تناقض ابن تيمية
ثمّ إنّ ابن تيميّة تعرض لآية التطهير في موضع آخر، ولكنّه هذه المرّة لم ينصّ على صحّة الحديث! ولم يعترف بمفاده! بل ادّعى كون الأزواج من أهل البيت! وهو القول الثالث الذي نسبه ابن الجوزي إلى الضحّاك بن مزاحم، وهذه عبارته:
«وأمّا آية الطهارة فليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت وذهاب الرجس عنهم، وإنّما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم وذهاب الرجس عنهم; فإنّ قوله: (إِنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا)، وقوله تعالى: (ما يُريدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُريدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)(1)، وقوله: (يُريدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَليمٌ حَكيمٌ * وَاللّهُ يُريدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُريدُ الَّذينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَميلُوا مَيْلاً عَظيمًا * يُريدُ اللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ اْلإِنْسانُ ضَعيفًا)(2).
فالإرادة هنا متضمّنة للأمر والمحبّة والرضا، وليست هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد; فإنّه لو كان كذلك لكان قد طهّر كلّ من أراد طهارته. وهذا على قول هؤلاء القدرية الشيعة أوجه; فإنّ عندهم أنّ اللّه يريد ما لا يكون! ويكون ما لا يريد!
فقوله: (إِنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا)إذا كان هذا بفعل المأمور وترك المحظور كان ذلك متعلّقاً بإرادتهم وأفعالهم، فإن فعلوا ما أُمروا به طُهّروا، وإلاّ فلا.
وهم يقولون: إنّ اللّه لا يخلق أفعالهم ولا يقدر على تطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم، وأمّا المثبتون للقدر فيقولون: إنّ اللّه قادر على ذلك، فإذا ألهمهم فعل ما أمر وترك ما حظر حصلت الطهارة وذهاب الرجس.
وممّا يُبيّن أنّ هذا ممّا أُمروا به لا ممّا أُخبروا بوقوعه: ما ثبت في الصحيح أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أدار الكساء على عليّ وفاطمة وحسن وحسين ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه عن عائشة، ورواه أهل السنن عن أُمّ سلمة.
وهو يدلّ على ضدّ قول الرافضة من وجهين:
أحدهما: أنّه دعا لهم بذلك. هذا دليل على أنّ الآية لم تخبر بوقوع ذلك; فإنّه لو كان قد وقع لكان يثني على اللّه بوقوعه ويشكره على ذلك، ولا يقتصر على مجرّد الدعاء به.
الثاني: أنّ هذا يدلّ على أنّ اللّه قادر على إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم; وذلك يدلّ على أنّه خالق أفعال العباد.
وممّا يُبيّن أنّ الآية متضمّنة للأمر والنهي: قوله في سياق الكلام: (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَة… إِنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ… وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى في بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللّهَ كانَ لَطيفًا خَبيرًا)..
وهذا السياق يدلّ على أنّ ذلك أمر ونهي.
ويدلّ على أنّ أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من أهل بيته; فإنّ السياق إنّما هو في مخاطبتهنّ.
ويدلّ على أنّ قوله: (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) عمّ غير أزواجه، كعليّ وفاطمة وحسن وحسين رضي اللّه عنهم; لأنّه ذكره بصيغة التذكير لمّا اجتمع المذكّر والمؤنّث، وهؤلاء خُصّوا بكونهم من أهل البيت من أزواجه، فلهذا خصّهم بالدعاء لمّا أدخلهم في الكساء..
كما أنّ مسجد قباء أُسّس على التقوى، ومسجده صلّى اللّه عليه وسلّم أيضاً أُسّس على التقوى، وهو أكمل في ذلك; فلمّا نزل قوله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْم…)(3) بسبب مسجد قباء، تناول اللفظ لمسجد قباء ولمسجده بطريق الأوْلى.
وقد تنازع العلماء: هل أزواجه من آله؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، أصحّهما أنّهنّ من آله وأهل بيته، كما دلّ على ذلك ما في الصحيحين من قوله: اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى أزواجه وذرّيّته. وهذا مبسوط في موضع آخر»(4).
أقول:
لقد حاول ابن تيميّة التهرّب من الالتزام بمفاد الآية المباركة والسُنّة النبويّة الثابتة الصحيحة الواردة بشأنها ـ كما اعترف هو أيضاً ـ بشبهات واهية وكلمات متهافتة، ومن راجع كتب الأصحاب في بيان الاستدلال بالآية المباركة ـ في ضوء السُنّة المتّفق عليها ـ عرف موارد النظر ومواضع التعصّب في كلامه..
وقد ذكرنا نحن أيضاً طائفةً من الأحاديث، المشتملة على وقوع إذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم عنه من اللّه سبحانه، بإرادته التكوينيّة غير المنافية لمذهب أهل البيت في مسألة الجبر والاختيار.
فالنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد عيّن المراد من «أهل البيت» عليهم السلام في الآية المباركة بعد نزولها، ودعا لهم أيضاً، ولا ريب في أنّ دعاءه مستجاب.
كما علمنا من الخصوصيات الموجودة في الآية نفسها، ومن الأحاديث الصحيحة الواردة في معناها، أنّ الآية خاصّة بأهل البيت ـ وهذا ما اعترف به جماعة من أئمّة الحديث، كالطحاوي وابن حبّان; تبعاً لأزواج النبيّ وأعلام الصحابة ـ وأنّها نازلة في قضية خاصّة غير أنّها وضعت ضمن آيات نساء النبيّ، وكم له من نظير; إذ وضِعت الآية المكيّة ضمن آيات مدنيّة أو المدنيّة ضمن آيات مكّيّة.
وقد دلّت الآية المباركة والأحاديث المذكورة وغيرها على أنّ عنوان «أهل البيت» ـ أي: أهل بيت النبيّ ـ لا يعمّ أزواجه، بل لا يعمّ أحداً من عشيرته وأُسرته إلاّ بقرينة.
هذا، وفي صحيح مسلم في ذيل حديث الثقلين عن زيد بن أرقم، أنّه سئل: هل نساؤه من أهل بيته؟
قال: لا وأيم اللّه، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها.
وهذا هو الذي دلّت عليه الأحاديث.
وأمّا ما رووه عن زيد أيضاً من أنّ: «أهل بيته من حُرِم الصدقة من بعده»، فيردّ تطبيقه على ما نحن فيه الأحاديث المتواترة المذكور بعضها، ومن الواضح عدم جواز رفع اليد عن مفادها بقول زيد هذا.
(1) سورة المائدة (5): 6.
(2) سورة النساء (4): 26 ـ 28.
(3) سورة التوبة (9): 108.
(4) منهاج السُنّة 4 / 21 ـ 24.