الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام
(وكان ابنه الصادق عليه السلام أفضل أهل زمانه وأعبدهم)
قال ابن تيميّة: «وجعفر الصّادق ـ رضي اللّه عنه ـ من خيار أهل العلم والدّين. أخذ العلم عن جدّه أبي أُمّه أُمّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق، وعن محمّد بن المنكدر، ونافع مولى ابن عمر، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم. وروى عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري، مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وابن جريج، وشعبة، ويحيى بن سعيد القطّان، وحاتم بن إسماعيل، وحفص بن غياث، ومحمّد بن إسحاق بن يسار. وقال عمرو بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النبيّين . . .»
أقول:
لم يلتفت الرجل إلى كلمة العلامة: «أفضل أهل زمانه وأعبدهم» لا بالنفي ولا بالإثبات . . . ولنورد كلمات عدّة من أئمة القوم تأكيداً لما ذكره العلاّمة (رحمه الله):
قال إمامهم مالك بن أنس: «جعفر بن محمّد، اختلفت إليه زماناً، فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال، إمّا مصلّ وإمّا صائم وإمّا يقرأ القرآن، وما رأيته يحدّث إلاّ عن طهارة»(1).
وقال إمامهم أبو حنيفة: «ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد. لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة: انّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمّد، فهيّئ له من المسائل الشّداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر ـ وهو بالحيرة ـ فأتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمّد جالس عن يمينه، فلمّا أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمّد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت عليه وأومأ إليّ، فجلست، ثم التفت إليه فقال: يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة. قال جعفر: نعم ثمّ أتبعها قد أتانا ـ كأنّه كره ما يقول فيه قوم انّه إذا رأى الرجل عرفه ـ ثمّ التفت المنصور إليّ فقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد اللّه من مسائلك. فجعلت ألقي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا. فربّما تبعناهم وربّما خالفنا جميعاً. حتّى أتيت على الأربعين مسألة. ثمّ قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس»(2).
وقال ابن حبّان: «كان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلاً»(3).
وقال أبو حاتم محمّد بن إدريس الرازي: «لا يسأل عن مثله»(4).
وقال ابن خلّكان: «كان من سادات آل البيت، ولقّب بالصادق لصدقه، وفضله أشهر من أن يذكر»(5).
وقال أبو الفرج ابن الجوزي: «كان مشغولاً بالعبادة عن حبّ الرئاسة»(6).
وقال أبو الفتح الشهرستاني: «جعفر بن محمّد الصادق، هو ذو علم وأدب كامل في الحكمة، وزهد في الدنيا وورع تامّ عن الشهوات. وقد أقام بالمدينة مدّةً يفيد الشيعة المنتمين إليه ويفيض على الموالين له أسرار العلوم. ثمّ دخل العراق وأقام بها مدّةً، ما تعرّض للإمامة قط، ولا نازع في الخلافة أحداً. ومن غرق في بحر المعرفة لم يقع في شط، ومن تعلّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط»(7).
وقال أبو نعيم: «جعفر بن محمّد الإمام الناطق، ذو الزّمام السابق، أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق، أقبل على العبادة والخضوع. وآثر العزلة والخشوع. ونهى عن الرئاسة والجموع»(8).
وقال النّووي: «اتفقوا على إمامته وجلالته»(9).
وأمّا الذين ذكر أنّهم أخذوا عنه فهم بعض من كلّ، كما لا يخفى على من راجع ترجمته في الكتب المذكورة وغيرها. وأمّا أخذه عن الذين ذكرهم فكذب، وممّا يوضّح كذبه دعواه الأخذ عن الزّهري الذي عرفت حاله.
(وقال علماء السّيرة: إنّه اشتغل بالعبادة عن طلب الرئاسة)
قال ابن تيميّة: «وأمّا قوله: اشتغل بالعبادة عن الرئاسة، فهذا تناقض من الإمامية، لأنّ الإمام عندهم واجب أن يقوم بها وبأعبائها، فانّه لا إمام في وقته الاّ هو. فالقيام بهذا الأمر أعظم لو كان واجباً وأولى من الاشتغال بنوافل العبادات».
أقول:
إنّ الإمام المنصوص عليه بالإمامة يجب عليه قبولها والقيام بأعبائها متى ما أقبل عليه المسلمون وبايعوه وطلبوا منه ذلك، لكنّ هذا لم يكن من الناس، وعلى الجملة، فإنّ الحكومة والرئاسة من شئون الإمام الحق، فإن تمكّن منها وجبت عليه وإلاّ لم تجب عليه المطالبة بها، كما هو الحال بالنسبة إلى النبي.
وفي كلمات أئمة أهل البيت ممّا يشهد بذلك كثير، ومن ذلك كلمات الأمير (عليه السلام) في (نهج البلاغة). ثمّ إنّ الذي ذكره العلاّمة لم يكن منقولاً عن الإمامية حتى يكون تناقضاً منهم، بل إنّه قال: «قال علماء السّيرة . . .» وقد وجدت هذا القول في الكلمات التي نقلناها، في عبارة ابن الجوزي، وأبي نعيم، والشهرستاني . . . لكن الرّجل نسب هذا إلى العلاّمة نفسه قائلاً: «وأمّا قوله . . .» حتّى يشكل بالتناقض على زعمه!!
(قال عمرو بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النبيّين)
هذا مذكور بترجمة الإمام أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، عن عمرو بن أبي المقدام، في سائر كتب الرجال والحديث المعتبرة عند القوم. فراجع منها: تهذيب الكمال، وتهذيب التهذيب، وتهذيب الأسماء واللغات.
(وهو الذي نشر فقه الإماميّة والعقائد اليقينيّة)
أشار إلى ذلك أبو الفتح عبد الكريم الشهرستاني في كلامه المتقدّم، وقال اليافعي بترجمته: «له كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها. قد ألّف تلميذه جابر بن حيّان الصوفي كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة»(10) وقال الآلوسي «هذا أبو حنيفة ـ وهو من أهل السنّة ـ يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السّنتان لهلك النعمان» يعني اللتين جلس فيهما لأخذ العلم من الإمام جعفر الصادق»(11).
لكنّ الرّجل لم يفهم مغزى هذا الكلام فقال: «وأمّا قوله: هو الذي نشر فقه الإمامية والمعارف الحقيقية والعقائد اليقينية. فذا الكلام يستلزم أحد أمرين: إمّا أنّه ابتدع في العلم ما لم يكن يعلمه من قبله. وإمّا أن يكون الذي قبله قصّر فيما يجب من نشر العلم. وهل يشكّ عاقل أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بيّن لأُمّته المعارف الحقيقية والعقائد اليقينية أكمل بيان، وأن أصحابه تلقّوا عنه ذلك وبلّغوه إلى المسلمين؟ وهذا يقتضي القدح إمّا فيه وإمّا فيهم، بل هو كذب، فقد كذب على جعفر الصادق، أكثر ممّا كذب على من قبل، فالآفة وقعت من الكذّابين عليه لا منه».
أقول:
باللّه عليك! أيّ شيء قاله العلاّمة حتّى تتوجّه إليه هذه التّهم والإفتراءات؟ يقول العلاّمة: إنّ الصادق (عليه السلام) «نشر المعارف الحقيقية والعقائد اليقينية» وكلّ من يكون من أهل اللّسان ـ وليس في قلبه مرض ـ يفهم من هذا الكلام أنّ الصادق (عليه السلام)علّم وبيّن وشرح وبلّغ المعارف الحقيقية والعقائد اليقينية التي كان قد جاء بها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتعلّمها منه عن طريق آبائه، فلا هو ابتدع أشياء، ولا أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)قصّر . . . ولا قدح فيه ولا في أصحاب الرّسول الذين تعلّموا منه شيئاً وبلّغوا ما تعلّموا كما تعلّموا . . .
(وكان لا يخبر بأمر إلاّ وقع، وسمّوه الصادق الأمين)
وحياته سلام اللّه عليه مليئة بالوقائع من هذا القبيل، فقد كان صادقاً، «مستجاب الدّعوة إذا سأل اللّه شيئاً لا يتمّ قوله إلاّ وهو بين يديه»(12)، ولا يخبر بشيء إلاّ وقع، ومن ذلك ما ذكره العلاّمة من أمر العلويين.
(وكان عبد اللّه بن الحسن عليه السلام جمع أكابر العلويين للبيعة لولديه…)
روى أبو الفرج الإصفهاني بسنده عن عمر بن شبّة بأسانيده: أنّ جماعةً من بني هاشم اجتمعوا بالأبواء وفيهم: إبراهيم بن محمّد بن علي بن عبد اللّه بن العبّاس، وأبو جعفر المنصور، وصالح بن علي، وعبد اللّه بن الحسن بن الحسن، وإبناه محمّد وإبراهيم، ومحمّد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان . . . فبايعوا جميعاً محمّداً ]ابن عبد اللّه بن الحسن [وأُرسل بذلك إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال عبد اللّه بن الحسن: لا نريد جعفراً لئلاّ يفسد عليكم أمركم . . . وجاء جعفر، فأوسع له عبد اللّه بن الحسن إلى جنبه فقال: لا تفعلوا، فإنّ هذا الأمر لم يأت بعد، فغضب عبد اللّه وقال: لقد علمت خلاف ما تقول، وواللّه ما أطلعك اللّه على غيبه، ولكن يحملك على هذا الحسد لابني، فقال: واللّه ما ذاك يحملني، ولكن ذا واخوته وأبناؤهم دونكم ـ وضرب بيده على ظهر أبي العبّاس، ثمّ ضرب بيده على كتف عبد اللّه بن الحسن وقال: إنّها ـ واللّه ـ ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنّها لهم، وإنّ ابنيك لمقتولان، ثمّ نهض وتوكّأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال: أرأيت صاحب الرداء الأصفر ـ يعني أبا جعفر ـ؟ قال: نعم. قال: فإنا ـ واللّه ـ نجده يقتله. قال له عبد العزيز: أيقتل محمّداً؟ قال: نعم. قال: فقلت في نفسي: حسده وربّ الكعبة. قال: ثمّ واللّه ما خرجت من الدنيا حتّى رأيته قتلهما. قال: فلما قال جعفر ذلك نفض القوم فافترقوا ولم يجتمعوا بعدها. وتبعه عبدالصد وأبو جعفر فقالا: يا أبا عبد اللّه أتقول هذا؟ قال: نعم أقوله واللّه وأعلمه»(13).
(1) تهذيب التهذيب 2 / 89.
(2) جامع مسانيد أبي حنيفة 1 / 222، تذكرة الحفاظ 1 / 157.
(3) الثقات وعنه تهذيب التهذيب 2 / 89.
(4) تهذيب التهذيب 2 / 88.
(5) وفيات الأعيان 1 / 291.
(6) صفة الصفوة 2 / 94.
(7) الملل والنحل 1 / 147.
(8) حلية الأولياء 3 / 192.
(9) تهذيب الأسماء واللغات 1 / 155.
(10) مرآة الجنان وعبرة اليقظان 1 / 304.
(11) مختصر التحفة الإثنا عشرية: 8.
(12) نور الأبصار: 295.
(13) مقاتل الطالبيين 184 ـ 187 ملخصاً. وعنه الشيخ المفيد في الارشاد ومصادر أُخرى.