الحديث الثاني
في أن النبي ترك بين الاُمة خليفتين
فقد تواتر عنه صلّى اللّه عليه وآله بالألفاظ المختلفة، أنه ترك بين الاُمة أمرين وجعلهما الخليفتين له من بعده، ما إنْ تمسّكت بهما لنْ تضل، أحدهما: كتاب اللّه والآخر أهل بيته عترته، وأخبر بأنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض يوم القيامة:
ومنها: ما أخرجه أحمد بإسناده عن زيد بن ثابت قال:
«قال رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ـ إني تارك فيكم خليفتين كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السّماء والأرض، أو ما بين السماء الى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(1).
ومنها: ما أخرجه الترمذي بإسناده عن جابر بن عبداللّه قال:
«رأيت رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ـ في حجّته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: يا أيّها الناس، قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي»(2).
ومنها: ما أخرجه ابن سعد وأحمد والطبراني عن أبي سعيد الخدري قال:
«قال رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ـ أيها الناس: إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي، أمر بيّن، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض»(3).
ومنها: ما عن ابن أبي شيبة أنه أخرجه في (المصنّف) بإسناده عن جابر بن عبداللّه قال: «قال رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ـ إني تركت فيكم ما لن تضلّوا بعدي إن اعتصمتم به: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي».
ومنها: ما أخرجه الترمذي باسناده عن زيد بن أرقم قال:
«قال رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ـ إني تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر; كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرّقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»(4).
ومنها: ما أخرجه الحاكم النيسابوري عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال:
«نزل رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ بين مكّة والمدينة عند شجرات خمس ودوحات عظام، فكنس الناس ما تحت الشجرات، ثم راح رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ عشية فصلّى ثم قال خطيباً، فحمد اللّه وأثنى عليه وذكّر ووعظ فقال ما شاء اللّه أن يقول، ثم قال: أيّها الناس إني تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتبعتموهما، وهما كتاب اللّه وأهل بيتي عترتي، ثم قال: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ ـ ثلاث مرّات ـ قالوا: نعم. فقال رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ : من كنت مولاه فعلي مولاه»(5).
ومنها: ما أخرجه الحاكم عن يحيى بن جعدة عن زيد بن أرقم قال:
«أخبرني محمد بن علي الشيباني بالكوفة، ثنا أحمد بن حازم الغفاري، ثنا أبو نعيم، ثنا كامل أبو العلاء، قال: سمعت حبيب بن أبي ثابت يخبر عن يحيى بن جعدة عن زيد بن أرقم ـ رضي اللّه عنه ـ قال:
خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، حتى انتهينا إلى غدير خم، فأمر بدوح فكسح في يوم ما أتى علينا يوم كان أشدّ حراً منه، فحمد اللّه وأثنى عليه وقال: يا أيّها الناس: إنّه لم يبعث نبي قط إلاّ ما عاش نصف ما عاش الذي كان قبله. وإني أوشك أن أدعى فأجيب ، وإني تارك فيكم ما لن تضلّوا بعده: كتاب اللّه عزّوجل. ثم قام فأخذ بيد علي ـ رضي اللّه عنه ـ فقال: يا أيها الناس من أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم: قال: من كنت مولاه فعلي مولاه.
هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه».
وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح(6).
ومنها: ما أخرجه الطبراني بإسناده عن زيد بن أرقم قال:
«نزل النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم يوم الجحفة، ثم أقبل على الناس، فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: إني لا أجد لنبي إلاّ نصف عمر الذي قبله، وإني أوشك أن أدعى فأجيب، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نصحت. قال: أليس تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن البعث بعد الموت حق؟ قالوا: نشهد، قال: فرفع يديه فوضعهما على صدره، ثم قال: وأنا أشهد معكم. ثم قال:
ألا تسمعون! قالوا: نعم. قال: فإني فرطكم على الحوض وأنتم واردون عليَّ الحوض، وإنّ عرضه أبعد ما بين صنعاء وبصرى، فيه أقداح عدد النجوم من فضة، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين:
فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول اللّه؟
قال: كتاب اللّه، طرف بيد اللّه عزّوجل، وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به ولا تضلّوا، والآخر: عترتي. وإنّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. وسألت ذلك لهماربي.
فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم.
ثم أخذ بيد علي ـ رضي اللّه عنه ـ فقال: من كنت أولى به من نفسه فعلي وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»(7).
قال العلماء: وهذا الحديث وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:
قال ابن حجر المكي: «وقد جاء الوصية الصّريحة بهم في عدّة أحاديث، منها حديث: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي الثقلين أحدهما أعظم من الآخر، كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما. قال الترمذي: حسن غريب. وأخرجه آخرون. ولم يصب ابن الجوزي في إيراده في العلل المتناهية، كيف! وفي صحيح مسلم وغيره…»(8).
وقال الحافظ السخاوي في (استجلاب ارتقاء الغرف): «قد جاءت الوصية الصريحة بأهل البيت في غيرها من الأحاديث، فعن سليمان بن مهران الأعمش…» إلى آخر عبارته(9).
وقال الحافظ السمهودي في (جواهر العقدين): «الذكر الرابع: في حثّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم الأمة على التمسّك بعده بكتاب ربهم، وأهل بيت نبيّهم، وأن يخلفوه فيهما بخير، وسؤاله من يرد عليه الحوض عنهما، وسؤال ربه عزّوجل الأمة كيف خلفوا نبيّهم فيهما، ووصيّته بأهل بيته، وأنّ اللّه تعالى أوصاه بهم…»(10).
بل جاء في أحد ألفاظ الحديث:
«اُوصيكم بكتاب اللّه وعترتي»(11).
وقال العلماء أيضاً: إن هذا الحديث يدلّ على وجود من هو أهلٌ من أهل البيت لأن يتمسّك به ويهتدى به إلى يوم القيامة.
قال ابن حجر المكي: «وفي أحاديث الحثّ على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع مستأهل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما سيأتي، ويشهد لذلك الخبر السابق: في كلّ خلف من أمتي عدول من أهل بيتي»(12).
وقال الحافظ الشريف السمهودي في تنبيهات حديث الثقلين:
«ثالثها: إن ذلك يفهم وجود من يكون أهلا للتمسّك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كلّ زمان وجدوا فيه إلى قيام الساعة، حتى يتوجّه الحثّ المذكور إلى التمسّك به، كما أن الكتاب العزيز كذلك ـ ولهذا كانوا ـ كما سيأتي ـ أماناً لأهل الأرض فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض»(13).
وكذا قال المناوي بشرح الجامع الصغير 3 / 15.
والزرقاني المالكي بشرح المواهب اللدنية 7 / 8 .
ونقلا كلام الشريف السمهودي الحافظ المذكور… .
وقال الشريف الحافظ السمهودي: «الذين وقع الحثّ على التمسّك بهم من أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة هم العلماء بكتاب اللّه عزّوجل، إذ لا يحثّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم على التمسّك بغيرهم، وهم الذين لا يقع بينهم وبين الكتاب افتراق حتى يردا الحوض، ولهذا قال: لا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم»(14).
وقال الشيخ القاري في شرح المشكاة: «وأقول: الأظهر هو أنّ أهل البيت غالباً يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله، فالمراد بهم أهل العلم منهم، المطّلعون على سيرته، الواقفون على طريقته، العارفون بحكمه وحكمته، وبهذا يصلح أن يكونوا عدلا لكتاب اللّه سبحانه، كما قال: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)»(15).
ولقد نصَّ نظام الدين النيسابوري في (تفسيره) على ضوء حديث الثقلين على كون «عترته» صلّى اللّه عليه وآله وسلّم «ورثته، يقومون مقامه» وهذه عبارته بتفسير قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) قال:
«وكيف تكفرون، استفهام بطريق الإنكار والتعجّب. والمعنى: من أين يتطرّق إليكم الكفر والحال أن آيات اللّه تتلى عليكم على لسان الرسول صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم غضّةً في كلّ واقعة، وبين أظهركم رسول اللّه يبيّن لكم كلّ شبهة ويزيح عنكم كلّ علّة… .
أمّا الكتاب، فإنه باق على وجه الدهر.
وأمّا النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، فإنه وإن كان مضى إلى رحمة اللّه في الظاهر، ولكنّ نور سرّه باق بين المؤمنين، فكأنه باق، على أنّ عترته صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم ورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضاً، ولهذا قال: إني تارك فيكم الثقلين…»(16).
(1) مسند أحمد 5 / 181.
(2) صحيح الترمذي 5 / 621.
(3) الدر المنثور 2 / 60.
(4) صحيح الترمذي 5 / 621.
(5) المستدرك على الصحيحين 3 / 110.
(6) المستدرك على الصحيحين 3 / 533.
(7) المعجم الكبير 5 / 186 ـ 187.
(8) الصواعق المحرقة: 90.
(9) استجلاب ارتقاء الغرف 1 / 336.
(10) جواهر العقدين: 231.
(11) لسان العرب «عتر».
(12) الصواعق المحرقة: 90.
(13) جواهر العقدين: 244.
(14) جواهر العقدين: 243.
(15) المرقاة في شرح المشكاة 5 / 600.
(16) غرائب القرآن = تفسير النيسابوري 1 / 347.