منازلهم منازل القرآن
وقوله: «فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن».
يحتمل أن يريد: أنزلوهم بأحسن ما تنزلون القرآن من الإطاعة والإحترام.
ويحتمل أن يريد: أنزلوهم بأحسن ما أنزلهم القرآن:
من الولاية، كما في قوله عزّوجل: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(1).
ومن الطهارة كما في قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(2).
ومن الطاعة المطلقة كما في قوله: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)(3).
ومن المودّة كما في قوله: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(4).
إلى غير ذلك من المقامات والمنازل التي نزل بها القرآن لأهل البيت عليهم الصلاة والسّلام.
هذا، وفي هذه الكلمات عدّة نقاط:
منها: إن بقاء الإسلام منوط ببقائهم، وإن الدين لا يزول ما داموا موجودين، فهم قوام الدين واليقين، وبقاؤهما محتاج إليهم، كما أن بقاء البناء محتاج إلى الأساس والعماد، ولعلّ هذا معنى قوله عليه السّلام: «وجبال دينه»(5) أيضاً.
ومنها: إنّ الأرض لا تخلو منهم، لأن اللّه كتب لدينه الخلود، وهم الأدلاّء عليه، وأعلام الهداية إليه، يقول أمير المؤمنين عليه السّلام: «ألا إن مثل آل محمّد صلّى اللّه عليه وآله كمثل نجوم السماء، إذا خوى نجم طلع نجم»(6).
ويصرّح ببقائهم ما بقيت الأرض بقوله «اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجّة، إما ظاهراً مشهوراً وإما خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج اللّه وبيّناته، وكم ذا، وأين اُولئك؟ أُولئك ـ واللّه ـ . الأقلّون عدداً، والأعظمون عند اللّه قدراً، يحفظ اللّه بهم حججه وبيّناته، حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، أولئك خلفاء اللّه في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم»(7).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الاُمة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة، دلالة للصحيح من الأقوال أنّ الأرض لا تخلو عن قائم للّه بحجة»(8).
ومنها: إنه يجب أن يكون السؤال منهم(9)، والنفر إليهم(10)، يقول عليه السّلام: «ردوهم ورود الهيم العطاش»(11).
وهذه النقاط كلّها من مداليل «حديث الثقلين» المتواتر بين الفريقين كما سنشير إليه.
وفي تشبيه الإمام أهل البيت بنجوم السماء، إشارة إلى حديث نبوي صحيح:
روى أحمد وغيره «النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض»(12).
وقال السيوطي: «أخرج الحاكم عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لاُمتي من الإختلاف، فإذا خالفتها قبيلة اختلفوا، فصاروا حزب إبليس»(13).
ويشهد بهذا التشبيه قوله عزّوجلّ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)(14)، ففي الخبر عن الإمام عليه السّلام: «النجوم آل محمّد عليه وعليهم السّلام»(15).
وفي قوله: «وإما خائفاً مغموراً» إشارة إلى المهدي من آل محمّد صلّى اللّه عليه وآله، الذي «يملأ اللّه به الأرض قسطاً وعدلا بعدما ـ أو: كما ـ ملئت ظلماً وجوراً» وهذا من الاُمور الضرورية، والأدلّة عليه كثيرة والمؤلّفات حوله لا تحصى(16).
(1) سورة المائدة: الآية 60.
(2) سورة الأحزاب: الآية 33.
(3) سورة النساء: الآية 62.
(4) سورة الشورى: الآية 22.
(5) نهج البلاغة: 47.
(6) المصدر: 146.
(7) نهج البلاغة: 497.
(8) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 6 / 385.
(9) إشارة إلى قوله تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) سورة النحل: الآية 46، أنظر: الكافي 1 / 210.
(10) إشارة إلى قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ) ـ سورة التوبة: الآية 124 ـ ، وأنظر: الصافي في تفسير القرآن: 243.
(11) نهج البلاغة: 118.
(12) الصواعق المحرقة: 140.
(13) إحياء الميت، الحديث التاسع والعشرون.
(14) سورة الأنعام: الآية 97.
(15) الصافي في تفسير القرآن: 179.
(16) أنظر منها: منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر، كشف الأستار عن وجه الإمام الغائب عن الأبصار، المحجّة فيما نزل في القائم الحجة.