(5) دلالته على وجوب الرجوع اليه
ويدلّ حديث مدينة العلم على وجوب رجوع الأمّة إلى أمير المؤمنين عليه السلام لأخذ العلم منه، ولذا قال صلّى الله عليه وآله في ذيله «فمن أراد العلم فليأت الباب» وقال «كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلاّ من الباب».
وهذا أيضاً وجه آخر لإثبات المطلوب. والحمد لله.
قال العلاّمة ابن شهرآشوب عليه الرحمة بعد نقل الحديث من طرق المخالفين: «وهذا يقتضي وجوب الرجوع إلى أمير المؤمنين عليه السلام، لأنّه كنّى عنه بالمدينة وأخبر أن الوصول إلى علمه من جهة علي خاصة، لأنه جعله كباب المدينة الذي لا يدخل إليها إلاّ منه. ثمّ أوجب ذلك الأمر به بقوله: «فليأت الباب». وفيه دليل على عصمته، لأنّ من ليس بمعصوم يصحّ منه وقوع القبيح، فإذا وقع كان الاقتداء به قبيحاً فيؤدّى إلى أن يكون عليه السلام قد أمر بالقبيح وذلك لا يجوز. ويدلّ أيضاً: أنه أعلم الأمة، يؤيد ذلك ما قد علمناه من اختلافها ورجوع بعضها إلى بعض وغناه عليه السلام عنها، وأبان عليه السلام ولاية علي عليه السلام وإمامته وأنّه لا يصح أخذ العلم والحكمة في حياته وبعد وفاته إلاّ من قبله وروايته عنه كما قال الله تعالى: (وأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها)».(1)
وقال القاضي التستري الشهيد نوّر الله مرقده في (إحقاق الحق):
«أقول: في الحديث إشارة إلى قوله تعالى: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) وفي كثير من روايات ابن المغازلي تصريح بذلك، ففي بعضها مسنداً إلى جابر رضي الله عنه: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب. وفي بعضها مسنداً إلى علي عليه السلام: يا علي أنا مدينة وأنت الباب، كذب من زعم أنّه يصل إلى المدينة إلاّ من الباب. وروي عن ابن عباس: أنا مدينة الجنة وعلي بابها فمن أراد الجنّة فليأتها من بابها. وعن ابن عباس أيضاً بطريق آخر: أنا دار الحكمة وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب.
وهذا يقتضي وجوب الرجوع إلى أمير المؤمنين عليه السلام، لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كنّى عن نفسه الشريفة بمدينة العلم وبدار الحكمة، ثم أخبر أن الوصول إلى علمه وحكمته وإلى جنّة الله سبحانه من جهة علي خاصة، لأنّه جعله كباب مدينة العلم والحكمة والجنة التي لا يدخل إليها إلاّ منه، وكذّب عليه السلام من زعم أنّه يصل إلى المدينة لا من الباب، وتشير إليه الآية أيضاً كما ذكرناه.
وفيه دليل على عصمته وهو ظاهر، لأنّه عليه السلام أمر بالاقتداء به في العلوم على الإطلاق، فيجب أن يكون مأموناً عن الخطاء. ويدل على أنه إمام الأمة لأنه الباب لتلك العلوم، ويؤيد ذلك ما علم من اختلاف الأمة ورجوع بعض إلى بعض وغناؤه عليه السلام عنها. ويدل أيضاً على ولايته وإمامته عليه السلام، وأنّه لا يصح أخذ العلم والحكمة ودخول الجنة في حياته صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ من قبله، ورواية العلم والحكمة إلاّ عنه، لقوله تعالى: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) حيث كان عليه السلام هو الباب، ولله در القائل:
«مدينة علم وابن عمك بابها *** فمن غير ذاك الباب لم يؤت سورها»
ويدل أيضاً: على أنه من أخذ شيئاً من هذه العلوم والحكم التي احتوى عليها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من غيرجهة علي عليه السلام كان عاصياً كالسارق والمتسوّر، لأنّ السارق والمتسوّر إذا دخلا من غير الباب المأمور بها ووصلا إلى بغيتهما، كانا عاصيين،
وقوله عليه السلام: «فمن أراد العلم فليأت الباب» ليس المراد به التخيير، بل المراد به الإيجاب والتهديد كقوله عزّ وجلّ (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) والدليل على ذلك: أنّه ليس هاهنا نبي غير محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو مدينة العلم ودار الحكمة، فيكون العالم مخيّراً بين الأخذ من أحدهما دون الآخر، وفقد ذلك دليل على إيجابه وأنّه فرض لازم. والحمد لله».
قال: «ثمّ لا يخفى على أولي الألباب أن المراد بالباب في هذه الأخبار الكناية عن الحافظ للشيء الذي لا يشذّ عنه منه شيء ولا يخرج إلاّ منه ولا يدخل عليه إلاّ به، وإذا ثبت أنه عليه السلام الحافظ لعلوم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحكمته، وثبت أمر الله تعالى ورسوله بالتوصّل به إلى العلم والحكمة، وجب اتباعه والأخذ عنه، وهذا حقيقة معنى الإمام، كما لا يخفى على ذوي الأفهام».
(1) مناقب آل أبي طالب: 2/34.