فمن الطائفة الأُولى:
أبو جعفر الطحاوي(1); قال: «باب بيان مشكل ما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في المراد بقوله تعالى: (إِنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا) مَن هم؟
حدّثنا الربيع المرادي، حدّثنا أسد بن موسى، حدّثنا حاتم بن إسماعيل، حدّثنا بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: لمّا نزلت هذه الآية دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً عليهم السلام، وقال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي.
فكان في هذا الحديث أنّ المراد بما في هذه الآية هم: رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وعليٌّ وفاطمة وحسن وحسين.
حدّثنا فهد، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير بن عبدالحميد، عن الأعمش، عن جعفر، عن عبدالرحمن البجلي، عن حكيم بن سعيد، عن أُمّ سلمة، قالت: نزلت هذه الآية في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وعليّ وفاطمة وحسن وحسين عليهم السلام: (إِنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا).
ففي هذا الحديث: الذي في الأوّل».
ثمّ إنّه أخرج الحديث بأسانيد عديدة عن أُمّ سلمة، وفيها الدلالة الصريحة على اختصاص الآية بأهل البيت الطاهرين، وهي الأحاديث التي جاء فيها أنّ أُمّ سلمة سألت: «وأنا معهم؟»، فقال رسول اللّه صلّى عليه وآله وسلّم: «أنتِ من أزواج النبيّ، وأنتِ على خير ـ أو: إلى خير ـ ».
وقالت: «فقلت: يا رسول اللّه! أنا من أهل البيت؟ فقال: إنّ لك عند اللّه خيراً. فوددت أنّه قال: نعم، فكان أحبّ إليّ ممّا تطلع عليها الشمس وتغرب».
وقالت: «فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه رسول اللّه وقال: إنّكِ على خير».
قال الطحاوي: «فدلّ ما روينا في هذه الآثار ـ ممّا كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى أُمّ سلمة ـ ممّا ذكرنا فيها لم يرد به أنّها كانت ممّن أُريد به ممّا في الآية المتلوّة في هذا الباب، وأنّ المراد بما فيها هم: رسول اللّه صلّى عليه وآله وسلّم وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام دون مَن سواهم..
وممّا يدلّ على مراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بقوله لأُمّ سلمة في هذه الآثار من قوله لها: (أنتِ من أهلي):
ما قد حدّثنا محمّد بن الحجّاج الحضرمي وسليمان الكيساني، قالا: حدّثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، أخبرني أبو عمّار، حدّثني واثلة… فقلت: يا رسول اللّه! وأنا من أهلك؟ فقال: وأنتَ من أهلي.
قال واثلة: فإنّها من أرجى ما أرجو!
وواثلة أبعد منه عليه السلام من أُمّ سلمة منه; لأنّه إنّما هو رجل من بني ليث، ليس من قريش، وأُمّ سلمة موضعها من قريش موضعها الذي هي به منه.
فكان قوله لواثلة: أنت من أهلي، على معنى: لاتّباعِكَ إيّاي وإيمانِك بي، فدخلت بذلك في جملتي.
وقد وجدنا اللّه تعالى قد ذكر في كتابه ما يدلّ على هذا المعنى بقوله (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْني مِنْ أَهْلي)، فأجابه في ذلك بأن قال: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ)(2)، إنّه يدخل في أهله من يوافقه على دينه وإن لم يكن من ذوي نسبه.
فمثل ذلك أيضاً ما كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم جواباً لأُمّ سلمة: «أنتِ من أهلي»; يحتمل أن يكون على هذا المعنى أيضاً، وأن يكون قوله لها ذلك كقوله مثله لواثلة.
وحديث سعد وما ذكرناه معه من الأحاديث في أوّل هذا الباب معقول بها مَن أهل الآية المتلوّة فيها; لأنّا قد أحطنا علماً أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لمّا دعا مَن دعا مِن أهله عند نزولها لم يبقَ مِن أهلها المرادين فيها أحد سواهم، وإذا كان ذلك كذلك استحال أن يدخل معهم في ما أُريد به سواهم، وفي ما ذكرنا من ذلك بيان ما وصفنا.
فإنْ قال قائل: فإنّ كتاب اللّه تعالى يدلّ على أنّ أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هم المقصودون بتلك الآية; لأنّه قال قبلها في السورة التي هي فيها: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ ِلأَزْواجِكَ…)(3)، فكان ذلك كلّه يُرَدْنَ به; لأنّه على خطاب النساء لا على خطاب الرجال، ثمّ قال: (إِنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ).. الآية.
فكان جوابنا له: إنّ الذي تلاه إلى آخر ما قبل قوله: (إِنَّما يُريدُ اللّهُ).. الآية، خطاب لأزواجه، ثمّ أعقب ذلك بخطابه لأهله بقوله تعالى: (إِنَّما يُريدُ اللّهُ).. الآية، فجاء به على خطاب الرجال; لأنّه قال فيه: (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا) وهكذا خطاب الرجال، وما قبله فجاء به بالنون، وكذلك خطاب النساء..
فعقلنا أنّ قوله: (إِنَّما يُريدُ اللّهُ).. الآية، خطاب لمن أراده من الرجال بذلك، ليعلمهم تشريفه لهم ورفعته لمقدارهم، أن جعل نساءهم ممّن قد وصفه لِما وصفه به ممّا في الآيات المتلوّة قبل الذي خاطبهم به تعالى.
وممّا دلّ على ذلك أيضاً ما حدّثنا… عن أنس: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة ياأهل البيت، (إِنَّما يُريدُ اللّهُ).. الآية…
في هذا أيضاً دليل على أنّ هذه الآية فيهم. وباللّه التوفيق»(4).
(1) أبو جعفر أحمد بن محمّد بن سلامة المصري الحنفي ـ المتوفّى سنة 321 هـ ـ توجد ترجمته مع الثناء البالغ في: طبقات أبي إسحاق الشيرازي: 133، والمنتظم 8 / 126، ووفيات الأعيان 1 / 71، وتذكرة الحفّاظ 3 / 808، والجواهر المضيّة في طبقات الحنفية 1 / 271، وغاية النهاية في طبقات القرّاء 1 / 116، وحسن المحاضرة وطبقات الحفّاظ: 337، وغيرها.
وقد عنونه الحافظ الذهبي بقوله: «الطحاوي الإمام العلاّمة، الحافظ الكبير، محدِّث الديار المصرية وفقيهها»، قال: «ذكره أبو سعيد ابن يونس فقال: عداده في حجر الأزد، وكان ثقة ثبتاً فقيهاً عاقلاً، لم يخلّف مثله». قال الذهبي: «قلت: من نظر في تواليف هذا الإمام علم محلّه من العلم وسعة معارفه…». سير أعلام النبلاء 15 / 27 ـ 32 رقم 15.
(2) سورة هود 11: 45 ـ 46.
(3) سورة الأحزاب 33: 28.
(4) مشكل الآثار 1 / 227 ـ 231.