الحديث الأوّل
في أنّ من مات ولم يعرف امام زمانه فميتته جاهلية
إنّه لابدّ في كلّ زمان من إمام يجب على الاُمة معرفته والإيمان به والإطاعة له، بحث لو مات المسلم ولم يعرفه كانت ميتته جاهليّة.
وقد ورد هذا المضمون بأسانيد كثيرة عن رجال ثقاة، ولا نظنّ أنّ أحداً من الناس يجرأ على المناقشة في أسانيد هذه الروايات ومداليلها، إنّها روايات واردة في الصحيحين، وفي المسانيد، وفي السنن، وفي المعاجم، وفي جميع كتب الحديث والروايات، وهذه مقبولة عند الفريقين.
فقد اتفق المسلمون على رواية: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة».
هذا الحديث بهذا اللّفظ موجود في بعض المصادر، وقد أرسله الشيخ سعدالدين التفتازاني إرسال المسلّم، وبنى عليه بحوثه في كتابه شرح المقاصد(1).
وللحديث ألفاظ أُخرى، إلاّ أنّي أعتقد بأنّ جميع هذه الألفاظ لابدّ وأن ترجع إلى معنى واحد، ولابدّ أن تنتهي إلى مقصد واحد يقصده رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وهو ما قدّمناه من ضرورة وجود إمام هاد للاُمّة في كلّ زمان، يجب الإقتداء به والأخذ بهديه… .
فمثلاً في مسند أحمد: «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية»(2)، وكذا في عدّة من المصادر: كمسند أبي داود الطيالسي(3)، وصحيح ابن حبّان(4)، والمعجم الكبير للطبراني(5)، وغيرها.
وعن بعض الكتب إضافة بلفظ: «من مات ولم يعرف إمام زمانه فليمتْ إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً»، وقد نقله بهذا اللفظ بعض العلماء عن كتاب المسائل الخمسون للفخر الرازي.
وله أيضاً ألفاظ أُخرى موجودة في السنن، وفي الصحاح، وفي المسانيد أيضاً، نكتفي بهذا القدر، ونشير إلى بعض الخصوصيات الموجودة في لفظ الحديث:
«من مات ولم يعرف»، لابدّ وأنْ تكون المعرفة هذه مقدمة للإعتقاد، «من مات ولم يعرف» أي: من مات ولم يعتقد بإمام زمانه، لا مطلق إمام الزمان، بإمام زمانه الحق، بإمام زمانه الشرعي، بإمام زمانه المنصوب من قبل اللّه سبحانه وتعالى.
«من مات ولم يعرف إمام زمانه» بهذه القيود «مات ميتة جاهلية» وإلاّ لو كان المراد من إمام الزمان أيّ حاكم سيطر على شؤون المسلمين وتغلَّب على أُمور المؤمنين، لا يكون معرفة هكذا شخص واجبة، ولا يكون عدم معرفته موجباً للدخول في النار، ولا يكون موت الجاهل به غير التابع له موت جاهلية، هذا واضح.
إذن، لابدّ من أن يكون الإمام الذي تجب معرفته إمام حق، وإماماً شرعياً، فحينئذ، على الإنسان أن يعتقد بإمامة هذا الشخص، ويجعله حجةً بينه وبين ربّه، وهذا واجب، بحيث لو أنّه لم يعتقد بإمامته ومات، يكون موته موت جاهلية، وبعبارة أُخرى: «فليمت إنْ شاء يهودياً وإنْ شاء نصرانيّاً».
وذكر المؤرّخون: أنّ عبداللّه بن عمر، الذي امتنع من بيعة أمير المؤمنين سلام اللّه عليه، طرق على الحجّاج بابه ليلاً ليبايعه لعبدالملك، كي لا يبيت تلك اللّيلة بلا إمام، وكان قصده من ذلك هو العمل بهذا الحديث كما قال، فقد طرق باب الحجّاج ودخل عليه في تلك الليلة وطلب منه أن يبايعه قائلاً: سمعت رسول اللّه يقول: «من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية»، لكن الحجّاج احتقر عبداللّه بن عمر، ومدّ رجله وقال: بايع رجلي، فبايع عبداللّه بن عمر الحجّاج بهذه الطريقة.
وطبيعي أنّ من يأبى عن البيعة لمثل أمير المؤمنين عليه السلام يبتلي في يوم من الأيّام بالبيعة لمثل الحجّاج وبهذا الشكل.
وكتبوا بترجمة عبداللّه بن عمر، وفي قضاياه الحرة بالذات، تلك الواقعة التي أباح فيها يزيد بن معاوية المدينة المنورة ثلاثة أيام، أباحها لجيوشه يفعلون ما يشاؤون، وأنتم تعلمون ما كان وما حدث في تلك الواقعة، حيث قتل عشرات الآلاف من الناس، والمئات من الصحابة والتابعين، وافتضت الأبكار، وولدت النساء بالمئات من غير زوج.
في هذه الواقعة أتى عبداللّه بن عمر إلى عبداللّه بن مطيع، فقال عبداللّه بن مطيع: إطرحوا لأبي عبدالرحمن وسادة، فقال: إنّي لم آتك لكي أجلس، أتيتك لأُحدّثك حديثاً، سمعت رسول اللّه يقول: «من خلع يداً من طاعة لقى اللّه يوم القيامة لا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»(6).
فقضيّة وجوب معرفة الإمام في كلّ زمان والإعتقاد بإمامته والإلتزام ببيعته، أمر مفروغ منه ومسلّم، وتدلّ عليه الأحاديث، وسيرة الصحابة، وسائر الناس، ومنها ما ذكرت لكم من أحوال عبداللّه بن عمر الذي يجعلونه قدوة لهم، إلاّ أنّ عبداللّه بن عمر ذكروا أنّه كان يتأسّف على عدم بيعته لأمير المؤمنين عليه السلام، وعدم مشاركته معه في القتال مع الفئة الباغية، وهذا موجود في المصادر، فراجعوا الطبقات لابن سعد(7) والمستدرك للحاكم(8) وغيرهما من الكتب.
وعلى كلّ حال، لسنا بصدد الكلام عن عبداللّه بن عمر أو غيره، وإنّما أردت أن أذكر لكم نماذج من الكتاب والسنّة وسيرة الصحابة على أنّ هذه المسألة ـ مسألة أنّ في كلّ زمان وإمام حقٍّ من اللّه، لابدّ وأنْ يعتقد المسلمون بإمامته ويجعلونه حجةً بينهم وبين ربّهم ـ من ضروريات عقائد الإسلام.
هذا، وقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام ـ مما اتفق المسلمون على روايته عنه ـ قوله «إنّ الأرض لا تخلو من قائم للّه بحجّة» في كلام له حيث قال:
«اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة، إما ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته».
قال ابن حجر العسقلاني: «وفي صلاة عيسى عليه السلام خلف رجل من هذه الامّة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال: إن الأرض لا تخلو من قائم للّه بحجّة»(9).
وقال ابن أبي الحديد بشرح كلامه عليه السلام: «كي لا يخلو الزمان ممّن هو مهيمن للّه تعالى عباده ومسيطر عليهم، وهذا يكاد يكون تصريحاً بمذهب الإمامية، إلاّ أن أصحابنا يحملونه على أن المراد به الأبدال»(10).
وقد غفل أصحاب ابن أبي الحديد عن كلمة «الحجة»، فإن مصداق هذه الكلمة لا يكون إلاّ المعصوم، ولا يقول أحد بعصمة الأبدال.
وغفلوا كذلك عن قوله: «لئلاّ تبطل…»، فإنّ ذلك لا يتحقق بعد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله إلاّ بالإمام عليه السلام.
فما اعترف به ابن أبي الحديد هو الصحيح.
(1) شرح المقاصد 5 / 239.
(2) مسند أحمد 4 / 96، حديث معاوية بن أبي سفيان.
(3) مسند أبي داود الطيالسي: 259.
(4) صحيح ابن حبان 10 / 434، رقم 4573، وفيه: «من مات وليس له إمام».
(5) المعجم الكبير 19 / 388، حديث 910.
(6) صحيح مسلم 3 / 1478، حديث 1851.
(7) طبقات ابن سعد 4 / 185 ـ 186، وفيه: «ما أجدني آسى على شيء من أمر الدنيا إلاّ أنّي لم أُقاتل الفئة الباغية، ما آسى عن الدنيا إلاّ على ثلاث ظمأ الهواجر ومكابدة الليل وألاّ أكون قاتلت هذه الفئة الباغية التي حلّت بنا».
(8) مستدرك الحاكم 3 / 558، وفيه: «ما آسى على شيء» وتكملتها في الهامش (1): بياض في الأصل، لعلّ العبارة السّاقطة هي: (إلاّ أنّي لم أُقاتل مع علي رضي اللّه عنه الفئة الباغية).
(9) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 6 / 385، وتجد الحديث في غيره من المصادر السنّية، كتفسير الرازي 2 / 192 وشرح المقاصد 5 / 385، تاريخ بغداد 6 / 379 والعقد الفريد 1 / 265، عيون الأخبار لأبي قتيبة: 7.
وفي الكافي 1 / 136، وكمال الدين 1 / 287 وغيرهما من كتب الامامية.
(10) شرح نهج البلاغة 18 / 351.