاد من السامعين بمقدار هذه المرّة، فإذا كرّر هذا الفعل وكرّره وكرّره أصبح هذا الفعل أمراً طبيعياً وسهل القبول للجميع، حينئذ هذا الإستبعاد يزول بوجود نظائر ذلك.
إلاّ أنّ ابن تيميّة ملتفت إلى هذه الناحية، فيكذّب أصل حياة الخضر ويقول: بأنّ أكثر العلماء يقولون بأنّ الخضر قد مات(2)، فيضطرّ إلى هذه الدعوى، لأنّ هذه النظائر إذا ارتفعت رجع الإستبعاد مرة أُخرى.
لكنّك إذا رجعت مثلاً إلى الإصابة لابن حجر العسقلاني لرأيته يذكر الخضر من جملة الصحابة(3).
ولو رجعت إلى كتاب تهذيب الأسماء واللغات للحافظ النووي الذي هو من علماء القرن السادس أو السابع يصرّح بأنّ جمهور العلماء على أنّ الخضر حي(4)، فكان الخضر حيّاً إلى زمن النووي.
وإذا نزلت شيئاً فشيئاً تصل إلى مثل القاري في المرقاة(5) وتصل إلى مثل شارح المواهب اللدنيّة، هناك يصرّحون كلّهم ببقاء الخضر إلى زمانهم، وحتّى أنّهم ينقلون قصصاً وحكايات ممن التقى بالخضر وسمع منه الأخبار والروايات، فحينئذ تكذيب وجود الخضر من قبل ابن تيميّة إنّما هو لعلة ولحساب، وهو يعلم بأنّ وجود الخضر خير دليل على أنّ هذا الإستبعاد ليس في محلّه.
على أنّ اللّه سبحانه وتعالى إذا اقتضت الحكمة أنْ يبقي أحداً في هذا العالم آلاف السنين إذا اقتضت الحكمة، فقدرته سبحانه وتعالى تطبّق تلك الإرادة، ومشيّته تطبَّق، وهو قادر على كلّ شيء.
فمسألة طول العمر، أصبحت الآن مسألة بسيطة الحلّ، وصار الجواب عن هذا السؤال سهلاً جدّاً في مثل زماننا.
وكان هذا هو السؤال الأوّل، ولعلّه الأهم.
(1) شرح المقاصد 5 / 313.
(2) منهاج السنّة 4 / 93.
(3) الإصابة 1 / 429.
(4) تهذيب الأسماء واللغات 1 / 176، رقم 147.
(5) مرقاة المفاتيح 9 / 962.