اعتراف ابن تيمية بصحّة الحديث
والعجب أنّ ابن تيميّة لا يقول بهذا ولا بذاك! بل يذعن بصحّة الحديث، كما استدلّ العلاّمة الحلّي ـ رحمه اللّه ـ ..
قال العلاّمة:
«ونحن نذكر هنا شيئاً يسيراً ممّا هو صحيح عندهم، ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم، ليكون حجّةً عليهم يوم القيامة، فمن ذلك:
ما رواه أبو الحسن الأندلسي(1) في الجمع بين الصحاح الستّة: موطّأ مالك، وصحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود، وصحيح الترمذي، وصحيح النسائي: عن أُمّ سلمة ـ زوج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ أنّ قوله تعالى: (إِنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا) أُنزل في بيتها: وأنا جالسة عند الباب، فقلت: يا رسول اللّه، ألست من أهل البيت؟
فقال: إنّكِ على خير، إنّك من أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
قالت: وفي البيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين، فجلّلهم بكساء وقال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي فأذهِب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»(2).
فقال ابن تيمية:
«فصل: وأمّا حديث الكساء فهو صحيح، رواه أحمد والترمذي من حديث أُمّ سلمة..
ورواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة، قال: خرج النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ذات غداة وعليه مِرط مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن بن عليّ فأدخله، ثمّ جاء الحسين، فأدخله معه، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء علي فأدخله، ثمّ قال: (إِنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا).
وهذا الحديث قد شركه فيه فاطمة وحسن وحسين ـ رضي اللّه عنهم ـ فليس هو من خصائصه، ومعلوم أنّ المرأة لا تصلح للإمامة، فعُلم أنّ هذه الفضيلة لا تختصّ بالأئمّة، بل يشركهم فيها غيرهم.
ثم إنّ مضمون هذا الحديث أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم دعا لهم بأنْ يُذهب عنهم الرجس ويطهّرهم تطهيراً.
وغاية ذلك أنّ يكون دعا لهم بأن يكونوا من المتّقين الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم! واجتناب الرجس واجب على المؤمنين، والطهارة مأمور بها كلّ مؤمن.
قال اللّه تعالى: (ما يُريدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُريدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ)(3).
وقال: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها)(4).
وقال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرينَ)(5)..
فغاية هذا أن يكون هذا دعاءً لهم بفعل المأمور وترك المحظور.
والصدّيق ـ رضي اللّه عنه ـ قد أخبر اللّه عنه بأنّه: (اْلأَتْقَى * الَّذي يُؤْتي مالَهُ يَتَزَكّى * وَما ِلأَحَد عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَة تُجْزى * إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ اْلأَعْلى * وَلَسَوْفَ يَرْضى)(6).
وأيضاً: فإنّ السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسان، (رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّات تَجْري تَحْتَهَا اْلأَنْهارُ خالِدينَ فيها أَبَدًا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ)(7)، لا بُدّ أن يكونوا قد فعلوا المأمور وتركوا المحظور; فإنّ هذا الرضوان وهذا الجزاء إنّما يُنال بذلك; وحينئذ فيكون ذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من الذنوب بعض صفاتهم.
فما دعا به النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لأهل الكساء هو بعض ما وصف اللّه به السابقين الأوّلين.
والنبيّ دعا لأقوام كثيرين بالجنّة والمغفرة وغير ذلك، ممّا هو أعظم من الدعاء بذلك، ولم يلزم أن يكون مَن دعا له بذلك أفضل من السابقين الأوّلين، ولكنّ أهل الكساء لمّا كان قد أوجب عليهم اجتناب الرجس وفِعل التطهير، دعا لهم النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به، لئلاّ يكونوا مستحقّين للذمّ والعقاب، ولينالوا المدح والثواب»(8).
هذا نصّ كلام ابن تيميّة، وأنت ترى فيه:
1 ـ الاعتراف بصحّة الحديث الدالّ على نزول الآية المباركة في أهل الكساء دون غيرهم.
2 ـ الاعتراف بعدم شمول الفضيلة لغير عليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.
فأين قول عكرمة؟! وأين السياق؟! وأين ما ذهب إليه ابن كثير؟!
(1) هو: رزين بن معاوية العبدري، صاحب «تجريد الصحاح»، المتوفّى سنة 535 هـ ، كما في سير أعلام النبلاء 20 / 204 رقم 129; إذ ترجم له ووصفه بـ : الإمام المحدّث الشهير»، وحكى عن ابن عساكر: «كان إمام المالكيّين بالحرم».
وُترجم له أيضاً في: تذكرة الحفّاظ 4 / 1281، العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 4 / 398، النجوم الزاهرة 5 / 260، مرآة الجنان 3 / 201، وغيرها.
(2) منهاج الكرامة في معرفة الإمامة: 84 ـ 85 ، الوجه السادس من الفصل الثاني.
(3) سورة المائدة (5): 6.
(4) سورة التوبة (9): 103.
(5) سورة البقرة (2): 222.
(6) سورة الليل (92): 17 ـ 21.
(7) سورة التوبة (9): 100.
(8) منهاج السُنّة 5 / 13 ـ 15.