الإمام علي بن الحسين عليه السلام
(وكان علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام يصوم نهاره ويقوم ليله، ويتلو . . . وسجد حتّى حشى مساجده كخفّ البعير وسمّي ذا الثفنات، وسمّاه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) سيد العابدين)
قال ابن تيمية: «وأمّا علي بن الحسين، فمن كبار التابعين وساداتهم علماً وديناً، أخذ عن: أبيه، وابن عباس، والمسور بن مخرمة، وأبي رافع مولى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وعائشة، وأمّ سلمة، وصفيّة أُمّهات المؤمنين، وعن مروان بن الحكم، وسعيد بن المسيب، وعبد اللّه بن عثمان، وذكوان مولى عائشة، وغيرهم رضي اللّه تعالى عنهم.
وروى عنه: أبو سلمة بن عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والزهري، وأبو الزناد، وزيد بن أسلم، وابنه أبو جعفر.
قال يحيى بن سعيد: هو أفضل هاشمي رأيته في المدينة، وقال محمّد بن سعد في الطبقات: كان ثقة مأموناً كثير الحديث عالياً رفيعاً. وروي عن حمّاد بن زيد قال: سمعت علي بن الحسين ـ وكان أفضل هاشمي أدركته ـ يقول: يا أيّها الناس أحبّونا حبّ الاسلام، فما برح بنا حبّكم حتّى صار عاراً علينا. وعن شيبة بن نعامة قال: كان علي بن الحسين يبخل. فلمّا مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة في السرّ.
وله من الخشوع وصدقة السرّ وغير ذلك من الفضائل ما هو معروف، حتّى أنّه كان من صلاحه ودينه يتخطّى مجالس أكابر الناس ويجالس زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب ـ وكان من خيار أهل العلم والدين من التابعين ـ فيقال له: تدع مجالس قومك وتجالس هذا؟ فيقول: انّما يجلس الرجل حيث يجد صلاح قلبه.
وأمّا ما ذكره من قيام ألف ركعة، فقد تقدّم أنّ هذا لا يمكن إلاّ على وجه مكروه في الشريعة، أو لا يمكن بحال، فلا يصلح ذكره لمثل هذا في المناقب.
وكذلك ما ذكره من تسمية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم له سيّد العابدين، هو شيء لا أصل له. ولم يروه أحد من أهل العلم والدّين»(1).
أقول:
هذا كلّ ما ذكره الرجل حول الإمام السجاد (عليه السلام)أوردته بنصّه، فأقول:
أوّلا: لقد سكت عن بعض ما ذكره العلاّمة، وسكوته دليل القبول، لكن نفسه لم تسمح له بالتّصريح. نعم لقد كان الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)أعبد أهل زمانه عند الخاصّ والعامّ، يصوم نهاره، ويقوم ليله، ويتلو الكتاب العزيز، ويدعو بالأدعية المنقولة . . . ثمّ يرمي الصحيفة كالمتضجّر . . . وكان يبكي كثيراً . . . وسجد حتّى حشى مساجده . . . وعن كلّ هذا سكت الرّجل، وكلّه ثابت سواء قبل أو أنكر . . .
وسكت أيضاً عن قضيّة استلامه الحجر بعد أن لم يمكن ذلك لهشام، وشعر الفرزدق في هذه القضية . . . وأنّى له أو لغيره انكار قضيّة تجاوزت حدّ الرّواية وعدّت من ضروريّات التاريخ!!
وثانياً: لقد اعترف بكون الإمام (عليه السلام) من كبار التابعين وساداتهم علماً وديناً، ونقل كلمات عن بعض أكابر القوم في الثناء عليه.
وأقول: إنّ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) إمام معصوم منصوص عليه، والأدلّة النقلية والعقليّة على إمامته كثيرة مذكورة في محلّها، فعدّه من «التابعين» إنّما هو على اصطلاح أهل السنّة.
ولقد كان بإمكان الرجل نقل كلمات أُخرى، لكن منعه عن ذلك بغضه وعناده، وإلاّ، فقد أطنب في موارد كثيرة بأباطيل وأكاذيب، وربّما كرّر المطلب الواحد أكثر من مرّة، وربّما تعرّض في مواضع لبحوث خارجة عن المقصود فيها، بل لم تسمح له نفسه بإيراد كلّ ما نقله محمّد بن سعد وأبو نعيم الحافظ بترجمته من الطبقات والحلية، فنقل عنهما بعض ما ورد فيهما.
وثالثاً: لقد أنكر ما ذكره العلاّمة من صلاة الإمام في اليوم والليلة ألف ركعة، وما ذكره من تسمية رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) له سيّد العابدين وقال: «هو شيء لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل العلم والدين».
أقول:
أمّا الصّلاة ألف ركعة في كلّ يوم وليلة، فكان ذلك عمله كأبيه وجدّه . . . والتكذيب به عداء وعناد وتعصّب، وقد أقرّ به غير واحد من حفّاظ أهل السنّة كما تقدّم.
وأمّا تسمية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إيّاه سيّد العابدين، فذاك مرويّ عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتب الفريقين، وممّن رواه من العامة الحافظ سبط ابن الجوزي عن المدائني عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال لأبي جعفر محمّد بن علي (عليه السلام): «رسول اللّه يسلّم عليك، فقيل لجابر: وكيف هذا؟ فقال: كنت جالساً عند رسول اللّه والحسين في حجره هو يداعبه، فقال: يا جابر يولد له ولد اسمه علي، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيّد العابدين، فيقوم ولده، ثمّ يولد له ولد اسمه محمّد، فإن أدركته يا جابر فاقرأه منّي السّلام: «وكفاه شرفاً أن ابن المديني روى عن جابر أنّه قال له ـ وهو صغير ـ: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يسلّم عليك. فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: كنت جالساً . . .»(2). ورواه أبو عمرو الزاهد في كتابه (اليواقيت) عن الزهري، وفي الحلية: «وكان الزهري إذا ذكر علي بن الحسين يبكي ويقول: زين العابدين»(3).
ولقد جاء وصفه (عليه السلام): بـ«سيّد العابدين» أو «زين العابدين» في سائر الكتب المذكورة فيها أحواله وترجمته مثل: وفيات الأعيان 2 / 429، حلية الأولياء 3 / 133، طبقات ابن سعد 5 / 156 تذكرة الحفّاظ 1 / 74، تهذيب التهذيب 7 / 304، طبقات الحفاظ: 37، طبقات القراء 1 / 534.
فهل يكفي هذا القدر لبيان كذب الرجل؟!
ورابعاً: لقد ذكر أشياء لا بدّ من التحقيق حولها:
أخذه عن أبيه وابن عبّاس و . . . فإنّ الإمام زين العابدين (عليه السلام)أخذ عن أبيه الإمام الحسين الشهيد (عليه السلام)، والحسين السبط أخذ عن والده أمير المؤمنين، وهو عن رسول ربّ العالمين (صلى الله عليه وآله وسلم) . . . وبحسب السجّاد أخذه عن والده، فإنّه حينئذ وارث علوم سيد النبيّين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وغنيّ عن الأخذ عن غيره، لأنّ الذين ذكرهم لم يدانوه في العلم والفضل أصلاً، بل فيهم من لا يعدّ من أهل العلم، ولا ريب في أنّ أفضل من ذكر اسمه ـ بعد الحسين (عليه السلام) ـ هو ابن عبّاس، لكنّ كلّ ما عنده من العلم فمأخوذ عن علي والحسنين عليهما السلام وهو بعض ما ورثه السجّاد عنهم… .
ومن الإفك: ما ذكره من أنّه أخذ عن عائشة ومروان بن الحكم، فإنّ كلّ عاقل يعلم بأن لا نسبة بينه وبينهما في العلم والفضيلة، ومع ما كان منهما بالنسبة إلى جدّه أمير المؤمنين وعمّه الحسن السّبط الأكبر عليهما السلام، وما ورد في مروان بن الحكم اللعين ابن اللعين!!
كما أنّ ما ذكره من أنّه كان يتخطّى مجالس أكابر الناس . . . كذب واضح، ولو كان هناك مجالسة بينهما، فإنّ الأمر بالعكس، فقد عدّ زيد بن أسلم في كتبنا في أصحاب السجاد (عليه السلام)، كما أنّ الرجل نفسه عدّه فيمن أخذ عنه (عليه السلام)، واللفظ الذي رواه الحافظ أبو نعيم: «كان علي بن الحسين يتخطّى حلق قومه حتّى زيد بن أسلم فيجلس عنده، فقال: إنّما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه»(4) فهو الذي كان ينفع زيداً ـ بناءً على صحّة هذا الخبر ـ لأنّه كان يقول: «من كتم علماً أحداً أو أخذ عليه أجراً رفداً فلا ينفعه أبداً»(5).
أقول:
وكم كذبوا على هذا الإمام كما كذبوا على آبائه وأبنائه؟! فلقد جاء في أصحّ كتبهم ـ أعني البخاري ـ «وقال علي بن الحسين: يعني مثنى أو ثلاث أو رباع» قال شرّاحه:
«وهذا من أحسن الأدلّة في الردّ على الرافضة، لكونه من تفسير زين العابدين، وهو من أئمتهم الذين يرجعون إلى قولهم ويعتقدون عصمتهم»(6).
وحاصله نسبة القول بجواز التزوّج بما يزيد على الأربع إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وهي نسبة كاذبة لا أساس لها من الصحّة أبداً. بل الأمر بالعكس، فإنّ القول بجواز التزوّج بما يزيد على الأربع منسوب إلى غير واحد من كبار فقهاءهم مستدلّين بالآية المباركة; كما لا يخفى على من راجع: تبيين الحقائق للزيلعي الحنفي 1 / 143 ونيل الأوطار للشوكاني 6 / 169، بل فيهم من قال بجواز التزوّج بأيّ عدد شاء من النساء. وذكره النيسابوري بتفسير الآية من تفسيره غرائب القرآن 4 / 172.
وكان قد حجّ هشام بن عبد الملك، فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه للزحام، فجاء زين العابدين (عليه السلام)، فوقف الناس له، وتنحّوا عن الحجر حتى استلمه . . .
أقول:
قد ذكرت هذه القصة والقصيدة في كثير من مؤلَّفات الفريقين، ونحن نكتفي بذكر عدّة من كتب أهل السنّة فقط:
حلية الأولياء لأبي نعيم الإصفهاني 3 / 139. تذكرة خواص الأُمّة لسبط ابن الجوزي الحنفي: 329. وفيات الأعيان لابن خلكان 2 / 200. صفة الصفوة لابن الجوزي الحنبلي 2 / 55. تاريخ ابن كثير 9 / 108. مرآة الجنان، لليافعي 1 / 239. مطالب السئول، لابن طلحة الشافعي: 64. حياة الحيوان، للدميري 1 / 9. شذرات الذهب، لابن العماد الحنبلي 1 / 142. زهر الآداب، للقيرواني 1 / 102. شرح شواهد مغني اللبيب، للسيوطي: 249. كفاية الطالب، للكنجي الشافعي: 303. شرح الحماسة، للتبريزي 4 / 82. الفصول المهمة، لابن الصبّاغ المالكي: 193. الصواعق المحرقة، لابن حجر: 120. قصص العرب، لأحمد جاد المولى 2 / 254. جواهر الأدب، لأحمد الهاشمي 2 / 15. نور الأبصار، للشبلنجي: 193.
وقد أورد ذلك ابن تيميّة، ولم يتكلَّم عليه بشيء!!
هذا، والفرزدق هو: همام بن غالب الدارمي التميمي البصري، كنيته: أبو فراس، ولد سنة: 19، قدّمه أئمّة الأدب على مثل جرير والأخطل، وقال بعضهم: لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب. اشتهر أخيراً بتجاهره بحبّ أهل البيت (عليهم السلام)ودفاعه عنهم، وقصيدته الرائعة المشهورة من أقوى الشواهد على إيمانه بإمامتهم وولايتهم بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال السيد المرتضى: كان الفرزدق قد نزع في آخر عمره عمّا كان عليه من القذف والفسق، وراجع طريقة الدين، على أنّه لم يكن في خلال فسقه منسلخاً عن الدين جملة ولا مهملاً أمره أصلاً. وتوفي بالبصرة سنة: 110 وقد قارب المائة. توجد ترجمته في: أمالي المرتضى 1 / 62، الأغاني 21 / 229، الدرجات الرفيعة: 541، معجم الأُدباء 7 / 252، خزانة الأدب 1 / 202، شذرات الذهب 1 / 141 وغيرها.
(وكان بالمدينة قوم يأتيهم رزقهم ليلاً ولا يعرفون ممّن هو، فلمّا مات زين العابدين انقطع ذلك عنهم، وعرفوا أنّه منه (عليه السلام))
وهذا ممّا اعترف به ابن تيميّة أيضاً، واتّفقت عليه كلمة المؤرّخين من الفريقين، كما لا يخفى على من راجع حلية الأولياء لأبي نعيم الحافظ 3 / 139 وصفة الصفوة للحافظ أبي الفرج ابن الجوزي 2 / 70 وغيرهما.
(1) منهاج السنة 2 / 123.
(2) الصواعق المحرقة: 120.
(3) حلية الأولياء 3 / 135.
(4) حلية الأولياء 3 / 138.
(5) حلية الأولياء 3 / 140.
(6) فتح الباري 11 / 41، إرشاد الساري 8 / 26، عمدة القاري 20 / 91. وقد وصفوه بـ«زين العابدين» على رغم أنف المعاندين والحاسدين!