(3) دلالته على أن الامام واسطة العلوم
ويدلّ حديث مدينة العلم على أنّ الأمّة يجب أن تستمدّ العلوم من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بواسطة سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا شرف يتضاءل عنه كلّ شرف، وفضيلة ليس فوقها فضيلة، ومرتبة تثبت الأفضليّة فضلاً عن غيرها من الأدلّة… ومن هنا أيضا تثبت خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بلا كلام:
قال محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير الصنعاني في (الروضة الندية) بعد تصحيح الحديث: «نعم، ولعلّك تقول: كيف حقيقة هذا التركيب النبوي، أعني: قوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها؟
فأقول: الكلام فيه استعارة تخييليّة ومكنيّة وترشيح، وذلك أنّه شبّه العلم بمحسوس من الأموال يحاز ويحرز، لأنّ بين العلم والمال تقارن في الأذهان، ولذلك يقرن بينهما كثيراً، مثل ما في كلام الوصي عليه السلام: العلم خير من المال، في كلامه المشهور الثابت لكميل بن زياد، وفي الحديث النبوي: منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا،
فشبّه العلم بالمال بجامع النفاسة في كلّ منهما، والحرص على طلبهما والفخر بحيازتهما، ولذلك قال الشافعي رحمه الله:
قيمة المرء علمه عند ذي العلم *** وما في يديه عند الرّعاع
وإذا ما جمعت علماً ومالاً *** كنت عين الوجود بالإجماع
ولمّا شبّه العلم بالمال أثبت له ما هو من لوازم المال، وهو ما يجمعه ويحفظ فيه من المكان، وجعل المكان المدينة، لأنّه لم يرد نوعاً من العلم مشبّهاً بنوع من المال، بل علوم جمة واسعة من فنون مختلفة كالأموال المتعددة الأنواع التي لا يحفظها إلاّ مدينة، ثم طوى ذكر المشبّه به أعني المال كما هو شأن المكنيّة، ورمز إليه بلازمه وهو المدينة استعارة تخييلّية، ثم أثبت لها الباب ترشيحاً، مثل قولهم: أظفار المنيّة نشبت بفلان، ثم حمل ضمير قوله: مدينة العلم على ضمير نفسه صلّى الله عليه وسلّم فأخبر عنه بها، وأخبر عن علي عليه السلام بأنه بابها، فلمّا كان الباب للمدينة من شأنه أن يجلب منه إليها منافعها ويستخرج منه إلى غيرها مصالحها، كان فيه إيهام أنه صلّى الله عليه وسلّم يستمدّ من غيره بواسطة الباب الذي هو علي عليه السلام، دفع صلّى الله عليه وسلّم هذا الإيهام بقوله: «فمن أراد العلم فليأت من الباب»، إخباراً بأنّ هذا باب تستخرج منه العلوم وتستمد بواسطته، ليس له من شأن الباب إلاّ هذا، لاكسائر الأبواب في المدن، فإنّها للجلب إليها والإخراج عنها، فللّه درّ شأن الكلام النبوي ما أرفع شأنه وأشرفه وأعظم بنيانه، ويحتمل وجوهاً من التخريج أخر، إلاّ أنّ هذا أنفسها.
وإذا عرفت هذا عرفت أنّه قد خصّ الله الوصيّ عليه السلام بهذه الفضيلة العجيبة، ونوّه شأنه، إذ جعله باب أشرف ما في الكون وهو العلم، وأن منه يستمد ذلك من أراده، ثم إنه باب لأشرف العلوم وهي العلوم النبوية، ثم لأجمع خلق الله علماً وهو سيّد رسله صلّى الله عليه وسلّم، وإنّ هذا الشرف يتضاءل عنه كلّ شرف، ويطأطئ رأسه تعظيماً له كلّ من سلف وخلف، وكما خصّه باب مدينة العلم فاض عنه منها ما يأتيك من دلائل ذلك قريباً».(1)
(1) الروضة الندية ـ شرح التحفة العلوية: 210 ـ 211.