دلالته على الأعلمية
إنّ حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها يدلّ على أعلميّة أمير المؤمنين عليه السلام، والأعلمية تستلزم الأفضليّة، ولا ريب في استحقاق الأفضل الامامة وتعيّنه لها دون غيره.
أمّا دلالته على أعلميّته، فلأنّه باب مدينة العلم، إذ لو كان غيره أعلم منه لزم النقص في الباب، والنقص فيه يفضي إلى النقص في المدينة، وذلك ما لا يجترئ مسلم على تقوّله ولا مؤمن على تخيّله…
وأيضاً: صريح الحديث إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مدينة العلم، وإنّ أمير المؤمنين عليه السلام باب تلك المدينة، والعقل السليم يحكم بأنّه لا يكون باباً لمدينة العلم إلاّ من أحاط بجميع علومها… وهذا المعنى يستلزم أعلميّة أمير المؤمنين عليه السلام من كافّة الخلائق ـ فضلا عن سائر الأصحاب ـ لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان أفضل وأكمل من جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين بالإجماع…
ونحن نورد في المقام كلمات بعض العلماء الأعلام في تقرير أعلميّة مدينة العلم عليه وآله السلام، لئلاّ يرتاب أحد في حصول كمالاته وعلومه لباب المدينة عليه السلام:
قال أبو حامد الغزالي في (الرسالة اللدنيّة):
والطريق الثاني: التعليم الرّباني، وذلك على وجهتين: الأوّل: إلقاء الوحي، وهو أنّ النفس إذا كملت بذاتها يزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل، وينفصل نظرها عن شهوات الدنيا وينقطع نسبها عن الاماني الفانية، وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها، وتتمسّك بجود مبدعها وتعتمد على إفادته وفيض نوره، والله تعالى ـ بحسن عنايته ـ يقبل على تلك النفس إقبالا كلّياً وينظر إليها نظراً إلهيّاً، ويتّخذ منها ألواحاً ومن النفس الكلّي قلماً، وينقش فيها جميع علومه، ويصير العقل الكلّي كالمعلّم والنفس القدسي كالمتعلّم، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس وينقش فيها جميع الصّور من غير تعلّم وتفكّر، ومصداق هذا قول الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ)الآية.
فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق، لأنّ حصوله من الله تعالى بلا واسطة ووسيلة، وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة، فإنّهم تعلّموا طول عمرهم وحصلوا بفنون الطرق الكثيرة العلوم حتى صاروا أعلم المخلوقات وأعرف الموجودات، وآدم لمّا جاء ما كان عالماً لأنّه ما تعلّم وما رأى معلّماً، فتفاخرت الملائكة عليه وتجبّروا وتكبّروا وقالوا: (نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ونعلم حقائق الأشياء، فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه وأقبل بالاستغاثة على الربّ تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الاَْسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُوني بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ) فصغر حالهم عند آدم وقلّ علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في العجز فقالوا: لا علم لنا، فقال تعالى: (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) فأنبئهم آدم عن مكنونات الغيب ومستترات الأمر.
فتقرّر الأمر عند العقلاء: أن العلم الغيبي المتولّد عن الوحي أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة، وصار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، وكان أعلم وأفصح العرب والعجم، وكان يقول: أدّبني ربّي فأحسن تأديبي، وقال لقومه: أنا أعلمكم بالله وأخشاكم من الله، وإنّما كان علمه أشرف وأكمل وأقوى، لأنّه حصل عن التعليم الرباني وما اشتغل قط بالتعلّم والتعليم الانساني، فقال تعالى: (عَلَّمَهُ شَديدُ الْقُوى).
وقال القاضي عياض: فصل: ومن معجزاته الباهرة: ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم، وخصّه به من الاطّلاع على جميع مصالح الدنيا والدين، ومعرفته بأمور شرائعه وقوانين دينه وسياسة عباده ومصالح أمته، وما كان في الأمم قبله، وقصص الأنبياء والرسل والجبابرة والقرون الماضية من لدن آدم إلى زمنه، وحفظ شرائعهم وكتبهم، ووعي سيرهم وسرد أنبائهم وأيّام الله فيهم، وصفات أعيانهم واختلاف آرائهم، والمعرفة بمددهم وأعمارهم، وحكم حكمائهم، ومحاجّة كلّ أمّة من الكفرة، ومعارضة كلّ فرقة من الكتابيين بما في كتبهم، وإعلامهم بأسرارها ومخبّآت علومها، وإخبارهم بما كتموه من ذلك وغيره.
إلى الاحتواء على لغات العرب وغريب ألفاظ فرقها والإحاطة بضروب فصاحتها، والحفظ لأيّامها وأمثالها وحكمها ومعاني أشعارها، والتخصيص بجوامع كلمها، إلى المعرفة بضرب الأمثال الصحيحة والحكم البيّنة، لتقريب التفهيم للغامض والتبيين للمشكل.
إلى تمهيد قواعد الشرع الذي لا تناقض فيه ولا تخاذل، مع اشتمال شريعته على محاسن الأخلاق ومحامد الآداب وكلّ شيء مستحسن مفضّل لم ينكر منه ملحد ذو عقل سليم شيئا إلاّ من جهة الخذلان، بل كلّ جاحد له وكافر به من الجاهلية إذا سمع ما يدعو إليه صوّبه واستحسنه، دون طلب إقامة برهان عليه، ثمّ ما أحلّ لهم من الطّيبات وحرّم عليهم من الخبائث، وصان به أنفسهم وأعراضهم وأموالهم من المعاقبات والحدود عاجلا والتخويف بالنار آجلا.
إلى الاحتواء على ضروب العلوم وفنون المعارف كالطب والعبادة والفرائض والحساب والنسب وغيرذلك من العلم، ممّا اتّخذ أهل هذه المعارف كلامه عليه السلام فيها قدوة وأصولا في علمهم…
هذا، مع أنّه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يكتب، ولكنّه أوتي علم كلّ شيء… ولاسبيل إلى جحد الملحد بشيء ممّا ذكرناه، ولا وجد الكفرة حيلة في دفع ما نصصناه، إلاّ قولهم: أساطير الأوّلين، وإنّما يعلّمه بشر، فردّ الله قولهم بقوله: (لِسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبينٌ…)»(1)
وقال الرازي في بيان الحجج على أفضليّة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم من سائر الأنبياء عليهم السلام:
«الحجة السادسة عشرة: قال محمّد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير هذا المعنى: إنّ كلّ أمير فإنّه مزيّته على قدر رعيّته، فالأمير الذي تكون إمارته على قرية تكون إمارته ومزيّته بقدر تلك القرية، ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال تلك القرية، فكذلك كلّ رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرّسالة، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض إنّما يعطى من هذه الكنوز الروحانيّة بقدر ذلك الموضع، والمرسل إلى كلّ أهل الشرق والغرب ـ إنسهم وجنّهم ـ لابدّ وأن يعطى من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب.
وإذا كان كذلك، كان نسبة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كلّ المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة، ولو كان كذلك لا جرم أعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله، فلا جرم بلغ في العلم إلى الحدّ الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقّه: (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) وفي الفصاحة إلى أن قال: أوتيت جوامع الكلم، وصار كتابه مهيمناً على الكتب وصارت امّته خير الأمم».(2)
وقال ابن حجر المكي بشرح قول البوصيري:
«لك ذات العلوم من عالم *** الغيب ومنها لآدم الأسماء»
قال «… واحتاج الناظم إلى هذا التفصيل مع العلم به ممّا قبله، لأنّ آدم ميّزه الله تعالى على الملائكة بالعلوم التي علّمها له، وكانت سببا لأمر هم بالسجود والخضوع له، بعد استعلائهم عليه بذمّه ومدحهم أنفسهم بقولهم (أَ تَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ) إلخ، فربما يتوهم أنّ هذه المرتبة الباهرة لم تحصل لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، إذ قد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل، فردّ ذلك التوهّم ببيان أن آدم عليه الصلاة والسلام لم يحصل له من العلوم إلاّ مجرّد العلم بأسمائها، وأن الحاصل لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم هو العلم بحقائقها ومسمّياتها، ولا ريب أن العلم بهذا أعلى وأجلّ من العلم بمجرّد أسمائها، لأنّها إنّما يؤتى بها لتبيين المسميّات، فهي المقصودة بالذات وتلك بالوسيلة وشتان ما بينهما.
ونظير ذلك: أن المقصود من خلق آدم صلّى الله عليه وسلّم إنّما هو خلق نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم من صلبه، فهو المقصود بطريق الذّات وآدم بطريق الوسيلة، ومن ثمّ قال بعض المحققين: إنّما سجد الملائكة لأجل نور محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي في جبينه…».(3)
وقال الشيخ خالد الأزهري شارحاً قول البوصيري:
فاق النبيين في خلق وفي خلق *** ولم يدانوه في علم ولاكرم
وكلّهم من رسول الله ملتمس *** غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم
وواقفون لديه عند حدّهم *** من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
قال الأزهري: «ومعنى الأبيات الثلاثة: إنّه صلّى الله عليه وسلّم علا جميع النبيين في الخلقة والسجيّة، ولم يقاربوه في العلم ولا في الكرم، كما سيأتي بيانه في قوله: يا أكرم الرسل، وفي قوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. وكلّ النبيّين أخذ من علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقدار غرفة من البحر أو مصّة من المطر الغزير، وكلّهم واقفون عند غايتهم من نقطة العلم أو من شكلة الحكم، وخصّ الشكلة بالحكم لزيادة التفهيم بها على النقطة».(4)
فظهر أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أعلم من جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة، وكلّهم ملتمس منه غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم، وهذه المراتب بعض مراتب علم «مدينة العلم» صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأمير المؤمنين علي عليه السلام أعلم منهم جميعاً، لأنّه «باب مدينة العلم»، ولأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم نصّ على أنّ من أراد «المدينة» فليأتها من «بابها».
(1) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى ـ بشرح القاري: 412.
(2) تفسير الرازي 6/524.
(3) شرح الهمزيّة: 24.
(4) شرح الأزهري على البردة: 63.