نظرات في سنده
أقول: قد ذكرنا أهمّ أسانيد هذا الحديث في أهمّ كتبهم، فالترمذي يرويه بسنده عن أنس بن مالك، وهو وابن ماجة وعبداللّه بن أحمد يروونه عن أميرالمؤمنين عليه السّلام، وابن ماجة يرويه عن أبي جحيفة، وربّما روي في خارج الصحاح عن بعض الصحابة لكن بأسانيد اعترفوا بعدم اعتبارها(1).
وأوّل ما في هذا الحديث إعراض البخاري ومسلم عنه، فإنّهما لم يخرجاه في كتابيهما، وقد تقرّر عند كثير من العلماء ردّ ما اتّفقا على تركه، بل إنّ أحمد بن حنبل لم يخرجه في مسنده أيضاً، وإنّما أورده ابنه عبداللّه في زوائده(2)، وقد نصَّ أحمد على أنّ ما ليس في المسند فليس بحجّة حيث قال في وصف كتابه: «إنّ هذا الكتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفاً، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فارجعوا إليه، فإن كان فيه وإلاّ ليس بحجّة»(3)
ثم إنّه بجميع طرقه المذكورة ساقط عن الاعتبار.
أمّا الحديث عن عليّ عليه السّلام:
فقد رواه عنه الترمذي بطريقين، وعبداللّه بن أحمد بطريق ثالث. أمّا الطريق الأوّل:
فقد نبّه على ضعفه الترمذي أولا: بأنّ عليّ بن الحسين لم يسمع من عليّ بن أبي طالب، والواسطة بينهما غير مذكور، وهذا قادح على مذهب أهل السُنّة.
وثانياً: بأنَّ الوليد بن محمّد الموقّري يُضعَّف في الحديث.
وقال ابن المديني: ضعيف لا يكتب حديثه.
وقال الجوزجاني: كان غير ثقة، يروي عن الزهري عدّة أحاديث ليس لها أُصول.
وقال أبو زرعة الرازي: ليّن الحديث.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث.
وقال النسائي: ليس بثقة، منكر الحديث وقال مرةً: متروك الحديث.
وقال ابن خزيمة: لا يحتجّ به.
وقال ابن حبّان: روى عن الزهري أشياء موضوعة.
وقال أبو داود: ضعيف.
بل قال ابن معين ـ في رواية عنه ـ : كذّاب. وكذا قال غيره(4).
قلت:
وهذا الحديث عن الزهري!!
وأمّا «الزهري»، فقد ترجمنا له في بعض بحوثنا المنتشرة فلا نعيد.
وأمّا الطريق الثّاني:
فهو عن الشعبي عن الحارث عن عليّ عند الترمذي
وكذا عند ابن ماجة.
أمّا الشعبي، فقد ترجمنا له في بعض البحوث السابقة.
وأمّا الحارث، وهو «الحارث بن عبداللّه الأعور» فإليك بعض كلماتهم فيه:
قال أبو زرعة: لا يحتجّ بحديثه.
وقال أبو حاتم: ليس بقويّ ولا ممّن يحتجّ بحديثه.
وقال النسائي: ليس بالقويّ.
وقال الدار قطني: ضعيف.
وقال ابن عديّ: عامّة ما يرويه غير محفوظ.
بل وصفه غير واحد منهم بالكذب!
بل عن الشعبي ـ الراوي عنه ـ : كان كذّاباً!! وقد وقع هذا عندهم موقع الإشكال! كيف يكذّبه ثم يروي عنه؟! إنّ هذا يوجب القدح في الشعبي نفسه!
فقيل: إنّه كان يكذّب حكاياته لا في الحديث. وإنّما نقم عليه إفراطه في حبّ عليّ!(5).
قلت: إن كان كذلك، فقد ثبت القدح للشعبي، إذ الإفراط في حبّ عليّ لا يوجب القدح ولا يجوّز وصفه بالكذب، ومن هناترى أنّ غير واحد ينصّ على وثاقة الحارث.
هذا، ولا حاجة إلى النظر في حال رجال السندين إلى الشعبي، وإلاّ فإنّ «الحسن بن عمارة» عند ابن ماجة: قال الطيالسي: قال شعبة: ائت جرير بن حازم فقل له: لا يحلّ لك أن تروي عن الحسن بن عمارة فإنّه يكذب.
وقال ابن المبارك: جرحه عندي شعبة وسفيان، فبقولهما تركت حديثه.
وقال أبو بكر المروزي عن أحمد: متروك الحديث.
وقال ابن معين: لا يكتب حديثه وقال مرةً: ليس حديثه بشيء.
وقال عبداللّه بن المديني عن أبيه: كان يضع.
وقال أبو حاتم ومسلم والنسائي والدار قطني: متروك الحديث.
وقال النسائي: ليس بثقة ولا يكتب حديثه.
وقال الساجي: ضعيف متروك، أجمع أهل الحديث على ترك حديثه.
وقال الجوزجاني: ساقط.
وقال جزرة: لا يكتب حديثه.
وقال ابن المبارك عن ابن عيينة: كنت إذا سمعت الحسن بن عمارة يحدّث عن الزهري جعلت إصبعيَّ في أذنيَّ.
وقال ابن سعد: كان ضعيفاً في الحديث.
وقال يعقوب بن شيبة: متروك الحديث وقال ابن حبان، كان بلية الحسن التدليس عن الثقات ما وضع عليهم الضعفاء.
وقال السهيلي: ضعيف بإجماع منهم(6).
قلت: فهذا حال هذا الرجل الذي روى عنه ابن ماجة! وروى عنه سفيان مع علمه بهذه الحال! وإذا كان سفيان جارحاً له فكيف يروي عنه؟! ألا يوجب ذلك القدح في سفيان كذلك وسقوط جميع رواياته عنه؟! وهذا الحديث من ذلك!
وأمّا الطريق الثالث:
فهو رواية عبداللّه، وفيه:
أوّلا: إنّه ممّا أعرض عنه أحمد بناءً على ما تقدَّم.
وثانياً: إنّ فيه الحسن بن زيد… قال ابن معين: ضعيف. وقال ابن عديّ: «أحاديثه عن أبيه أنكر ممّا روى عن عكرمة»(7).
قلت: وهذا الحديث من ذاك!
وثالثاً: إنّ لفظه يشتمل على «وشبابها» وهذا يختصُّ بهذا السند وهو كذب قطعاً.
وأمّا الحديث عن أنس
فهو الذي أخرجه الترمذي، وفيه:
«قتادة» وكان مدلِّساً، يرمى بالقدر، رأساً في بدعة يدعو إليها، حاطب ليل، حدّث عن ثلاثين رجلا لم يسمع منهم إلى غير ذلك ممّا قيل فيه(8).
و«أنس بن مالك» نفسه لا يجوز عندنا الاعتماد عليه، لا سيّما في مثل هذا الحديث، فقد ثبت كذبه في حديث الطائر المشويّ(9) وكتمه للشهادة بالحقّ حتى دعا عليه عليٌّ عليه السّلام، وهو مع الحقّ(10).
وأمّا حديث أبي جحيفة
فهو الذي أخرجه ابن ماجة، وفيه:
«عبد القدّوس بن بكر بن خنيس» قال ابن حجر: «ذكر محمود بن غيلان عن أحمد وابن معين وأبي خيثمة أنّهم ضربوا على حديثه»(11).
تتمّة
إنّه لا يخفى اختلاف لفظ آخر الحديث عن عليّ، ففي لفظ: «لا تخبرهما يا عليّ» وفي آخر: «لا تخبرهما يا عليّ ما داما حيّين» وفي ثالث لم يذكر هذا الذيل أصلا!
أمّا في الحديث عن أنس فلا يوجد أصلا… .
ولماذا نهى عليّاً من أن يخبرهما؟! ولماذا لم ينه أنس عن ذلك، بل بالعكس أمره بأن يبشّرهما ـ وعثمان ـ في حديث يروونه عنه وسيأتي نصّه في كلام العيني.
لم أجد ـ في ما بيدي من المصادر ـ لذلك وجهاً إلاّ عند ابن العربي المالكي فإنّه قال: «قال ذلك لعليٍّ ليقرّر عند تقدّمهما عليه»!! وأنّه «نهاه أن يخبرهما لئلاّ يعلما قرب موتهما في حال الكهولة»!!(12).
وهل كان يحتاج عليٌّ إلى الإقرار إن كان تقدّمهما عليه بحقّ؟!
وهل كان يضرّهما العلم بقرب موتهما في حال الكهولة؟! وهل كانا يخافان الموت؟! ولماذا؟!
هذا، ومن الأحاديث المقلوبة:
حديث: أصحابي كالنجوم فبأيّهم اقتديتم اهتديتم.
وحديث: سدّوا الأبواب إلاّ باب أبي بكر.
وقد أفردنا كلاًّ منهما ببحث خاص في هذه السلسلة.
واللّه نسأل أنْ يتقبّل منا هذا العمل وأنْ يوفّقنا لمّا يحبّ ويرضى، بجاه حبيبه محمّد وآله الطاهرين.
علي الحسيني الميلاني
(1) مجمع الزوائد 9 / 40 ـ 41 كتاب المناقب باب فيماورد من الفضل لأبي بكر وعمر وغيرهما من الخلفاء وغيرهم الأرقام 14359 ـ 14361، فيض القدير 1 / 118.
(2) لم يذكر في مادة «كهل» من معجم ألفاظ الحديث النبوي 6 / 70 إلاّ هذا المورد، وهو من حديث عبداللّه بن أحمد وليس لأحمد نفسه.
(3) أنظر: ترجمة أحمد في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 2 / 31.
(4) تهذيب التهذيب 11 / 131 ـ 132.
(5) أنظر: ذلك كلّه بترجمة الحارث من تهذيب التهذيب 2 / 134 ـ 135.
(6) أنظر: هذه الكلمات وغيرها بترجمته من تهذيب التهذيب 2 / 277 ـ 280.
(7) تهذيب التهذيب 2 / 256.
(8) أنظر: ترجمته في تهذيب التهذيب 8 / 307 ـ 309.
(9) حديث الطائر المشويّ من أشهر الأحاديث الدالّة على أفضلية أميرالمؤمنين عليه السلام وخلافته ، أخرجه عشرات الأئمة والعلماء الأعلام في كتبهم ، منهم : الترمذي والحاكم والطبراني وأبو نعيم والخطيب وابن عساكر وابن الأثير . راجع منها المستدرك 3 / 141 ـ 143 كتاب معرفة الصحابة باب مناقب أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب الأرقام 4650 و4651 وللتفصيل راجع كتابنا الكبير (نفحات الأزهار).
(10) كان ذلك في قضيّة مناشدة أميرالمؤمنين عليه السّلام الناس في رحبة الكوفة بأنّ من شهد منهم غدير خُمّ فليقم وليشهد، فشهد جماعة من الحاضرين وامتنع أنس في نفر منهم فدعا عليهم الإمام عليه السلام روى ذلك: ابن قتيبة والبلاذري وابن عساكر وآخرون راجع كتاب الغدير 1 / 387.
(11) تهذيب التهذيب 6 / 324.
(12) عارضة الأحوذي 13 / 132 ـ 133.