الإمام محمّد بن علي الجواد عليه السلام
(وكان ولده محمّد الجواد عليه السلام على منهاج أبيه في العلم والتقى والجود)
قال الحافظ سبط ابن الجوزي: «فصل ـ في ذكر ولده محمد الجواد . . . وكان على منهاج أبيه في العلم والتقى والجود»(1). وقال الصّفدي: «كان من سروات آل بيت النبوّة، زوّجه المأمون بابنته، وقدم على المعتصم فأكرمه وأجلّه، وكان من الموصوفين بالسخاء، ولذلك لقّب بالجواد، وهو أحد الأئمّة الاثني عشر»(2). وقال الذهبي: «كان يلقّب بالجواد وبالقانع وبالمرتضى. وكان من سروات آل بيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وكان أحد الموصوفين بالسّخاء، ولذلك لقّب بالجواد»(3).
وكان عليه السلام يروي الحديث عن أبيه عن آبائه عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان يُرجع إليه في معاني الأخبار وحقائق الأحكام، وقد روى الخطيب وغيره بترجمته عدّةً من ذلك(4)، وحكى الشيخ محمود الشيخاني القادري أنّه قد وقع لبعض الخلفاء أنّه لمّا مرض نذر على نفسه إن وهب اللّه له العافية أن يتصدّق بمال كثير، مبهماً، فعوفي، فأحضر الفقهاء واستفتاهم عن مقدار مال كثير، فكلٌّ قال شيئاً. فقال محمّد الجواد: إن كنت نويت الدنانير فتصدّق بثمانين ديناراً، أو الدراهم بثمانين درهماً. فقال الفقهاء: ما نعرف هذا في الكتاب ولا السنّة. فقال محمّد الجواد: بلى قال اللّه تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة)والنصر من أقسام العافية، فعدّوا وقائع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فإذا هي ثمانون»(5).
هذا، وأخباره وقضاياه الدالة على تفوّقه في العلم والتقى والجود كثيرة، إلاّ أنّ القوم لا يذكرون ذلك في كتبهم لئلاّ يعرف أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وتشتهر أحوالهم ومنازلهم . . . غير أنّهم يصرّحون: «وله حكايات وأخبار كثيرة»(6). بل إنّ كثيراً منهم لم يعنونوه في تواريخهم أصلاً!!
(ولمّا مات أبوه الرضا عليه السلام شغف به المأمون لكثرة علمه ودينه…)
أقول: أمّا يحيى بن أكثم المروزي، قاضي القضاة، فقد ترجموا له ووصفوه بالإمامة في الفقه والحديث، وذكروا أنّه كان من أهل الشرب واللواطة وغير ذلك من القبائح. وأمّا في الحديث فعن يحيى بن معين: كان يكذب، وعن ابن راهويه: ذاك الدجّال، وعن ابن الجنيد: يسرق الحديث، وعن أبي حاتم: فيه نظر. وذكروا أنّه تولّى ديوان الصدقات على الأضرّاء ولم يعطهم شيئاً(7) فهذا قاضي قضاتهم حسب تصريحاتهم!!
وأمّا القضيّة المذكورة فهي من جملة القضايا الثابتة التي لم ينقلها القوم ـ كما هي عادتهم ـ غير أنّ سبط ابن الجوزي أشار إليها وأسندها إلى الإماميّة حيث قال: «والإماميّة تروي خبراً طويلاً فيه أنّ المأمون لمّا زوّجه كان عمر محمّد الجواد سبع سنين وأشهر وأنّه هو الذي خطب خطبة النكاح، وأنّ العباسيّين شغبوا على المأمون ورشوا القاضي يحيى بن أكثم حتى وضع مسائل ليخطئ بها محمّد الجواد ويمتحنه، وإن الجواد خرج عن الجميع، وهو حديث طويل ذكره المفيد في كتاب الإرشاد، واللّه أعلم»(8).
وهنا قال ابن تيميّة: «وأمّا ما ذكره فإنّه من نمط ما قبله، فإنّ الرافضة ليس لهم عقل صريح ولا نقل صحيح، ولا يقيمون حقاً ولا يهدمون باطلاً، لا بحجّة وبيان ولا بيد وسنان. فإنّه ليس فيما ذكره ما يثبت فضيلة محمّد بن علي فضلاً عن ثبوت إمامته، فإنّ هذه الحكاية التي حكاها عن يحيى بن أكثم من الأكاذيب التي لا يفرح بها إلاّ الجهال، ويحيى بن أكثم كان أفقه وأعلم وأفضل من أن يطلب تعجيز شخص بأن يسأله عن محرم قتل صيداً، فإنّ صغار الفقهاء يعلمون حكم هذه المسألة، فليست من دقائق العلم ولا غرائبه، ولا ممّا يختص به المبرّزون في العلم. ثمّ مجرّد ما ذكره ليس إلاّ في تقسيم أحوال القاتل، ليس فيه بيان حكم هذه الأقسام، ومجرّد التقسيم لا يقتضي العلم بأحكام الأقسام».
أقول:
ما أكثر المطالب التي كذّبها الرجل بصراحة وأثبتناها والحمد للّه. ودلالة هذه القضية على كونه عليه السلام أعلم وأفقه من قاضي قضاتهم واضحة لا ينكرها إلاّ مكابر . . . والأعلميّة المطلقة تقتضي الإمامة المطلقة كما لا يخفى.
ثمّ إنّ العلاّمة (رحمه الله) قد اختصر الخبر، ولو راجع ابن تيميّة كتاب (الإرشاد) للمفيد البغدادي أو غيره من الكتب لوجد فيه بيان حكم الأقسام بطلب من المأمون، وأنّه سأل بعد ذلك ـ بطلب منه كذلك ـ يحيى بن أكثم عن مسألة، فاعترف يحيى بجهله بها وطلب من الإمام (عليه السلام)بيانها . . . ونحن نحيل القارئ إلى كتاب (الإرشاد) لئلاّ يطول بنا المقام(9).
(1) تذكرة خواص الأُمّة: 358، وسبط ابن الجوزي فقيهٌ حافظ مفسّر واعظ مؤرّخ، توجد ترجمته في: وفيات الأعيان 2 / 153، 142، المختصر في أخبار البشر، وتتمة المختصر، والعبر حوادث: 654، طبقات المفسرين 2 / 382 وغيرها.
(2) الوافي بالوفيات 4 / 100.
(3) تاريخ الإسلام، حوادث 220، ص 385.
(4) تاريخ بغداد 3 / 54، الوافي بالوفيات 4 / 106، الأئمّة الاثنا عشر: 103.
(5) الصراط السوي في مناقب آل بيت النبي ـ مخطوط.
(6) وفيات الأعيان 3 / 315.
(7) راجع: الجرح والتعديل 9 / 129، سير أعلام النبلاء 12 / 5، ميزان الاعتدال 4 / 361 وغيرها.
(8) تذكرة الخواص: 359.
(9) الإرشاد في معرفة حجج اللّه على العباد 2 / 281 ـ 288.