ردّ نسبة القدح إلى ابن معين
فأوّل ما ادّعي: طعن الحافظ يحيى بن معين في ثبوت هذا الحديث، وهذه الدعوى مردودة بوجوه:
1. إنّه صحّحه في جواب سؤال الأنباري
لقد أفتى يحيى بن معين بصحّة حديث مدينة العلم في جواب سؤال القاسم بن عبد الرحمن الأنباري: «سألت يحيى عن هذا الحديث فقال: هو صحيح. قال الخطيب: أراد إنّه صحيح من حديث أبي معاوية وليس بباطل، إذ قد رواه غير واحد عنه».
وفي تهذيب الكمال بترجمة أبي الصّلت عبد السلام بن صالح الهروي: «قال القاسم بن عبد الرحمن الأنباري: حدّثنا أبو الصّلت الهروي قال: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت بابه.
قال القاسم:
سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث فقال: صحيح. قال أبو بكر ابن ثابت الحافظ: أراد إنّه صحيح من حديث أبي معاوية وليس بباطل، إذ قد رواه غير واحد عنه».(1)
وفي تهذيب التهذيب بترجمة أبي الصّلت: «وقال القاسم بن عبد الرحمن الأنباري: سألت يحيى بن معين عن حديث حدّثنا به أبو الصّلت عن أبي معاوية، عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً: أنا مدينة العلم وعلي بابها.
فقال: هو صحيح. قال الخطيب: أراد به صحيح عن أبي معاوية، إذ قد رواه غير واحد عنه».(2)
وقد ورد تصحيح ابن معين للحديث في كتب أخرى غير ما ذكر، كما مرّ فيما مضى.
2. إنّه أثبته في جواب الدوري
لقد أثبت يحيى بن معين حديث مدينة العلم في جواب سؤال عباس بن محمد الدّوري…
فقد قال الحاكم النيسابوري بعد إخراج حديث مدينة العلم بطريق أبي الصلت الهروي ـ : «وأبو الصّلت ثقة مأمون، فإنّي سمعت أبا العباس محمد بن يعقوب في التاريخ يقول: سمعت العباس بن محمد الدوري يقول: سألت يحيى بن معين عن أبي الصّلت الهروي، فقال: ثقة، فقلت: أليس قد حدّث عن أبي معاوية عن الأعمش: أنا مدينة العلم؟ فقال: قد حدّث به محمد بن جعفر الفيدي وهو ثقة مأمون».(3)
وقال الخطيب في (تاريخ بغداد) ـ على ما نقل عنه السّيوطي: «قال عباس الدّوري: سمعت يحيي بن معين يوثّق أبا الصّلت عبد السّلام بن صالح فقلت له: إنّه حدّث عن أبي معاوية عن الأعمش: أنا مدينة العلم وعلي بابها! فقال: ما تريدون من هذا المسكين؟ أليس قد حدّث به محمّد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية».(4)
وقال عبد الغني المقدسي بترجمة أبي الصّلت: «قال عباس بن محمد: سمعت يحيى بن معين يوثق أبا الصلت، فقيل له: إنه حدّث عن أبي معاوية: أنا مدينة العلم وعلي بابها! فقال: ما تريدون من هذا المسكين؟ أليس قد حدّث به محمد الفيدي عن أبي معاوية؟».(5)
وقال المزي بترجمته: «قال عباس بن محمد الدوري: سمعت يحيى بن معين يوثّق أبا الصّلت عبد السلام بن صالح، فقلت: إنه حدّث عن أبي معاوية عن الأعمش: أنا مدينة العلم وعلي بابها! فقال: ما تريدون من هذا المسكين؟ أليس قد حدّث محمد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية. فقال نحوه».(6)
وقال ابن حجر: «وقال الدوري: سمعت ابن معين يوثق أبا الصلت وقال في حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها: قد حدّث به محمد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية».(7)
وقد استشهد بهذا الكلام العلائي والفيروزآبادي في دفاعهما عن هذا الحديث.
3. إنّه أثبته في جواب ابن المحرز
وأثبته يحيى بن معين في جواب سؤال أحمد بن محمد بن القاسم ابن المحرز عن أبي الصلت عبد السّلام الهروي، فقد ذكر الخطيب في (تاريخه) ـ على ما نقل عنه السيوطي في (نفع قوت المغتذي) ما نصّه: «وقال أحمد بن محمد بن القاسم بن المحرز: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي فقال: ليس ممّن يكذب، فقيل له في حديث أبي معاوية أنا مدينة العلم، فقال: هو من حديث أبي معاوية، أخبرني ابن نمير قال: حدّث به أبو معاوية قديماً، ثمّ كفّ عنه. وكان أبو الصّلت رجلا موسراً يطلب هذه الأحاديث ويلزم المشايخ، فكانوا يحدّثونه بها».
4. إنّه أثبته في جواب صالح جزرة
وكذلك أثبت ابن معين هذا الحديث في جواب سؤال صالح بن محمد جزرة عن أبي الصّلت الهروي، قال الحاكم: «سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه القباني إمام عصره ببخارى يقول: سمعت صالح بن محمد بن حبيب الحافظ يقول: وسئل عن أبي الصلت الهروي فقال: دخل يحيى بن معين ـ ونحن معه ـ على أبي الصّلت فسلّم عليه، فلما خرج تبعته، فقلت له: ما تقول ـ رحمك الله ـ في أبي الصّلت؟ فقال: هو صدوق، فقلت له: إنه يروي حديث الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأتها من بابها؟ فقال: قد روى هذا ذاك الفيدي عن أبي معاوية عن الأعمش، كما رواه أبو الصّلت».(8)
وفي اللآلى المصنوعة عن الخطيب البغدادي: «وقال عبد المؤمن ابن خلف النسفي: سألت أبا علي صالح بن محمد عن أبي الصّلت الهروي فقال: رأيت يحيى بن معين يحسن القول فيه، ورأيته سئل عن الحديث الذي روى عن أبي معاوية: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فقال: رواه أيضاً الفيدي. قلت: ما اسمه؟ قال: محمد بن جعفر».(9)
أقول:
فظهر أنّ «يحيى بن معين» ممّن يصحّح حديث مدينة العلم ويثبته، وقد علم من الوجوه المذكورة أنه قد سعى ـ السّعي الجميل ـ في سبيل إثبات هذا الحديث وردّ الشّبهات عنه، فكيف يجوز نسبة كلمة «لا أصل له» إليه؟
اللّهمّ إلاّ أن يقال بأنّ هذه الكلمات قد صدرت منه قبل وقوفه على حقيقة أمر الحديث، ثم صرّح بما هو الحق الثابت والحقيقة الراهنة، وهذا هو الذي اختاره المولوي حسن الزمان حيث قال: «تنبيه: من أحسن بيّنة على معنى ختم الأولياء الحديث المشهور الصحيح الذي صحّحه جماعات من الأئمة، منهم أشدّ الناس مقالاً في الرّجال، سند المحدثين ابن معين، كما أسنده عنه ووافقه الخطيب في تاريخه، وقد كان قال أوّلاً: لا أصل له…».(10)
لكنّ المستفاد من كلام السّخاوي أن هذه الكلمة لم تصدر من ابن معين بالنسبة إلى حديث مدينة العلم في حين من الأحيان، بل إن ذلك ـ على فرض ثبوته ـ كان منه بالنسبة إلى حديث: أنا دار الحكمة… قال السخاوي:
حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها. الحاكم في المناقب من مستدركه، والطبراني في معجمه الكبير، وأبو الشيخ ابن حيان في السّنة له، وغيرهم، كلّهم من حديث أبي معاوية الضرير، عن الأعمش، عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً به بزيادة: فمن أراد العلم فليأت الباب.
ورواه الترمذي في المناقب من جامعه، وأبو نعيم في الحلية، وغيرهما، من حديث علي: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أنا دار الحكمة وعلي بابها.
قال الدار قطني في العلل عقيب ثانيهما: إنّه حديث مضطرب غير ثابت، وقال الترمذي: إنه منكر، وكذا قال شيخه البخاري وقال: إنه ليس له وجه صحيح، وقال يحيى بن معين ـ فيما حكاه الخطيب في تاريخ بغداد ـ إنه كذب لا أصل له.
وقال الحاكم عقيب أوّلهما: إنّه صحيح الإسناد».(11)
أقول:
لكنّ صدوره بالنّسبة إلى هذا الحديث أيضا مستبعد عندي، لأنّه ـ كحديث مدينة العلم ـ حديث صحيح، وقد نصّ على صحته ابن جرير الطبري، والعلائي، والفيروزآبادي، وغيرهم.
ولقد بلغ دفاع ابن معين عن حديث مدينة العلم من المتانة والقوّة حدّاً لم يتمكّن أحد من القادحين فيه من الإتيان بجواب عنه، ومن هنا قال العلائي ـ فيما نقل عنه السّيوطي في (قوت المغتذي) ـ : «ولم يأت كلّ من تكلّم على حديث أنا مدينة العلم، بجواب عن هذه الروايات الثابتة عن يحيى بن معين»
وقال ابن حجر المكي في المنح المكيّة نقلاً عن العلائي: «ولم يأت أحد ممن تكلّم في هذا الحديث بجواب عن هذه الروايات الصحيحة عن يحيى بن معين».
ومن شواهد ما ذكره العلائي والفيروزآبادي ما جاء في سير أعلام النبلاء بترجمة أبي الصّلت الهروي، حيث حكى توثيق يحيى بن معين إيّاه وإثباته حديث مدينة العلم بقوله: «وقال عباس: سمعت ابن معين يوثّق أبا الصّلت، فذكر له حديث أنا مدينة العلم فقال: قد حدّث به محمد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية».(12)
وقد أقرّ الذّهبي ما رواه عباس الدّوري عن يحيى بن معين، غير أنّه اعترض عليه من ناحية أخرى، فعقبّه بقوله: «قلت: جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها، وكان هذا بارّاً بيحيى، ونحن نسمع من يحيى دائماً ونحتجّ بقوله في الرجال، ما لم يتبرهن لنا وهن رجل انفرد بتقويته أو قوّة من وهّاه».
وهذا الكلام يضرّ بمذهب أهل السنّة، بل يمكن القول بأنّه يهدم أساس مذهبهم، إذ لا يخفى علوّ قدر ابن معين وجلالة منزلته في علوم الحديث ـ ولا سيّما فن الجرح والتعديل ـ على من راجع تراجمه في تهذيب التهذيب 11 / 280 وتهذيب الأسماء واللغات 2 / 156 ووفيات الأعيان 6 / 139 وتذكرة الحفاظ 2 / 429 ومرآة الجنان حوادث: 203 وغيرها.
بل ذكر ابن الرّومي ـ فيما نقل عنه ابن خلكان ـ : «ما سمعت أحداً قط يقول الحق غير ابن معين، وغيره كان يتحامل بالقول».
(1) تهذيب الكمال 18/79.
(2) تهذيب التهذيب: 6/320.
(3) المستدرك على الصحيحين 3 / 126 ـ 127.
(4) اللآلي المصنوعة 1 / 332.
(5) الكمال في أسماء الرجال ـ مخطوط.
(6) تهذيب الكمال 18 / 79.
(7) تهذيب التهذيب 6/321.
(8) المستدرك على الصحيحين: 3/127.
(9) اللآلي المصنوعة: 1/332.
(10) القول المستحسن: 452.
(11) المقاصد الحسنة: 97.
(12) سير أعلام النبلاء 11 / 446.