صحّة السند:
أقول: ورجال السند كلّهم ثقات، وأكثرهم من الائمّة الأعلام:
* فأمّا يونس بن عبد الأعلى، الصدفي المصري، فهو من رجال مسلم والنسائي وابن ماجة، ومن مشايخ أبي حاتم وأبي زرعة وابن خزيمة وأبي عوانة وأمثالهم من الائمّة; وقد وُصف بـ«ركن من أركان الإسلام» وقال الذهبي عنه: «كان كبير المعدّلين والعلماء في زمانه بمصر».. «كان قرّة عين، مقدّماً في العلم والخير والثقة»، توفّي سنة 264(1).
* وأمّا يحيى بن عبداللّه بن بكير، المصري، فهو من رجال الصحيحين وغيرهما، ووصفه الذهبي بـ«الإمام المحدّث، الحافظ الصدوق… كان غزير العلم، عارفاً بالحديث وأيّام الناس، بصيراً بالفتوى، صادقاً، ديّناً… ما علمت له حديثاً منكراً حتّى أُورده» مات سنة 231(2).
* وأمّا الليث بن سعد، عالم الديار المصرية، فهو من رجال الصحاح الستّة.. قال الذهبي: «كان الليث رحمه اللّه فقيه مصر ومحدّثها ومحتشمها ورئيسها، ومن يفتخر بوجوده الإقليم…»(3).
* وأمّا علوان بن داود، فقد أورده أبو حاتم في الثقات(4)، وحسّنه سعيد بن منصور كما سيأتي، وكذا ورد في سند الحاكم في مستدركه كما ستعلم كذلك.
وابن أبي حاتم ذكره بعنوان «علوان بن إسماعيل»، قال: «علوان بن إسماعيل الفرقسائي، روى عن حميد بن عبد الرحمن بن حميد بن عبدالرحمن بن عوف… روى عنه: الليث… سمعت أبي يقول ذلك»(5).
وقيل علوان بن صالح(6)، وهكذا ورد في الإسناد الثاني الطبري(7)، وفي بعض الكتب أنّه توفّي سنة 180(8).
* وأمّا صالح بن كيسان، فهو من رجال الصحاح الستّة، قال الذهبي: «صالح بن كيسان، الإمام الحافظ الثقة، أبو محمّد، ويقال: أبو الحارث، المدني…»(9).
* وأمّا عمر بن عبد الرحمن بن عوف، فهو من رجال أبي داود، قال الحافظ ابن حجر: «مقبول»(10).
وتلخّص: صحّة الحديث على ضوء كلمات علماء القوم، مضافاً إلى:
1 ـ إنّ الحاكم النيسابوري أخرج قطعةً منه، في كتاب الفرائض، من المستدرك على الصحيحين، بإسناده عن علوان بن داود، عن صالح بن كيسان، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه; وهي قوله: «وددت أنّي سألت النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن ميراث العمّة والخالة، فإنّ في نفسي منها حاجة»(11).
2 ـ إنّ المتّقي الهندي أخرج الحديث، فأسنده إلى: أبي عبيد في كتاب الأموال، والعقيلي، وخيثمة بن سليمان الأطرابلسي في فضائل الصحابة، الطبراني، ابن عساكر، سعيد بن منصور، وقال: «إنّه حديث حسن»(12).
وسعيد بن منصور الذي حسّن الحديث من أعلام الأئمّة في الحديث والرجال، ومن رجال الصحاح الستّة.
فعن أحمد بن حنبل: كان سعيد من أهل الفضل والصدق.
وعن أبي حاتم الرازي: هو ثقة، من المتقنين الأثبات، ممّن جمع وصنّف.
وقال الذهبي: الحافظ الإمام، شيخ الحرم، مؤلّف كتاب السنن(13)(14).
3 ـ إنّ سعيد بن عفير، الراوي الآخر للحديث عن علوان بن داود، وهو سعيد بن كثير بن عفير المصري، وينسب إلى جدّه، من رجال الصحيحين وغيرهما… .
وقال ابن عديّ ما ملخّصه: «لم أسمع أحداً ولا بلغني عن أحد من الناس كلام في سعيد بن كثير بن عفير، وهو عند الناس صدوق ثقة، وقد حدّث عن الأئمّة من الناس، ولا أعرف سعيد بن عفير غير المصري، ولم أجد لسعيد بعد استقصائي على حديثه شيئاً ممّا ينكر عليه أنّه أتى بحديث به برأسه إلاّ حديث مالك عن عمّه أبي سهيل، أو أتى بحديث زاد في إسناده إلاّ حديث غسل النبيّ، وكِلا الحديثين يرويهما عنه ابنه عبيد اللّه، ولعلّ البلاء من عبيداللّه، لأنّي رأيت سعيد ابن عفير مستقيم الحديث»(15).
وذكر الذهبي كلام ابن عديّ وتعقّبه: «بلى، لسعيد حديث منكَر من رواية عبداللّه بن حمّاد الآملي، عن سعيد بن عفير، عن يحيى بن أيّوب، عن عبيداللّه بن عمر، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً، في عدم وجوب العمرة…»(16).
وتلخّص: إنّ الرجل من أصدق الناس وأوثقهم، وإنّ حديثه عن «علوان» ليس حديثاً منكراً.
هذا، وقد رواه عن علوان بن داود رجل آخر أيضاً، اسمه الوليد ابن الزبير، كما سيأتي في رواية ابن عساكر.
4 ـ إنّ ابن عساكر أخرج هذا الحديث وليس فيه «علوان»، قال:
أخبرنا أبو البركات عبداللّه بن محمّد بن الفضل الفراوي وأُمّ المؤيّد نازيين المعروفة بجمعة بنت أبي حرب محمّد بن الفضل بن أبي حرب، قالا: أنا أبو القاسم الفضل بن أبي حرب الجرجاني، أنبأ أبو بكر أحمد بن الحسن، نا أبو العبّاس أحمد بن يعقوب، نا الحسن ابن مكرم بن حسّان البزّار أبو علي ببغداد، حدّثني أبو الهيثم خالد بن القاسم، قال: حدّثنا ليث بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن حميد ابن عبدالرحمن بن عوف، عن أبيه، أنّه دخل على أبي بكر…».
قال ابن عساكر: «كذا رواه خالد بن القاسم المدائني عن الليث، وأسقط منه علوان بن داود.
وقد وقع لي عالياً من حديث الليث، وفيه ذكر علوان، أخبرناه…».
ثمّ قال: «ورواه غير الليث عن علوان، فزاد في إسناده رجلا بينه وبين صالح بن كيسان، أخبرناه أبو القاسم بن السوسي وأبو طالب الحسيني، قالا: أنا علي بن محمّد، أنا أبو محمّد بن أبي نصر، أنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان(17)، أنا أبو محمّد عبداللّه بن زيد بن عبدالرحمن النهراني، نا الوليد بن الزبير، ثنا علوان بن داود البجلي، عن أبي محمّد المدني، عن صالح بن كيسان، عن حميد بن عبدالرحمن ابن عوف، عن أبيه، قال: دخلت على أبي بكر…»(18).
قلت:
والظاهر وقوع السهو في هذا السند، فإنّ «أبو محمّد المدني» هو «صالح بن كيسان» لا غيره، و«الوليد بن الزبير» كأنّه الذي ذكره ابن أبي حاتم، قال: «سمع منه أبي بحمص وروى عنه… سئل أبي عنه فقال: صدوق»(19).
5 ـ إنّ أبا عبيد… وهو القاسم بن سلاّم، الإمام الحافظ، المجتهد، ذو الفنون، المقبول عند الكلّ، قال إسحاق بن راهويه: إنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ، أبو عبيد أعلم منّي ومن ابن حنبل والشافعي.. توفّي سنة 224(20)، روى في كتاب الأموال قال: «حدّثني سعيد بن عفير، قال: حدّثني علوان بن داود ـ مولى أبي زرعة بن عمرو بن جرير ـ ، عن حميد بن عبدالرحمن بن حميد بن عبدالرحمن بن عوف، عن صالح بن كيسان، عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف، عن أبيه عبد الرحمن، قال: دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي توفّي فيه، فسلّمت عليه، وقلت: ما أرى بك بأساً والحمد للّه، ولا تأس على الدنيا، فواللّه إن علمناك إلاّ كنت صالحاً مصلحاً.
فقال: أما إنّي لا آسى على شيء إلاّ على ثلاث فعلتهم وددت أنّي لم أفعلهم، وثلاث لم أفعلهم وددت أنّي فعلتهم، وثلاث وددت أنّي سألت رسول اللّه عنهم.
فأمّا التي فعلتها ووددت أنّي لم أفعلها: فوددت أنّي لم أكن فعلت كذا وكذا ـ لخلّة ذكرها، قال أبو عبيد: لا أُريد ذِكرها(21) ـ …»(22).
أقول:
لو كان ما فعله أبو بكر حقّاً، لما أعرض أبو عبيد عن ذِكره، ولو كان الخبر كذباً لكذّب الخبر قبل أن يكتم تلك الخلّة ولا يذكرها!!
6 ـ وإنّ ابن تيميّة ـ المعروف بنصبه وعناده لأهل البيت عليهم السّلام ـ يعترف بالقضيّة ثمّ يقول بلا حياء: «إنّه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال اللّه الذي يقسّمه وأن يعطيه لمستحقّه، ثمّ رأى أنّه لو تركه لهم لجاز، فإنّه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء»(23).
4 ـ تحريم عمر المغالاة في المهر:
وقال الفضل: «شأن أئمّة الإسلام وخلفاء النبوّة أن يحفظوا صورة سُنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم في الأُمّة، فأمرهم بترك المغالاة، والإجماع على أنّ الإمام له أن يأمر بالسُنّة أن يحفظوها، ولا يختصّ أمره بالواجبات، بل له الأمر بإشاعة المندوبات، وهذا ممّا لا نزاع فيه، كما أجاب قاضي القضاة بأنّه طلب الاستحباب في ترك المغالاة والتواضع في قوله، وأمّا تخطئة قاضي القضاة في جوابه، فخطأ بيّن، لأنّه لم يرتكب المحرّم، بل هدّد به…»(24).
أقول:
لقد حرّم عمر المغالاة بالمهر، وهذا ما فهمه الناس من كلامه، وهو ما رواه وفهمه كذلك أئمّة القوم من قوله.
أمّا أصل خطبته في ذلك، فقد أخرجه أحمد في المسند(25)، والدارمي والترمذي وابن ماجة والنسائي والبيهقي في سننهم في كتاب النكاح(26)، وقال الحاكم بعد أن روى الحديث ببعض طرقه: «فقد تواترت الأسانيد الصحيحة بصحّة خطبة أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب. وهذا الباب لي مجموع في جزء كبير، ولم يخرّجاه».
فقد نصّ على تواتر الخبر، ووافقه الذهبي(27). ولكن لم يذكر اعتراض المرأة، ولا كلام عمر، ثمّ عدوله عمّا قاله!… .
قال السيوطي: «وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى ـ بسند جيّد ـ عن مسروق، قال: ركب عمر بن الخطّاب المنبر ثمّ قال: أيّها الناس! ما إكثار كم في صداق النساء، وقد كان رسول اللّه وأصحابه وإنّما الصدقات في ما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند اللّه أو مكرمة لم تسبقوهم إليها; فلا أعرفنّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. ثمّ نزل.
فاعترضته امرأة من قريش فقالت له: يا أمير المؤمنين! نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم؟! قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل اللّه، يقول: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً)(28) فقال: اللّهمّ غفرانك، كلّ الناس أفقه من عمر.
ثمّ رجع، فركب المنبر فقال: يا أيّها الناس! إنّي كنت قد نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحبّ.
وأخرج عبد الرزّاق وابن المنذر، عن أبي عبدالرحمن السلمي، قال: قال عمر بن الخطّاب: لا تغالوا في مهور النساء. فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر، إنّ اللّه يقول: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً) ـ من ذهب.
قال: وكذلك هي في قراءة ابن مسعود ـ ، فقال عمر: إنّ امرأة خاصمت عمر فخصمته.
وأخرج الزبير بن بكّار في الموفقيات، عن عبداللّه بن مصعب، قال: قال عمر: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة: ما ذاك لك! قال: ولِمَ؟! قالت: لأنّ اللّه يقول: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً). فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ»(29).
وتلخّص:
1 ـ إنّ عمر حرّم.
2 ـ وهدّد بإلقاء الزيادة في بيت المال.
3 ـ وإنّ الناس فهموا من كلامه التحريم، فاعترضته المرأة القرشية.
4 ـ وخصمته بالقرآن، فرجع عن تحريمه.
5 ـ وظهرت جرأته على اللّه تعالى، أو جهله بالأحكام الشرعية.
وهذا الموضع أيضاً من جملة المواضع التي يظهر فيها الفرق بين ابن روزبهان وابن تيميّة، فإنّ ابن تيميّة يصرّح بكون قوله مخالفاً للنصّ، وإنّه قد أخطأ فيه، إلاّ أنّه كان مجتهداً، وهو لم ينفّذ اجتهاده لمّا علم ببطلانه(30).
5 ـ ابتداع عمر صلاة التراويح:
وقال الفضل: «قد ثبت في الصحاح عن زيد بن ثابت أنّ النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم اتّخذ حجرةً في المسجد…، وعن أبي هريرة: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة… ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر، وعن أبي ذرّ… .
وهذه الأخبار كلّها في الصحاح، وهذا يدلّ على إنّ رسول اللّه كان يصلّي التراويح بالجماعة أحياناً ولم يداوم عليها مخافة أن تُفرض على المسلمين فلم يطيقوا… .
فلمّا انتهى هذه المخافة جمعهم عمر وصلّى التراويح… فقال عمر: بدعة ونعمت البدعة! أراد به أنّه لم يتقرّر أمرها في زمان رسول اللّه، وهذا لا ينافي كونها معمولة في بعض الأوقات…»(31).
أقول:
ذكرالحافظ السيوطي في رسالته المصابيح في صلاة التراويح ما ملخّصه:
«سئلت مرّات: هل صلّى النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم التراويح وهي العشرون ركعة المعهودة الآن؟ وأنا أُجيب بلا، ولا يقنع منّي بذلك، فأردت تحرير القول فيها; فأقول: الذي وردت به الأحاديث الصحيحة والحسان والضعيفة: الأمر بقيام رمضان والترغيب فيه، من غير تخصيص بعدد، وإنّه لم يثبت أنّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم صلّى عشرين ركعة، وإنّما صلّى ليالي صلاةً لم يذكر عددها، ثمّ تأخّر في الليلة الرابعة خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها.
وقد تمسّك بعض من أثبت ذلك بحديث ورد فيه، لا يصلح الاحتجاج به، وأنا أُورده و أُبيّن وهاءه، ثمّ أُبيّن ما ثبت بخلافه:
روى ابن أبي شيبة في مسنده، قال: حدّثنا يزيد، أنا إبراهيم بن عثمان، عن الحكم بن مقسم، عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللّه كان يصلّي في رمضان عشرين ركعة والوتر… .
قلت: هذا الحديث ضعيف جدّاً لا تقوم به حجّة. قال الذهبي في الميزان: إبراهيم بن عثمان، أبو شيبة الكوفي، قاضي واسط… (فذكر الكلمات في تجريحه). قال الذهبي: ومن مناكيره ما رواه عن الحكم بن مقسم عن ابن عبّاس، قال: كان رسول اللّه يصلّي في رمضان في غير جماعة عشرين ركعة والوتر… .
الوجه الثاني: إنّه قد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عائشة: سئلت عن قيام رسول اللّه في رمضان فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.
الثالث: قد ثبت في صحيح البخاري عن عمر أنّه قال في التراويح: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل. فسمّاها بدعة، يعني بدعة حسنة. وذلك صريح في أنّها لم تكن في عهد رسول اللّه. وقد نصّ على ذلك الإمام الشافعي وصرّح به جماعات من الأئمّة، منهم الشيخ عزّ الدين ابن عبدالسلام حيث قسّم البدعة إلى خمسة أقسام وقال: ومثال المندوبة صلاة التراويح، ونقله عنه النووي في تهذيب الأسماء واللغات. ثمّ قال: وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي… وقد قال عمر في قيام شهر رمضان: نعمت البدعة هذه. يعني: إنّها محدثة لم تكن. هذا آخر كلام الشافعي.
الرابع: إنّ العلماء اختلفوا في عددها، ولو ثبت ذلك من فعل النبيّ لم يُختلف فيه.
وفي الأوائل للعسكري: أوّل من سنّ قيام رمضان عمر، سنة أربع عشرة. وأخرج البيهقي وغيره من طريق هشام بن عروة عن أبيه، قال: إنّ عمر بن الخطّاب أوّل من جمع الناس على قيام شهر رمضان، الرجال على أُبيّ بن كعب، والنساء على سليمان بن أبي خثمة. وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة نحوه… .
وأخرج أحمد بسند حسن عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللّه يرغّب في قيام رمضان، ولم يكن رسول اللّه جمع الناس على القيام»(32).
هذه خلاصة ما ذكره السيوطي في رسالته.
فالحاصل: أوّلا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يصلّ الركعات المعهودة عندهم في شهر رمضان، أصلا.
وثانياً: إنّه لم يصلّ تلك الركعات جماعةً.
وثالثاً: إنّ القيام بهذه الصلاة جماعة من أوّليّات عمر وبدعه، وإنّ ذلك رأي الشافعي وجماعات كبيرة من الأئمّة الأعلام.
6 ـ حكم عمر برجم الحامل والمجنونة:
وقال الفضل: «الأئمّة المجتهدون قد يعرض لهم الخطأ في الأحكام… .
وإن صحّ ما ذكر من حكم عمر في الحامل والمجنونة، فربّما كان لشيء ممّا ذكرناه، ولا يكون هذا طعناً.
وكيف يصحّ لأحد أن يطعن في علم عمر وقد شاركه النبيّ في علمه كما ورد في الصحاح عن ابن عمر؟!…»(33).
أقول:
قد ثبت جهل عمر بآيات الكتاب والأحكام الشرعية، في موارد كثيرة، فإن أصرّ أولياؤه على كونه عالماً بالكتاب والأحكام، لزمهم القول بجرأته على اللّه والرسول في تلك المواضع، ومخالفته للنصوص عن علم وعمد… .
ومن ذلك هذان الموضعان، وقد ثبت في المصادر أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام هو الذي منعه من رجمها، وتشكيك ابن روزبهان في صحّة الخبر مكابرة واضحة، تبع فيها ابن تيميّة الحرّاني(34).
أمّا قضيّة المرأة الحامل التي ولدت لستّة أشهر فهمّ عمر برجمها، فقد أخرجها:
عبد الرزّاق بن همّام الصنعاني(35)… .
وعبد بن حميد(36)… .
وابن المنذر(37)… .
وابن أبي حاتم(38)… .
والبيهقي(39)… .
وابن عبدالبرّ(40)… .
والمحبّ الطبري(41)… .
والمتّقي الهندي(42)… .
قال ابن عبدالبرّ: فكان عمر يقول: لو لا عليٌّ لهلك عمر(43).
7 ـ ضرب عثمان عبداللّه بن مسعود:
وقال الفضل: «ضرب عثمان عبداللّه بن مسعود ممّا لا رواية فيه أصلا إلاّ لأهل الرفض، وأجمع الرواة من أهل السُنّة أنّ هذا كذب وافتراء، وكيف يضرب عثمان عبداللّه بن مسعود وهو من أخصّ أصحاب رسول اللّه ومن علمائهم؟!…»(44).
أقول:
قال ابن قتيبة: «وكان ممّا نقموا على عثمان أنّه… طلب إليه عبداللّه بن خالد بن أسيد صلةً، فأعطاه أربعمئة ألف درهم من بيت مال المسلمين، فقال عبداللّه بن مسعود في ذلك، فضربه إلى أن دقّ له ضلعين»(45).
وتجد ما كان بينه وبين ابن مسعود في:
تاريخ الطبري 2 / 595 ـ 596… .
العقد الفريد 3 / 308… .
الأوائل ـ لأبي هلال العسكري ـ : 129… .
الكامل في التاريخ 2 / 477… .
أُسد الغابة 3 / 285 رقم 3177… .
الرياض النضرة 3 / 84 … .
تاريخ الخلفاء: 185… .
تاريخ الخميس 2 / 261… .
ومصادر كثيرة غيرها في التاريخ والسير ومباحث الإمامة(46).
فهل هؤلاء من أهل الرفض؟!
8 ـ ضرب عثمان عمّار بن ياسر:
وقال الفضل: «وضرب عمّار بن ياسر ممّا لا رواية به في كتاب من الكتب، ونحن نقول في جملته: إنّ هذه الأخبار وقائع عظيمة تتوفّر الدواعي على نقلها وروايتها، أترى جميع أرباب الروايات سكتوا عنه إلاّ شرذمة يسيرة من الروافض؟! ولقد صدق مأمون الخليفة حيث قال: أربعة في أربعة… والكذب في الروافض…»(47).
أقول:
إن كان هذا الخبر كذباً، فالقوم أكذب من غيرهم; لأنّهم يكذبون على الخلفاء الراشدين عندهم!!
إنّ خبر ضرب عثمان عمّار بن ياسر رضي اللّه عنه موجود في أشهر كتب القوم في التواريخ والسير، وغيرها… .
قال ابن عبدربّه: «ومن حديث الأعمش ـ يرويه أبو بكر بن أبي شيبة ـ قال: كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه، في صحيفة، فقالوا من يذهب بها إليه؟ فقال عمار: أنا. فذهب بها إليه، فلمّا قرأها قال: أرغم اللّه أنفك. قال: وأنف أبي بكر وعمر. قال: فقام إليه فوطئه حتّى غشي عليه. ثمّ ندم عثمان وبعث إليه طلحة والزبير يقولان له: اختر إحدى ثلاث، إمّا أن تعفو، وإمّا أن تأخذ الأرض، وإمّا أن تقتصّ. فقال: واللّه لا قبلت واحدة منها حتّى ألقى اللّه. قال أبو بكر: فذكرت هذا الحديث للحسن بن صالح، فقال: ما كان على عثمان أكثر ممّا صنع»(48).
وفي الاستيعاب: «فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا: واللّه لئن مات لا قتلنا به أحداً غير عثمان»(49).
وروى الطبري وابن الأثير ـ في خبر ـ : قال مسروق بن الأجدع لعمّار: «يا أبا اليقظان، على ما قتلتم عثمان؟! قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا. فقال: واللّه ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لكان خيراً للصابرين»(50).
وحتّى أئمّة اللغة أوردوا القصّة، ففي مادّة «صبر» ما نصّه عن ابن الأثير وابن منظور والزبيدي: «وفي حديث عمّار حين ضربه عثمان، فلمّا عوتب في ضربه إيّاه قال: هذه يدي لعمّار فليصطبر. معناه: فليقتصّ»(51).
9 ـ سبّ معاوية أمير المؤمنين عليه السّلام:
وقال الفضل: «أمّا سبّ أمير المؤمنين ـ نعوذ باللّه من هذا ـ فلم يثبت عند أرباب الثقة، وبالغ العلماء في إنكار وقوعه، حتّى إنّ المغاربة وضعوا كتباً ورسائل وبالغوا فيه كمال المبالغة. وأنا أقول شعراً…»(52).
أقول:
لا يدافع عن معاوية ـ رئيس الفرقة الباغية ـ إلاّ النواصب، بل إنّ أكثرهم وقاحة وأشدّهم نصباً لا يجرأ على تكذيب سبّ معاوية لأمير المؤمنين عليه السّلام، لأنّ ذلك من ضروريات التاريخ… .
وقوله: «فلم يثبت عند أرباب الثقة» يكفي في كذبه ما أخرجه مسلم في صحيحه: «قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسبّ أبا التراب؟! فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه فلن أسبّه…»(53).
وقال السيوطي: «كان بنو أُميّة يسبّون عليّ بن أبي طالب في الخطبة، فلمّا ولّي عمر بن عبد العزيز أبطله وكتب إلى نوّابه بإبطاله وقرأ مكانه (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)(54) الآية. فاستمرّت قراءتها إلى الآن»(55).
وقال الجاحظ: «إنّ قوماً من بني أُميّة قالوا لمعاوية: يا أمير المؤمنين! إنّك قد بلغت ما أمّلت، فلو كففت عن هذا الرجل؟ فقال: لا واللّه حتّى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، ولا يذكر له ذاكر فضلا»(56).
هذا، وابن تيميّة لم ينكر سبّ معاوية لأمير المؤمنين وأمره بذلك، وإنّما جَعَلَ يدافع عن ذلك! وكان ممّا صرّح به قوله: «ومعاوية رضي اللّه عنه وأصحابه ما كانوا يكفّرون عليّاً… ومن سبّ أبا بكر وعمر وعثمان فهو أعظم إثماً ممّن سبّ عليّاً وإن كان متأوِّلا»(57) فاقرأ واحكم!!
10 ـ قراءة الشافعي على محمّد بن الحسن الشيباني:
وقال الفضل ـ بجواب بيان العلاّمة كيفية استناد العلوم الإسلامية كلّها ورجوعها إلى أمير المؤمنين عليه السّلام ـ : «وأمّا قوله: إنّ الشافعي قرأ على محمّد بن الحسن، فهو كذبٌ باطل»(58).
أقول:
قال المزّي بترجمة الشافعي: «روى عن: إبراهيم بن سعد الزهري… ومحمّد بن الحسن الشيباني، ومحمّد بن خالد الجندي…»(59).
وقال الخطيب: «سمع من مالك بن أنس… ومحمّد بن الحسن الشيباني، وعبد الوهّاب بن عبد المجيد الثقفي…»(60).
بل قال الذهبي: «وأخذ باليمن عن… وببغداد عن: محمّد بن الحسن فقيه العراق، ولازمه، وحمل عنه وقر بعير…»(61).
فإن كان ابن روزبهان جاهلا بمثل هذه الأُمور، فكيف يتكلّم في القضايا العقلية والمسائل العلمية، وإن كان عالماً متعمّداً في تكذيبه للعلاّمة، فاللّه حسيبه!
(1) سير أعلام النبلاء 12 / 348 رقم 144.
(2) سير أعلام النبلاء 10 / 612 رقم 210.
(3) سير أعلام النبلاء 8 / 136 رقم 12.
(4) كتاب الثقات 8 / 526.
(5) الجرح والتعديل 7 / 38 رقم 206.
(6) الضعفاء الكبير 3 / 419 رقم 1461، لسان الميزان 4 / 188 رقم 502.
(7) تاريخ الطبري 2 / 354.
(8) ميزان الاعتدال 5 / 135 رقم 5769.
(9) سير أعلام النبلاء 5 / 454 رقم 203.
(10) تقريب التهذيب 1 / 722 رقم 4952.
(11) المستدرك على الصحيحين 4 / 381 ح 7999.
(12) كنز العمّال 5 / 631 ذ ح 14113.
(13) قسم الفضائل من كتاب «السنن» مفقود، فلم يُطبع مع ما طُبع منه.
(14) سير أعلام النبلاء 10 / 586 رقم 207، تهذيب الكمال 7 / 305 رقم 2343.
(15) الكامل في الضعفاء 3 / 411 رقم 839.
(16) ميزان الاعتدال 3 / 224 رقم 3260.
(17) هو الأطرابلسي، صاحب «فضائل الصحابة».
(18) تاريخ دمشق 30 / 417 ـ 420.
(19) الجرح والتعديل 9 / 5 رقم 19.
(20) سير أعلام النبلاء 10 / 490 رقم 164.
(21) قال محقّقه هنا: وقد ذكرها الذهبي في الميزان وهي قوله: «وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة وتركته وإن أُغلق على الحرب».
(22) كتاب الأموال: 174.
(23) منهاج السُنّة 8 / 291.
(24) دلائل الصدق 3 / 133 ـ 134.
(25) مسند أحمد 1 / 40 ـ 41 و 48.
(26) مسند الدارمي 2 / 99 ح 2196، سنن الترمذي 3 / 422 ح 1114، سنن ابن ماجة 1 / 607 ح 1887، سنن النسائي 6 / 117، سنن البيهقي 7 / 233.
(27) المستدرك على الصحيحين 2 / 191 ـ 193 ح 2725 ـ 2728.
(28) سورة النساء 4 : 20.
(29) الدرّ المنثور 2 / 466، وانظر: الأخبار الموفّقيات: 507 رقم 430.
(30) منهاج السُنّة 6 / 76.
(31) دلائل الصدق 3 / 213 ـ 214.
(32) المصابيح في صلاة التراويح ـ المطبوعة ضمن كتاب «الحاوي للفتاوي» ـ 1 / 347 ـ 350.
(33) دلائل الصدق 3 / 130.
(34) منهاج السُنّة 6 / 41 و 45.
(35) المصنّف 7 / 350 ح 13444.
(36) انظر: الدرّ المنثور 7 / 441 ـ 442.
(37) انظر: الدرّ المنثور 7 / 441 ـ 442.
(38) كما في كنز العمّال 5 / 457 ح 13598.
(39) السنن الكبرى 7 / 442.
(40) مختصر جامع بيان العلم وفضله: 265.
(41) الرياض النضرة 3 / 161.
(42) كنز العمّال 5 / 457 ح 13598.
(43) الاستيعاب 3 / 1103.
(44) دلائل الصدق 3 / 273.
(45) انظر: المعارف: 112ـ113.
(46) انظر مثلا: أنساب الأشراف 6 / 146.
(47) دلائل الصدق 3 / 287.
(48) العقد الفريد 3 / 308.
(49) الاستيعاب 3 / 1136 رقم 1863.
(50) تاريخ الطبري 3 / 26، الكامل في التاريخ 3 / 119.
(51) النهاية في غريب الحديث والأثر 3 / 8، لسان العرب 7 / 277، تاج العروس 7 / 75.
(52) دلائل الصدق 3 / 385.
(53) صحيح مسلم 7 / 120 باب فضائل عليّ بن أبي طالب.
(54) سورة النحل 16 : 90.
(55) تاريخ الخلفاء: 290.
(56) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 4 / 57، النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية: 126، كلاهما عن كتاب الجاحظ في الدفاع عن النواصب.
(57) منهاج السُنّة 4 / 468.
(58) دلائل الصدق 2 / 522.
(59) تهذيب الكمال 16 / 39 رقم 5636.
(60) تاريخ بغداد 2 / 56 رقم 454.
(61) سير أعلام النبلاء 10 / 7 رقم 1.