الجدال في القرآن:
ولقد أقرّت الأديان السماوية أُسلوب «الجدال» واتّخذه الأنبياء السابقون طريقاً من طرق الدعوة… وقد ورد في القرآن الكريم نماذج من ذلك كما سيأتي.
وأمّا نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ففي الوقت الذي أُرسل كما خاطبه اللّه عزّوجلّ في الآية المباركة: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً)(1) فقد حدّد له كيفية الدعوة وأداتها بقوله له: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(2) ثمّ أمره بالجدال حين يكون هناك جدال منهم، فقال بعد ذلك: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(3).
وفي الجملة، فإنّ الوظيفة الأوّلية هي البلاغ والدعوة إلى سبيل اللّه، فإن كان هناك مَن تنفعه «الحكمة» فبها، وإن كان من عموم الناس فبالنصيحة والموعظة الحسنة، فإن وجد في القوم من يريد الوقوف أمامه أو التغلّب عليه وجب عليه جداله.
ولعلّ المقصود ـ هنا ـ أهل الكتاب، كما في الآية الأُخرى: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(4).
وعلى ضوء ما تقدّم، فإنّ الجدال قد يكون حقّاً وقد يكون باطلا، قال تعالى: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)(5).
وهناك في القرآن الكريم موارد من تعليم اللّه سبحانه النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم طريقة الاستدلال، ففي سورة يس مثلا: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاَْخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ بِقَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(6).
وفي سورة البقرة: (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(7).
وفي سورة البقرة أيضاً: (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ)(8).
وفي سورة المائدة: (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ)(9).
وفي سورة المائدة أيضاً: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ…)(10).
وفي سورة الأنعام: (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا…)(11).
وفي سورة الأنبياء: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الاَْرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا… أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي…)(12).
كما جاءت في القرآن الكريم موارد كثيرة من مجادلات واحتجاجات الأنبياء السابقين..
ففي قضايا إبراهيم عليه السّلام.. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(13).
وقال تعالى: (وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْء عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ)(14).
وقال سبحانه وتعالى: (قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَء يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)(15).
وفي قضايا نوح عليه السلام… قال تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ… قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا…)(16).
وهكذا.. في قضايا سائر الأنبياء، صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.
(1) سورة الأحزاب 33 : 45 و 46.
(2) سورة النحل 16 : 125.
(3) سورة النحل 16 : 125.
(4) سورة العنكبوت 29 : 46.
(5) سورة الكهف 18 : 56.
(6) سورة يس 36 : 78 ـ 83.
(7) سورة البقرة 2 : 111.
(8) سورة البقرة 2 : 94.
(9) سورة المائدة 5 : 17.
(10) سورة المائدة 5 : 18.
(11) سورة الأنعام 6 : 71.
(12) سورة الأنبياء 21 : 21 ـ 24.
(13) سورة البقرة 2: 258.
(14) سورة الأنعام 6: 80.
(15) سورة الأنبياء 21 : 62 ـ 67.
(16) سورة هود 11 : 28 ـ 32.