(3)
تأملات في مدلول حديث النجوم
والآن، هلمّ معي لنرى هل يصح صدور مثل هذا الكلام من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؟ وهل كان جميع الصحابة على خير من بعده؟ وهل كانوا جميعاً مؤهلين لأن يقتدى بهم؟ وهل كانوا جميعاً هادين حقاً؟
إذا كان كذلك، فما معنى قوله تعالى:
(أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)(1).
وقوله تعالى:
(وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَاب عَظِيم)(2).
وغيرهما من الآيات الكريمة التي تنص على وجود المنافقين بين أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
ثم هل يمكن الاعتقاد بأنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان لا يعلم ما سيقع بعده بين الأمة الاسلامية؟
كلاّ… ثمّ كلاّ… إنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان على علم بجميع ما سيحدث بين أصحابه وأمّته إلى يوم القيامة، لذا وردت الأحاديث الكثيرة التي لا تحصى يخبر فيها عليه وعلى آله الصلاة والسلام عن القضايا التي سيستقبلها المسلمون.
إنه صلّى اللّه عليه وعلى آله الطاهرين قال: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة…»(3).
وهناك أحاديث كثيرة أيضاً وردت في خصوص صحابته تفيد سوء حال جم غفير منهم، وانقلابهم من بعده على أعقابهم، مرتدين عن الدين راجعين بعده كفاراً خاسرين.
منها قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فيما أخرجه البخاري:
«أنا فرطكم على الحوض، وليرفعنّ رجال منكم، ثمّ ليختلجنّ دوني، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» وفي حديث، فأقول: سحقاً سحقاً لِمن غيّر بعدي» وفي بعض الأحاديث: «إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى»(4).
ومنها، قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لأصحابه:
«لا ترجعوا بعدي كفاراً»(5).
ومنها، قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم:
«الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل»(6).
إلى غير ذلك من الأحاديث التي رواها القوم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في ذم الصحابه آحاداً وجماعات، في موارد كثيرة ومناسبات مختلفة ومواطن عديدة.
فكيف يحسن منه سلام اللّه عليه وآله أن يجعل كلا من هؤلاء نجماً يهتدى به والحال هذه؟
على أن كثيراً من الصحابة اعترفوا في مناسبات عديدة بالجهل وعدم الدراية والخطأ في الفتيا، حتى اشتهر عن بعض أكابرهم ذلك… ولذا كان باب التخطئة والرد مفتوحاً لدى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه تعالى عليه وعلى آله، بل ربّما تجاوزت التخطئة حد الاعتدال وبلغت التكذيب والتجهيل والتكفير وتلك قضاياهم مدوّنة في كتب الآثار.
وهل أعجب من دعوى كون جميعهم نجوماً يهتدى بهم والحال أنه لم تكن لهم هذه المنزلة عند أنفسهم، كما هو واضح عند من راجع أخبارهم؟
وأمّا سبّ بعضهم بعضاً، وضرب بعضهم بعضاً، ونفي بعضهم لبعض فقد كان فاشياً فيما بينهم، بل لقد استباح بعضهم قتل بعض.
أمّا إذا راجعنا أخبار كلّ واحد من الصحابة وتتبعنا أفعالهم وقضاياهم لعثرنا من كثير منهم على أشياء غريبة عن الاسلام، بعيدة عنه كلّ البعد، من شرب للخمر، وشهادة زور، ويمين كاذبة، وفعل للزنا، وبيع للخمر، والأصنام، وفتياً بغير علم إلى غير ذلك من الكبائر المحرمة بأصل الشرع واجماع المسلمين.
نشير هنا إلى بعضها باختصار.
1 ـ كذب جماعة من مشاهير الصحابة وأعيانهم في قضية الجمل في موضوع (الحوأب)، وتحريضهم الناس على شهادة الزور كما شهدوا هم، والقصة مشهورة(7).
2 ـ قصة خالد بن الوليد وقوم مالك على عهد أبي بكر، إذْ وقع فيهم قتلا ونهباً وسبياً، ثم نكح امرأة رئيسهم مالك بن نويرة من ليلته بغير عدة، حتى أنكر عمر بن الخطاب ذلك(8).
3 ـ زنا المغيرة بن شعبة في قضية هذا مجملها:
إن المغيرة بن شعبة زنا بأم جميل بنت عمرو، وهي أمرأة من قيس، وشهد عليه بذلك: أبو بكرة، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد.
ولما جاء الرابع وهو زياد بن سمية ـ أو زياد بن أبيه ـ ليشهد أفهمه عمر بن الخطاب رغبته في أن يدلي بشهادته بحيث لا تكون صريحة في الموضوع حتى لا يلحق المغيرة خزي بإقامة الحدّ عليه، ثم سأله عمّا رآه قائلا:
أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة.
فقال: لا.
فقال عمر: اللّه اكبر، قم يا مغيرة إليهم فاضربهم.
فقام يقيم الحدود على الشهود الثلاثة(9).
4 ـ بيع سمرة بن جندب الخمر على عهد عمر بن الخطاب، فقال عمر لمّا بلغه ذلك:
«قاتل اللّه فلاناً…؟»(10).
5 ـ بيع معاوية بن أبي سفيان الأصنام، فقد جاء في (المبسوط)ما نصه:
«وذكر عن مسروق رحمه اللّه قال: بعث معاوية رضي اللّه عنه بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند فمر بها على مسروق رحمه اللّه قال: واللّه لو أني أعلم أنه يقتلني لغرقتها، ولكني أخاف أن يعذّبني فيفتنني، واللّه لا أدري أي الرجلين معاوية؟! رجل قد زيّن له سوء عمله، أو رجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتّع في الدنيا»(11).
6 ـ شرب عبدالرحمن بن عمر بن الخطاب ـ وكنيته أبو شحمة ـ الخمر على عهد أبيه في مصر أيام ولاية عمرو بن العاص عليها.
وقد أقام عمر الحد على ولده هذا في المدينة ـ بعد أن طلبه من مصر ـ وقد أقام عمرو الحدّ عليه هناك وهو مريض ثم حبسه أشهر فمات على أثر ذلك(12).
7 ـ جهل بعض كبار الصحابة بالأحكام الشرعية، بل بمعاني الألفاظ العربية، وقوله في ذلك بغير علم.
فقد اشتهر عن أبي بكر أنه لم يعرف معنى «الكلالة» بالرغم من نزولها في القرآن، وبيان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم معناها للأمة، فقال حينما سئل عنها:
«إنّي رأيت في الكلالة رأياً، فإن كان صواباً فمن اللّه وحده لا شريك له، وإن يكن خطأ فمنّي والشيطان، واللّه برىء منه…»(13).
8 ـ بيع معاوية بن أبي سفيان الشيء بأكثر من وزنه، فقد جاء في (الموطأ) ما نصه:
«وحدّثني عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ينهى عن مثل هذا، إلاّ مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأساً.
فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها»(14).
9 ـ إقدام زيد بن أرقم على أمر قالت عائشة أنه أبطل جهاده مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إن لم يتب. فقد روى جماعة من المحدّثين والفقهاء والمفسرين عن أم يونس أن عائشة زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قالت لها أم بحنة أم ولد زيد بن أرقم: يا أمّ المؤمنين، أتعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته عبداً إلى العطاء بثمانمائة، فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محلّ الأجل بستمائة، فقالت: بئس ما اشريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن لم يتب.
قالت: فقلت أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة؟ قالت: نعم: فـ(مَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ)»(15).
10 ـ مؤامرة عائشة وحفصة على زينب بنت جحش، فقد روي عن عائشة أنها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها، فتوأطات أنا وحفصة على أنَّ أيّتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير(16)؟ قال: لا ولكن أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود له، لا تخبري بذلك أحداً»(17).
والخلاصة: فإنّ الآيات الكريمة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية وكتب التاريخ والفقه تشهد على بطلان حديث النجوم، وتدل على أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لا يجيز لنا الاقتداء بكلّ واحد من صحابته، لمجرد صحبته وفيهم المنافق والفاسق والمجرم.
فمعنى حديث النجوم دليل آخر على أنّه موضوع، بالاضافة إلى ضعف جميع رواته وطرقه.
وقد نص على بطلان هذا الحديث من هذه الناحية جماعة من علماء الحديث كالبزّار(18) وابن القيّم(19) وابن حزم(20).
نعم. هناك في كتب أهل السنة ومصادرهم المعتبرة في الحديث، أحاديث رووها عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نؤمن بمضمونها، ونأخذ بمؤدّاها، ونعتقد بمدلولها، ولا مجال لورود شيء من المحاذير فيها، كقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم:
«النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي»(21).
وقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «النجوم أمان لأهل السماء، فاذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء. وأهل بيتي امان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض»(22).
وقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم:
«النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فإذا خالفتهم قبيلة اختلفوا فصاروا حزب ابليس»(23).
وإنما قلنا ذلك: لاعتضادها بآيات القرآن العظيم والأحاديث المتواترة عن النبي الكريم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وثبوت عصمة أئمة أهل البيت (وهم عليّ وبنوه الأحد عشر) بالكتاب والسنة، وعدم اختلافهم في شيء من الأحكام، وحرصهم التام على تطبيق الشريعة المقدسة…
وختاماً نعود فنسأل: هل يصح هذا الحديث عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؟
الجواب: كلاّ.. فإنّ التتبع لكلمات أئمة أهل السنة وآرائهم في هذا الحديث، والنظر في أسانيده، والتأمّل في متنه… كلّ ذلك يدل بوضوح على أن هذا الحديث موضوع باطل بجميع ألفاظه وأسانيده لا يصح التمسك به والاستناد إليه.
ويرى القارىء الكريم أنا لم نعتمد في هذا البحث إلاّ على أوثق المصادر في الحديث والتاريخ والتراجم وغيرها، ولم ننقل إلاّ عن أعيان المشاهير وأئمّة الحديث والتفسير والأصول والتاريخ.
ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفّقنا لتحقيق السنّة واتّباع ما هو بذلك حقيق، والاقتداء بمن هو به جدير… وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد الهادي الأمين وآله المعصومين والحمد للّه رب العالمين.
(1) سورة آل عمران 3:144.
(2) سورة التوبة 9:101.
(3) رواه جماعة، وقال المقبلي في (العلم الشامخ): «وحديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة رواياته كثيرة يشد بعضها بعضاً بحيث لا تبقى ريبة في حاصل معناه». تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمّد أبو زهرة: 11.
(4) صحيح البخاري، باب في الحوض 4 / 87 ـ 88 وغيره من الصحاح وكتب الحديث.
(5) إرشاد الفحول: 76.
(6) الجامع الصغير 2 / 303 حرف الشين الرقم 4934، قال المناوي: خرّجه الامام أحمد في المسند وكذا أبو يعلى عن أبي نفيسة، ورواه أحمد والطبراني عن أبي موسى، وأبو نعيم فيع الحلية عن أبي بكر. فيض القدير 4 / 229.
(7) هذه القصة مشهورة رواها كافة أرباب التواريخ، كالطبري وابن الأثير وابن خلدون والمسعودي وأبي الفداء… وغيرهم.
(8) وهذه الواقعة أيضاً مشهورة تجدها في جميع التواريخ والسير وكتب الكلام، وهي إحدى موارد الطعن في أبي بكر بن أبي قحافة.
(9) وفيات الأعيان 6 / 364، تاريخ الطبري 3 / 168 ـ 170 البداية والنهاية 7 / 93 ـ 94 وفي الواقعة هذه مخالفتان للنصوص الشرعية والأحكام الاسلامية الضرورية كما لا يخفى.
(10) صحيح البخاري 2 / 774 ـ 775 كتاب البيوع، باب لايذاب شحم الميتة، الرقم 2110 وغيره.
(11) المبسوط في الفقه الحنفي، كتاب الإكراه 24 / 46.
(12) شرح النهج 12 / 104 ـ 106، وفي القضية مخالفات للنصوص الشرعية كما لا يخفى.
(13) ذكر ذلك جميع المفسرين وعلماء الكلام.
(14) الموطأ 2 / 634 كتاب البيوع، باب بيع الذهب بالفضة تبراً وعيناً، الرقم 33، وانظر شرحه للسيوطي 2 / 135 ـ 136.
(15) تفسير ابن كثير 1 / 335، الدر المنثور 1 / 645 كلاهما في تفسير الآية 275 من سورة البقرة النازلة في تحريم الربا، وأضاف ابن كثير: «وهذا الأثر مشهور» وذكره ابن الأثير في (جامعه) والمرغيناني في (هدايته) والكاساني في (بدائعه).
(16) المغفور، جمعه مغافر ومغافير: صمغ كريه الرائحه يسيل من بعض الشجر.
(17) تجده في الصحاح وغيرها.
(18) تقدم قوله: والكلام أيضاً منكر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
(19) إعلام الموقعين عن رب العالمين 2 / 231 ـ 232.
(20) راجع سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1 / 83 حيث قال: «فمن المحال أن يأمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم باتّباع كلّ قائل من الصحابة…».
(21) ذخائر العقبى: 49 تحت عنوان (ذكر أنهم أمان لأمة محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم)، إحياء الميت: 68 عن جماعة من أئمة الحديث.
(22) ذخائر العقبى: 49، اسعاف الراغبين: 130 (بهامش نور الأبصار) كلاهما عن أحمد.
(23) إحياء الميت: 85 عن الحاكم، إسعاف الراغبين 130 إلى «الاختلاف» قال: «صحّحها الحاكم على شرط الشيخين».