على من يجب نصب الإمام؟
وكأنّ الوجه في قول المشهور منهم بكون الإمامة من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين: أنّ نصب الإمام واجب على الأُمّة لا على اللّه.. قال السعد التفتازاني:
«نصب الإمام واجب على الخلق سمعاً عندنا وعند عامة المعتزلة، وعقلا عند بعضهم، وعلى اللّه عند الشيعة… لنا وجوه… الأوّل ـ وهو العمدة ـ : إجماع الصحابة، حتّى جعلوا ذلك أهمّ الواجبات، واشتغلوا به عن دفن الرسول…»(1).
إنّهم قالوا بوجوب نصب الإمام… .
ثمّ قالوا بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مات بلا وصية! وأنكروا أن يكون هناك نصّ أو تعيين من اللّه ورسوله بالإمامة لأحدمن بعده… .
فكان وجوب نصبه من وظائف المكلّفين(2)… .
والدليل العمدة على ذلك: إجماع الصحابة، حتّى جعلوا ذلك أهمّ الواجبات واشتغلوا به عن دفن الرسول… .
وإذا كان هذا هو العمدة في الأدلّة، فالأمر سهل.. ففي هذا الدليل نظر من وجوه(3)، أحدها: عدم تحقّق هذا الإجماع!
نعم، ترك أبو بكر وعمر ومن تابعهما جنازة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على الأرض، وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة حيث اجتمع جمع من الأنصار للنظر في أمر الخلافة… ثمّ أقبلوا على بني هاشم ومن بقي معهم حول الجنازة، يطالبونهم البيعة لأبي بكر!
فالّذين «جعلوا ذلك أهمّ الواجبات».. «حتّى قدّموه على دفن النبيّ» هم طائفة من الصحابة، وليس كلّهم.
هذا بناءً على أن يكون اجتماع الأنصار في السقيفة للنظر في أمر الخلافة.
أمّا بناءً على ما قيل من أنّهم اجتمعوا هناك للنظر في شؤونهم الخاصّة بهم، وللاتّفاق على رأي واحد في التعامل مع المهاجرين… ونحو ذلك… فالأمر أوضح… .
وتقول الشيعة:
1 ـ أمر الإمامة بيد اللّه سبحانه.
2 ـ ويجب عليه نصب الإمام.
3 ـ وإنّه قد فعل(4).
أمّا أنّ أمرها بيده، فيدلُّّ عليه الكتاب والسُنّة، ومن ألطف ما وجدته من السُنّة في هذا الباب، ما رواه أرباب السير:
«وذكر ابن إسحاق: أنّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم عرض نفسه على كندة وكلب، أي إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبداللّه، فقال لهم: إنّ اللّه قد أحسن اسم أبيكم، أي: عبداللّه، أي: فقد قال صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم: أحبّ الأسماء إلى اللّه عزّوجلّ عبداللّه وعبدالرحمن. ثمّ عرض عليهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
وعرض على بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة، أي فقال له رجل منهم:
أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثمّ أظفرك اللّه على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟
فقال: الأمر إلى اللّه يضعه حيث شاء.
فقال له: أنقاتل العرب دونك ـ وفي رواية: أنهدف نحورنا للعرب دونك، أي: نجعل نحورنا هدفاً لنبلهم ـ فإذا أظهرك اللّه كان الأمر لغيرنا ؟! لا حاجة لنا بأمرك. وأبو عليه»(5).
فإنّ هذا الخبر جديرٌ بالملاحظة الدقيقة..
لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ حين عرض نفسه على تلك القبيلة ودعاهم إلى التوحيد ـ في أصعب الظروف وأشقّها، إنّه كان يطلب من القوم ـ حسب هذه الأخبار ـ أن يؤمنوا به ويحموه من كيد المشركين وأذاهم.. «فيردّون عليه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أقبح الردّ، يقولون له: أُسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك».
إنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان يعنيه حتّى الرجل الواحد يؤمن به ويتّبعه ويمنعه من أن يلحقه الأذى من قريش وغيرها.
ومع كلّ هذا، فلمّا طلبت منه تلك القبيلة أن يعدَهم برئاسة إن أظفره اللّه على من خالفه! أجاب بكلّ صراحة وبلا أيّ تردّد: «الأمر إلى اللّه يضعه حيث شاء» أي: ليس أمر خلافته من بعده بيده، كما لم يكن أمر نبوّته بيده..
إنّ هذا الخبر لمن أقوى الأدلّة السمعية على إنّ نصب الإمام بيد اللّه سبحانه وتعالى، وليس الأمر بيد الرسول فضلا عن أن يترك إلى الناس!!
وأمّا وجوب النصب على اللّه، فلوجوه، منها: وجوب اللطف عليه.
وأمّا أنّه قد نصب الإمام بعد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فيدلُّ عليه الآيات الكثيرة من القرآن الكريم، والأحاديث القطعية عن النبيّ العظيم، وهذا هو موضوع كتب الإمامة التي ألّفها علماء الإمامية.
(1) شرح المقاصد 5 / 235 ـ 236.
(2) راجع ـ تثبيت الإمامة ـ لأبي نعيم ـ : 70 ـ 73 ح 27 ـ 30، غياث الأُمم ـ للجويني ـ : 55 ـ 65، الأربعين في أُصول الدين ـ للفخر الرازي ـ 2 / 255 ـ 256.
(3) منها: إنّه إذا كان نصب الإمام بعد النبيّ من أهمّ الواجبات، حتّى إنّ القوم تركوا جنازته على الأرض ـ مع ما فيه من الوهن للإسلام والنبيّ ـ وراحوا يعيّنون الخليفة له والإمام بعده، فلماذا ترك النبيّ نفسه «أهمّ الواجبات» هذا، وترك الدين والمسلمين عرضةً للأهواء كما يزعمون؟!
(4) انظر: الإفصاح في إمامة أميرالمؤمنين عليه السّلام: 27 ـ 29، المقنع في الإمامة: 47 ـ 54، الألفين: 31 ـ 34.
(5) السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 2 / 271ـ272، السيرة الحلبية 2 / 154.