الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام
(وكان ولده الحسن العسكري عليه السلام عالماً فاضلاً زاهداً أفضل أهل زمانه. روت عنه العامّة كثيراً)
قال ابن تيميّة: «فهذه من نمط ما قبله من الدعاوي المجرّدة والأكاذيب البيّنة، فإنّ العلماء المعروفين بالرواية الذين كانوا في زمن الحسن بن علي العسكري ليس لهم عنه رواية مشهورة في كتب أهل العلم، وشيوخ أهل الكتب الستّه: البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة كانوا موجودين في ذلك الزمان وقريباً منه قبله وبعده. وقد جمع الحافظ أبو القاسم ابن عساكر أخبار شيوخ النبل ـ يعني شيوخ هؤلاء الأئمّة ـ فليس في هؤلاء الأئمّة من روى عن الحسن بن علي العسكري مع روايتهم عن أُلوف مؤلَّفة من أهل الحديث، فكيف قال: «روت عنه العامّة كثيراً»؟ وأين هذه الروايات؟ وقوله: «انّه كان أفضل أهل زمانه هو من هذا النمط».
أقول:
هو: مولانا الإمام الزكي الحسن ابن الإمام عليّ الهادي ابن الإمام محمّد الجواد ابن الإمام علي الرّضا . . . عليهم الصّلاة والسلام.
ولقّب بـ«العسكري» لكونه سكن «العسكر» مع والده، وكان الإمام من بعد والده الذي اغتاله المعتمد العبّاسي بالسّم.
وقد لاقى الإمام (عليه السلام) منذ نشأته في حكومة المتوكّل إلى آخر أيّامه ما لاقاه والده (عليه السلام)، من صنوف الظّلم وألوان الجور، بل كان زمانه أشدّ وأظلم، فقد كان المستعين مبغضاً لأهل البيت (عليهم السلام)، حتّى أنّه أودعه السجن مدّةً من الزمن، بعد أن كانت داره تحت الضغط والمراقبة الشّديدة، بل قيل إنّه كان عازماً على قتله، بأن أمر بعض خدّامه بحمل الامام (عليه السلام) إلى الكوفة واغتياله في الطريق كيلا يعلم أحد بواقع الأمر، لكنّ اللّه شاء أن يكون قتل المستعين على يد ذاك الخادم . . . ثمّ تولّى المعتز ابن المتوكّل، وقد ورث من آبائه العداء والنصب لعترة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعاد وأودع الإمام (عليه السلام)السّجن، وما مضت إلاّ برهة من الزمن حتّى قتل على يد الأتراك وخلص الإمام من السجن. ثمّ تسلّم المهتدي زمام الأمر وهو ـ كآبائه ـ على أشدّ البغض والنصب لآل النبي، فأمر باعتقال الإمام، وقصد قتله في السجن، لكنّ اللّه لم يمهله، إذ هجم عليه الأتراك بالخناجر وقتلوه وسفكوا دمه، وأراح اللّه منه. فجاء المعتمد، وهو أيضاً على سيرة المتقدّمين عليه، فأمر باعتقال الإمام، حتى إذا اطمأنَّ من أن لا قصد للإمام بالقيام ضدّه أمر باطلاق سراحه من السجن، لكنّه بقي في الدار تحت المراقبة الشديدة، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى وجنّة المأوى سنة 260 وله من العمر ثمان وعشرون سنة، ودفن إلى جنب والده في الدار، حيث المشهد العظيم الذي ينتابه المؤمنون إلى هذا اليوم.
وهكذا عاش الإمام العسكري هذا العمر القصير . . .
فالإنصاف، أنّ هذا القدر الذي وصل إلينا من أحاديث الإمام العسكري (عليه السلام)وأخباره مع قصر عمره الشريف، الذي قضاه في السجون، وتحت المراقبة، مع منع الناس من الدخول عليه ونشر حديثه، ومطاردة أصحابه وأقربائه، لكثير كثير . . .!!
وإنّ من الواضح أن لا يقصد أتباع أُولئك الطواغيت الإمام (عليه السلام)للأخذ منه والرّواية عنه، مع ما في ذلك من تعريض النّفس للخطر… .
ثمّ جاء الذين ساروا على منهاج الملوك في العداء والنصب لأهل البيت ـ هؤلاء الذين لا تلتام جراحات ألسنتهم وأقلامهم ـ وجعلوا يتطاولون على شأن الإمام ومقامه العظيم، وينكرون كلّ شيء، حتّى هذا القدر المنقول الموجود في كتب الفريقين من أخباره وأحاديثه . . . الدالّ على علمه وجلالته وكونه أفضل أهل زمانه.
يريد النواصب ليطفئوا نور اللّه . . . قوم بالمحاربة والقتل والتعذيب، وقوم بعدم الرواية والنقل، وقوم بالإنكار والتكذيب . . . ويأبى اللّه الاّ أن يتمّ نوره… .
فالملوك لم يفسحوا المجال للامام (عليه السلام) لأنّ يتّصل به العلماء والنّاس، ويستفيدوا من علومه ويستضيئوا بنوره، فقد كانت أيّامه قليلة ومضى أكثرها في السّجون . . . وعجيبٌ أمر هؤلاء . . . فإنّهم عندما يسئلون عن السّبب في قلّة الرواية عن كبار الصحابة ـ لاسيما الثلاثة ـ في تفسير القرآن وبيان الأحكام، قالوا: إنّ السّبب تقدم وفاتهم. قال السيوطي: «أمّا الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب، والرواية عن الثلاثة نزرة جداً، وكأنّ السبب في ذلك تقدّم وفاتهم، كما أنّ ذلك هو السبب في قلة رواية أبي بكر للحديث، ولا أحفظ عن أبي بكر في التفسير إلاّ آثاراً قليلةً لاتكاد تتجاوز العشرة، وأمّا علي فروي عنه الكثير . . .»(1).
فهكذا يعتذرون لأوليائهم، وهو عذر باطل غير مقبول، أمّا بالنسبة إلى مثل الإمام العسكري فلا يعتذرون بما هو الثابت الحق، بل لسانهم يطول… .
ويقول الرجل: إن أحداً من مشايخ الحديث البخاري وغيره لم يرو عن الإمام العسكري (عليه السلام)، إلاّ أنّه لا يذكر السّبب في ذلك . . . وهو ما أشرنا إليه . . . فعدم روايتهم عنه كان لسوء حظّهم وعدم توفيقهم، ولا دلالة فيه على ضعف في الإمام (عليه السلام)ـ والعياذ باللّه ـ بشيء من الدلالات . . . مع أنّهم يقولون بإمامة البخاري بل يجعلونه إمام أئمّتهم، والحال أنّ أئمّة عصره وفي بلده حرّموا السّماع منه والرواية عنه وأخرجوه من البلد وطردوه:
فقد حكى الذهبي عن الحاكم قال: «سمعت محمّد بن يعقوب الحافظ يقول: لمّا استوطن البخاري نيسابور أكثر مسلم بن الحجّاج الإختلاف إليه، فلما وقع بين الذهلي وبين البخاري ما وقع في مسألة اللفظ ونادى عليه ومنع الناس عنه، انقطع عنه أكثر الناس غير مسلم، فقال الذهلي يوماً: ألا من قال باللفظ فلا يحلّ له يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم ردائه فوق عامته وقام على رؤوس الناس، وبعث إلى الذهلي ما كتب عنه على ظهر حمّال، وكان مسلم يظهر القول باللفظ ولا يكتمه.
قال: وسمعت محمّد بن يوسف المؤذّن، سمعت أبا حامد ابن الشرفي يقول: حضرت مجلس محمّد بن يحيى فقال: ألا من قال لفظي بالقرآن مخلوق فلا يحضر مجلسنا، فقام مسلم بن الحجاج عن المجلس. رواها أحمد بن منصور الشيرازي عن محمّد بن يعقوب فزاد: وتبعه أحمد بن سلمة.
قال أحمد بن منصور الشيرازي: سمعت محمّد بن يعقوب الأخرم: سمعت أصحابنا يقولون: لمّا قام مسلم وأحمد بن سلمة من مجلس الذهلي قال: لا يساكنني هذا الرجل في البلد، فخشي البخاري وسافر»(2).
ثمّ إنّ العلامة (رحمه الله) من كبار العلماء في معرفة الرجال وأصحاب الأئمّة، وله في ذلك كتب، وقوله: «روت عنه العامّة كثيراً» ليس جزافاً، وقد ذكر أسماء جماعة كبيرة من أصحاب الإمام العسكري في كتابه (الخلاصة في علم الرجال) وكثيرون منهم من العامّة.
وبعد، فهذه أخبار وروايات وأقوال في كتب غير الشيعة تؤكّد قول العلاّمة: «كان عالماً فاضلاً زاهداً أفضل أهل زمانه، روت عنه العامة كثيراً»:
قال الحافظ أبو نعيم: «أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني القاضي أبو الحسن علي بن محمّد بن علي بن محمّد القزويني ببغداد، قال: أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني محمّد بن أحمد بن عبد اللّه بن قضاعة قال: أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني القاسم بن العلاء الهمداني، قال: أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني الحسن بن علي بن محمّد بن الرضا، قال: أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني أبي علي بن محمّد، أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني أبي محمّد بن علي قال: أشهد باللّه وأشهد للّه لقد حدّثني أبي علي بن موسى قال: أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني أبي موسى بن جعفر قال: أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني أبي جعفر ابن محمّد قال: أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني أبي محمّد بن علي قال: أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني أبي علي بن الحسين قال: أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني أبي الحسين بن علي قال: أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني أبي علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه تعالى عنهم ـ قال: أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد حدّثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: أشهد باللّه وأشهد للّه، لقد قال لي جبريل عليه السلام يا محمّد، ان مدمن الخمر كعابد الأوثان.
هذا حديث صحيح ثابت، روته العترة الطيبة، ولم نكتبه على هذا الشرط بالشهادة باللّه وللّه إلاّ عن هذا الشيخ»(3).
وقال الحافظ سبط ابن الجوزي: «وكان عالماً ثقةً. روى الحديث عن أبيه عن جدّه. ومن جملة مسانيده حديثٌ في الخمر عزيز، ذكره جدّي أبو الفرج في كتابه المسمّى بـ(تحريم الخمر) ونقلته من خطّه وسمعته يقول:
أشهد باللّه لقد سمعت أبا عبد اللّه الحسين بن علي يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت عبد اللّه بن عطا الهروي يقول أشهد باللّه لقد سمعت عبد الرحمن بن أبي عبيد البيهقي يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت أبا عبد اللّه الحسين بن محمّد الدينوري يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت محمّد بن علي بن الحسين العلوي يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت أحمد بن عبيد اللّه السبيعي ]الشيعي[ يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت الحسن بن علي العسكري يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت أبي علي بن محمّد يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت أبي محمّد بن علي بن موسى الرضا يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت أبي علي بن موسى يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت أبي موسى يقول: أشهد باللّه لقد سمعت أبي جعفر بن محمّد يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت أبي محمّد بن علي يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت أبي علي بن الحسين يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت أبي الحسين بن علي يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت أبي الحسين بن علي يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت أبي علي بن أبي طالب يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت جبرائيل يقول: أشهد باللّه لقد سمعت ميكائيل يقول: أشهد باللّه، لقد سمعت إسرافيل يقول: أشهد باللّه على اللّوح المحفوظ أنّه قال: سمعت اللّه يقول: شارب الخمر كعابد وثن.
ولما روى جدّي هذا الحديث في كتاب (تحريم الخمر) قال، قال أبو نعيم الفضل بن دكين: هذا حديث صحيح ثابت، روته العترة الطبة الطاهرة، ورواه جماعة عن رسول اللّه . . .»(4).
وقال الحافظ ابن حجر: «ذ ـ أحمد بن عبد اللّه الشيعي ـ حدّث عن الحسن بن علي العسكري. ثمّ ذكر بسند له مسلسل بـ«أشهد باللّه» إلى أن وصل إلى محمّد بن علي بن الحسين بن علي قال: أشهد باللّه، لقد حدّثني أحمد بن عبد اللّه الشيعي البغدادي قال: أشهد باللّه، لقد حدّثني الحسن بن علي العسكري قال: أشهد باللّه، لقد حدّثني أبي علي بن محمّد، أشهد باللّه، لقد حدّثني أبي محمّد بن علي بن موسى الرضا. فذكره مسلسلاً بآباء علي بن موسى إلى علي قال: أشهد باللّه . . .»(5).
وقال الحافظ عبد العزيز الجنابذي عن رجاله، عن الحافظ البلاذري: «حدّثنا الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى إمام عصره عند الإمامية، بمكة، قال: حدّثني أبي علي بن محمّد المفتي، قال: حدّثني أبي محمّد بن علي السيد المحجوب، قال حدّثني أبي علي بن موسى الرضا قال: حدّثني أبي موسى ابن جعفر المرتضى، قال: حدّثني أبي جعفر بن محمّد الصادق، قال: حدّثني أبي محمّد بن علي بن الباقر قال: حدّثني أبي علي بن الحسين السجاد زين العابدين قال: حدّثني أبي الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب سيد الأوصياء قال: حدّثني محمّد بن عبد اللّه سيّد الأنبياء قال: حدّثني جبرئيل سيد الملائكة قال قال اللّه عزّ وجلّ سيد السادات: إنّي أنا اللّه لا إله إلاّ أنا، فمن أقرَّ لي بالتوحيد دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي»(6).
وروى غير واحد أنّه وقع في سرّ من رأى في زمن المعتمد قحط شديد والإمام في السجن، فأمر المعتمد بخروج الناس إلى الإستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيام يستسقون فلم يسقوا، فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء وخرج معه النصارى والرهبان، وكان فيهم راهب كلّما مدّ يده إلى السماء هطلت بالمطر، ثمّ خرجوا في الثاني وفعلوا كفعلهم أوّل يوم، فهطلت السماء بالمطر. فعجب الناس من ذلك، وداخل بعضهم الشك، وصبا بعضهم إلى دين النصرانية، فشقَّ ذلك على المعتمد، فأنفذ صالح بن يوسف أن أخرج أبا محمّد الحسن من الحبس وائتني به. فلما حضر أبو محمّد الحسن عند المعتمد قال له: أدرك أُمّة محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم فيما لحقهم من هذه النازلة العظيمة، فقال أبو محمّد: مرهم يخرجون غداً اليوم الثالث، فقال له: قد استغنى الناس عن المطر واستكفوا فما فائدة خروجهم؟ قال: لأُزيل الشك عن الناس وما وقعوا فيه. فأمر الخليفة الجاثليق والرهبان أن يخرجوا أيضاً في اليوم الثالث على جاري عادتهم وأن يخرج الناس. فخرج النصارى وخرج معهم أبو محمّد الحسن ومعه خلق من المسلمين، فوقف النصارى على جاري عادتهم يستسقون، وخرج راهب معهم ومدّ يده إلى السماء ورفعت النصارى والرهبان أيديهم أيضاً كعادتهم، فغمّيت السماء في الوقت ونزل المطر. فأمر أبو محمّد الحسن بالقبض على يد الراهب وأخذ ما فيها، فإذا بين أصابعه عظم آدمي. فأخذه أبو محمّد الحسن ولفّه في خرقة وقال لهم: استسقوا. فانقشع الغيم وطلعت الشمس، فتعجّب الناس من ذلك.
وقال الخليفة: ما هذا يا أبا محمّد؟ فقال: هذا عظم نبي من الأنبياء، ظفر به هؤلاء من قبور الأنبياء، وما كشف عن عظم نبي من الأنبياء ظفر به هؤلاء من قبور الأنبياء، وما كشف عن عظم نبي من الأنبياء تحت السماء إلاّ هطلت بالمطر. فاستحسنوا ذلك وامتحنوه فوجدوه كما قال.
فرجع أبو محمّد إلى داره بسرّ من رأى، وقد أزال عن الناس هذه الشبهة، وسرّ الخليفة والمسلمون بذلك.
وكلّم أبو محمّد الحسن الخليفة في إخراج أصحابه الذين كانوا معه في السجن، فأخرجهم وأطلقهم من أجله»(7).
وقال الإمام عبد اللّه بن أسعد اليافعي عن بهلول قال: «بينما أنا ذات يوم في بعض شوارع المدينة وإذا بالصبيان يلعبون بالجوز واللوز، وإذا بصبي ينظر إليهم ويبكي. فقلت: هذا صبي يتحسّر على ما في أيدي الصبيان ولا شيء معه. فقلت: أي بني ما يبكيك؟ اشتر لك ما تلعب به؟ فرفع بصره إليَّ وقال: يا قليل العقل، ما للّعب خلقنا. قلت: فلم إذاً خلقنا؟ قال: للعلم والعبادة. قلت: من أين لك ذاك بارك اللّه فيك؟ قال من قول اللّه تعالى (أفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأنَّكُمْ إلَيْنَا تُرْجَعُون). فقلت: يا بني، أراك حكيماً، فعظني وأوجز، فأنشأ يقول:
أرى الدنيا تجهّز بانطلاق *** مشمّرةً على قدم وساق (الأبيات)
ثمّ رمق إلى السماء بعينيه وأشار بكفّيه ودموعه تتحدر على خدّيه وأشار بقوله . . . فلما أتمّ كلامه خرّ مغشيّاً عليه، فرفعت رأسه إلى حجري ونفضت التراب عن وجهه، فلما أفاق . . . فقلت له: أى بني أراك حكيماً فعظني، فأنشأ يقول:
غفلت وحادي الموت في أثرى يحدو *** وإن لم أرح يوماً فلا بدّ أن أغدو(الأبيات)
قال بهلول: فلما فرغ من كلامه وقعت مغشيّاً علي وانصرف الصبي. فلما أفقت ونظرت إلى الصبيان فلم أره معهم فقلت لهم: من يكون ذلك الغلام؟ قالوا: وما عرفته؟ قلت: لا قالوا: ذاك من أولاد الحسين بن علي بن أبي طالب. قال: فقلت: قد عجبت من أمره، وما تكون هذه الثمرة إلاّ من تلك الشجرة»(8).
وقال الحافظ سبط ابن الجوزي: «روى الحسن النصيبي قال: خطر في قلبي عرق الجنب هل هو طاهر؟ فأتيت إلى باب أبي محمّد الحسن لأسأله وكان ليلاً، فنمت، فلما طلع الفجر خرج من داره فرآني نائماً فأيقظني وقال: إن كان حلالاً فنعم، وإن كان من حرام فلا»(9).
وروى ابن الصبّاغ المالكي بسنده عن عيسى بن الفتح قال: «لمّا دخل علينا أبو محمّد السجن قال لي: يا عيسى لك من العمر خمس وستّون سنة وشهر ويومان، قال: وكان معي كتاب فيه تاريخ ولادتي، فنظرت فيه، فكان كما قال. ثمّ قال لي: هل رزقت ولداً؟ فقلت: لا قال: اللهم ارزقه ولداً يكون له عضداً فنعم العضد الولد. ثمّ أنشد:
من كان ذا عضد يدرك ظلامته *** إنّ الذليل الذي ليست له عضد
فقلت له: يا سيدي، وأنت لك ولد؟ فقال: واللّه سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأمّا الآن فلا. ثمّ أنشد متمثّلاً:
لعلك يوماً أن تراني كأنّما *** بني حواليّ الأُسود اللوابد
فإنّ تميماً قبل أن يلد الحصى *** أقام زماناً وهو في الناس واحد»(10)وروى ابن الصبّاغ المالكي عن إسماعيل بن محمّد بن علي بن إسماعيل بن علي بن عبد اللّه بن العباس قال: «قعدت لأبي محمّد الحسن على باب داره حتى خرج، فقمت في وجهه وشكوت إليه الحاجة والضرورة، وأقسمت أنّي لا أملك الدرهم فما فوقه، فقال: تقسم وقد دفنت مائتي دينار! وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطيّة، أعطه يا غلام ما معك. فأعطاني مائة دينار، شكرت له تعالى وولّيت فقال: ما أخوفني أن تفقد المائتي دينار أحوج ما تكون إليها.
فذهبت إليها فافتقدتها فإذا هي في مكانها، فنقلتها إلى موضع آخر ودفنتها من حيث لا يطّلع أحد، ثمّ قعدت مدّة طويلة، فاضطررت إليها، فجئت أطلبها في مكانها فلم أجدها، فجئت وشقّ ذلك عليَّ، فوجدت إبناً لي قد عرف مكانها وأخذها وأبعدها. ولم يحصل لي شيء. فكان كما قال»(11).
وروى ابن الصّباغ المالكي عن محمّد بن حمزة الدوري قال: «كتبت على يدي أبي هاشم داود بن القاسم ـ كان لي مؤاخياً ـ إلى أبي محمّد الحسن أسأله أن يدعو اللّه لي بالغنى، وكنت قد بلغت وقلّت ذات يدي وخفت الفضيحة. فخرج الجواب على يده: أبشر، فقد أتاك الغنى عن اللّه تعالى، مات ابن عمّك يحيى بن حمزة وخلّف مائة ألف درهم ولم يترك وارثاً سواك وهي واردة عليك. عليك بالإقتصاد وإيّاك والإسراف. فورد عليّ المال والخبر بموت ابن عمي كما قال عن أيام قلائل وزال عني الفقر . . .»(12).
وقال ابن الصبّاغ: «مناقب سيّدنا أبي محمّد الحسن العسكري دالّة على أنّه السري ابن السري، فلا يشك في إمامته أحد ولا يمتري، واعلم أنّه لو بيعت مكرمة فسواه بايعها وهو المشتري، واحد زمانه من غير مدافع ونسيج وحده من غير منازع، وسيّد أهل عصره وإمام أهل دهره، أقواله سديدة وأفعاله حميدة، وإذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة، وإن انتظموا عقداً كان مكان الواسطة الفريدة، فارس العلوم الذي لا يجارى، ومبيّن غوامضها فلا يحاول ولا يمارى، كاشف الحقائق بنظره الصائب، مظهر الدقائق بفكره الثاقب، المحدّث في سرّه بالأُمور الخفيّات، الكريم الأصل والنفس والذات»(13).
وقال الحضرمي الشافعي: «كان عظيم الشأن، جليل المقدار، وقد زعمت الشيعة الرافضة أنّه والد المهدي المنتظر . . .»(14).
وقال أبو سالم محمّد بن طلحة الشافعي: «إنّ المنقبة العليا والمزية الكبرى التي خصّه اللّه جلّ وعلا بها فقلّدها فريدها ومنح تقليدها، وجعلها صفة دائمةً لا يبلي الدهر جديدها، ولا تنسى الألسن تلاوتها وترديدها: أنّ المهدي محمّداً نسله المخلوق منه وولده المنتسب إليه والبضعة المنفصلة عنه . . . وحسب ذلك منقبةً وكفاه»(15).
وقال النبهاني: «الحسن العسكري أحد أئمّة ساداتنا آل البيت العظام وساداتهم الكرام، رضي اللّه عنهم أجمعين، ذكره الشبراوي في (الإتحاف بحب الأشراف) ولكنّه اختصر ترجمته، ولم يذكر له كرامات، وقد رأيت له كرامة بنفسي، وهو أنّي في سنة 1296 سافرت إلى بغداد من بلدة كوي سنجق إحدى قواعد بلاد الأتراك وكنت قاضياً فيها، ففارقتها قبل أن أكمل المدة المعيّنة، لشدّة ما وقع فيها من الغلاء والقحط، الذين عمّا بلاد العراق في تلك السنة، فسافرنا على الكلك قبالة مدينة سامراء وكانت مقرّ الخلفاء العبّاسيين، فأحببنا أن نزور الإمام الحسن العسكري، وخرجنا لزيارته، فحينما دخلت على قبره الشريف حصلت لي روحانيّة لم يحصل لي مثلها قط . . . وهذه كرامة له. ثمّ قرأت ما تيسّر من القرآن، ودعوت بما تيسّر من الدعوات وخرجت»(16).
أقول:
وقد سبق الشبراوي في اختصار ترجمته وعدم ذكر كرامات له قوم كالخطيب البغدادي وابن الجوزي، بل لم يذكروا شيئاً من أخباره، بل منهم من لم يذكره في كتابه أصلاً!! مع ذكرهم كلّ من دبّ ودَرَج وإيرادهم بتراجمهم الأكاذيب والأباطيل الأعاجيب!! إنّ تواريخهم طافحة بأخبار الأتراك والزّنج وغيرهم من المفسدين، ولا يذكرون شيئاً أو يذكرون سطوراً معدودة فقط من أخبار آل الرسول والأئمّة الهداة المهديّين…! فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.
(1) الإتقان في علوم القرآن 4 / 233.
(2) سير أعلام النبلاء 12 / 456.
(3) حلية الأولياء 3 / 203.
(4) مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي ـ مخطوط، تذكرة خواص الأُمّة: 362.
(5) لسان الميزان 1 / 209. ولا يخفى أنّ «ذ» رمز لذيل ميزان الاعتدال للشيخ حافظ الوقت أبي الفضل ابن الحسين، كما صرح ابن حجر في لسان الميزان 1 / 4. فيكون الراوي الأوّل للمسلسل هو هذا الحافظ.
(6) معالم العترة النبويّة للحافظ عبد العزيز بن محمود المعروف بابن الأخضر الجنابذي المتوفّى سنة: 611 وصفه الذهبي بالإمام العالم المحدّث الحافظ المعمر مفيد العراق، كان ثقة فهماً خيّراً ديّناً عفيفاً، وكذا عن غيره. سير أعلام النبلاء 22 / 31. نقله عنه: العلاّمة الوزير علي بن عيسى الاربلي المتوفّى سنة 693 والمترجم له في الشذرات والوافي بالوفيات وغيرهما، في كتاب: كشف الغمّة في معرفة الأئمّة 2 / 403.
(7) الفصول المهمة: 286، ونور الأبصار: 339، الصواعق: 124، أخبار الدول: 117.
(8) روض الرياحين في حكايات الصالحين، جمع فيه خمسمائة حكاية. كشف الظنون 1 / 918، وهو للشيخ عبد اللّه بن أسعد اليافعي اليمني الشافعى المتوفي سنة: 768 صاحب مرآة الجنان وغيره من الكتب، توجد ترجمته في الدرر الكامنة 2 / 247، طبقات السبكي 6 / 103، البدر الطالع 1 / 378 وغيرها. وقد نقلنا القصة باختصار في الأشعار وغيرها، وهي مذكورة بترجمة الإمام الحسن العسكري من: جواهر العقدين ـ ق 2 ج 2 / 431، الصواعق المحرقة: 124، وسيلة المآل ـ مخطوط، نور الأبصار: 338 عن درر الأصداف، جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام: 155، دائرة المعارف للبستاني 7 / 45.
(9) مرآة الزمان 6 / الورقة 192. و«الحسن النصيبي» ترجم له ابن حجر قال: من ذريّة إسحاق بن جعفر الصادق، ذكره أبو المفضل الشيباني في وجوه الشيعة وقال: سمعت عليه حديثاً كثيراً، وله تصنيف في طرق حديث الغدير، وروى عن محمّد بن علي بن حمزة وغيره» انتهى كلامه في كتاب لسان الميزان 2 / 191.
(10) الفصول المهمة في معرفة الأئمّة: 288.
(11) الفصول المهمة في معرفة الأئمّة: 286 وإسماعيل ذكره الشيخ الطوسي في أصحاب الامام العسكري.
(12) الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: 285.
(13) الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: 290.
(14) وسيلة المآل في عد مناقب الآل ـ مخطوط.
(15) مطالب السئول في مناقب آل الرسول: 244 وأبو سالم محمّد بن طلحة فقيهٌ كبيرٌ ومحدّث جليل، له مصنّفات، توجد ترجمته والثناء عليه والشهادة ببراعته في المذهب الشافعي وثقته وزهده وجلالته في ذيل الروضتين: 188، سير أعلام النبلاء 23 / 293، الوافي بالوفيات 3 / 176، طبقات السبكي 8 / 63، ابن كثير 13 / 186، النجوم الزاهرة 7 / 33، شذرات الذهب 5 / 259 . . . توفي سنة 652، وقد ذكر الكتاب في كشف الظنون وهدية العارفين وإيضاح المكنون وغيرها، واعتمد عليه المتأخرون عنه في كتبهم ومؤلّفاتهم.
(16) جامع كرامات الأولياء 1 / 389 ويوسف بن إسماعيل النبهاني، عالم في الفقه والحديث وأديب شاعر، ومصنّف مكثر، توفي سنة 1350 توجد ترجمته في معجم المؤلفين 13 / 275.