بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريته محمّد وآله الطاهرين
قال الله عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)
إنّ الكلام عن الإمام الصادق عليه الصّلاة والسّلام ذو شجون والحديث عن هذه الشخصيّة الفردة يطول، فقد يبحث عن أصله ونسبه وأُسرته وهي خير الأُسر وأشرف الخلائق على وجه الأرض وقد يبحث عن سيرته الذاتيّة وقد يبحث عن ملكاته المعنويّة وكمالاته العالية وقد يبحث عن إمامته وعلمه وعصمته وقد يبحث عن معارفه وتعاليمه وقد يبحث عن جهوده ومواقفه في حفظ الإسلام ونشره وقد يبحث عن آراء العلماء من مختلف الفرق وكلماتهم في الثناء عليه.
إنّ الإمام الصادق عليه الصّلاة والسّلام من أهل البيت الذين قال الله عزّ وجلّ في حقّهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، فقد ورد بتفسير هذه الآية المباركة عند الفريقين من الشيعة والسنّة أنّ المراد من الصادقين هم أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والروايات الواردة في تفسير هذه الآية المباركة بهذا المعنى كثيرة والكتب التي تروي هذه الروايات كثيرةٌ أيضاً، ففي كتبنا نحن الإمامية في كتاب بصائر الدرجات وفي كتاب الكافي وفي كتاب الغيبة للشيخ النعماني وأيضاً في كتاب كمال الدين للشيخ الصدوق وهكذا في الكتب الأُخرى من كتبنا، رواياتٌ كثيرةٌ في أنّ المراد من الصادقين في هذه الآية هم أهل البيت (عليهم السلام) وروا ذلك من علماء أهل السنّة جماعةٌ كبيرةٌ منهم الحافظ أبوسعد الخركوشي المتوفّى سنة 407 هـ وأبوإسحاق الثعلبي شيخ المفسّرين المتوفّي سنة 427 هـ وأبونعيم الإصفهاني المتوفّي سنة 430 هـ والحاكم الحسكاني من علماء القرن الخامس والخوارزمي وابن عساكر أيضاً يروي هذا الحديث في كتابه تاريخ مدينة دمشق وأيضاً سبط ابن الجوزي الحنفي يروي نزول هذه الآية المباركة في حقّ أهل البيت (عليهم السلام) وكذلك من الرواة لهذا الحديث أو لهذا التفسير الحافظ الكنجي أبوعبدالله الشافعي وابن منظور صاحب كتاب لسان العرب والجويني النيشابوري وغير هؤلاء من العلماء من أهل السنّة من السّابقين واللّاحقين، إذن فالمراد من هذه الآية المباركة، أي المراد من الصادقين فيها هم أهل البيت (عليهم الصّلاة والسّلام)، لقد أمر الله عزّ وجلّ في هذه الآية المباركة بالكون مع أهل بيت رسوله الكريم ومن الواضح أنّ الكون معهم يعني الإتّباع والإنقياد لهم في كلّ الشؤون الدينيّة، كما أن الأمر بالكون معهم يدلّ دلالةً واضحةً بيّنةً على عصمتهم من الخطيئة والخطأ والنسيان والزلل وبنفس هذا المعنى ورد أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالكون معهم في حديث السفينة الذي ذكره سيّدنا (حفظه الله) وكذلك في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين، فإنّ رسول الله قال: (إنّي يوشك أن أُدعى فأُجيب وإنّي تاركٌ فيكم ما إن أخذتم لن تظلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض وهذا الحديث له أسانيد كثيرة جدّاً بحيث ثبت عندنا تواتره عند الفريقين وكتبنا حوله بأسانيده ومداليله مجلّدات من كتابنا الكبير المسمّى بنفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار في إثبات إمامة الأئمّة الأطهار.
الإمام الصادق عليه الصّلاة والسّلام من أهل بيتٍ يدعو الكتاب الكريم والنبي العظيم (صلّى الله عليه وآله) إلى اتّباع هؤلاء، أي إلى اتّباع أهل البيت والإنقياد لهم والأخذ بهم والتمسّك بهم، الإمام الصادق من أهل بيتٍ وصفهم الفرزدق في قصيدته المعروفة المشهورة حيث يمدح الإمام السجّاد عليّ بن الحسين (عليهما السلام):
إنْ عُدّ أهْلُ التّقَى كانوا أئِمّتَهمْ، أوْ قيل: «من خيرُ خلق الله؟» قيل: هم
من مَعشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ، وَبُغْضُهُمُ كُفْرٌ، وَقُرْبُهُمُ مَنجىً وَمُعتَصَمُ
نعم، لقد أمر الله ورسوله باتّباع أهل البيت والإهتداء والإقتداء بهم وأخذ معالم الدين منهم، والدين كما تعلمون في مدرسة أهل البيت (عليهم الصّلاة والسّلام) له ثلاثة أُسس، الأوّل: الأُصول الإعتقاديّة، الثاني: الأحكام الشرعيّة، الثالث: الأخلاق الفاضلة، الدين في مدرسة أهل البيت يتكوّن من هذه العناوين الثلاثة ومن هذه الأبعاد الثلاثة، الدين، الذي أمر الله بالتفقّه فيه، قال سبحانه وتعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)، أي ليتفقّهوا في هذه الأبعاد الثلاثة الذي يتشكّل ويتكوّن منه الدين.
وكان الإمام الصادق (عليه الصّلاة والسّلام) كما قال العلّامة الحلّي (رحمه الله) في كلامه الموجز الذي هو من أجمل الكلام في هذا المقام: قال عن الصادق (عليه السّلام) هو الذي نشر منه فقه الإماميّة والمعارف الحقيقيّة والعقائد اليقينيّة، تفيد كلمة «نشر منه» إلى أنّ هذا الفقه كان موجوداً قبل الإمام الصادق (عليه السّلام) وإنّما كان الإمام هو الناشر لهذا الفقه وتشير كلمته أيضاً إلى أنّ العقائد اليقينيّة كانت ثابتةً قبل زمانه (عليه السّلام)، فلا يصحّ أن يقال بأنّ الإمام الصادق هو المؤسّس لمذهب الإماميّة في أُصوله الإعتقادية والأحكام الفقهيّة، فإنّ المؤسّس لهذا المذهب هو شخص النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا يصحّ كذلك أن يقال بأنّ هذا المذهب الشيعي، تأسّس بواسطة فلانٍ وفلان، أو يقال بأنّ تأسّس بعد رسول الله بكذا وكذا من السنين، الإمام الصادق كان دوره نشر هذه المعارف وهذه العقائد وهذا الفقه العظيم، كان دوره تعليم هذا الدين وحفظه وتعليمه ونشره بين الأُمّة، ويشير العلّامة الحلّي (رحمه الله) بقوله العقائد اليقينيّة حيث وصف العقائد بكونها يقينيّةً أشار إلى أمرين، الأمر الأوّل: إنّ العقائد التي نشرها الإمام الصادق ودعى إليها مستندةٌ إلى الأدلّة القطعيّة من الكتاب والسنّة والعقل السليم والأمر الثاني: إمتياز العقائد الشيعيّة عن عقائد الفرق والطوائف الأُخرى وخاصّةً الأشاعر والمعتزلة، لكون تلك العقائد مستندةً في أكثرها إلى آراء الأشخاص، كما أنّ فقه الإماميّة يمتاز عن فقه المذاهب الأربعة، لكون فقه تلك المذاهب ـ وخاصّةً الفقه الحنفي الذي عليه أكثر أهل السنّة ـ في فقهها مستندةً إلى الظنون والقياسات والاستحسانات الشخصية، لقد حذّر الإمام الصادق وسائر أئمّتنا من الأخذ بالآراء والعمل بالقياس في الشريعة والروايات في هذا الباب تُعدّ بالمئات كما حذّروا من التفسير بالرأي لآيات القرآن الكريم ومواقفهم من قتادة وأمثال قتادة معروفةٌ ومشهورةٌ في الكتب، كما حذّرو من القول بالرأي في مباحث التوحيد والمعارف الإلهيّة وصفات الباري سبحانه وتعالى وغير ذلك، فقد كان أئمّتنا (عليهم الصّلاة والسّلام) أعرف الناس بالله وكانوا هم الواسطة بعد النبي بين الله والخلق، ولذا ورد عن إمامنا الصادق قوله (عليه الصّلاة والسّلام): (بنا عُرف الله وبنا عُبد الله)، وكذلك ما ورد عنهم في باب القضاء والقدر والجبر والتفويض وغير ذلك من العقائد، فإنّما قالوه هو الحقّ الحقيق بالقبول والاتّباع، وهكذا نشر الإمام الصادق (عليه السّلام) فقه الإماميّة والمعارف الحقّة والعقائد اليقينيّة بين الأُمّة وذلك في ظروفٍ صعبةٍ جدّاً ومضايقةٍ شديدةٍ من قِبَل الحكومات، فقد عاصر إثني عشر حاكماً من بني أُميّة وبني العبّاس وكلّهم ضايقوه وآذوْه ولكنّه صبر وصابر كجدّة رسول الله وآبائه الطّاهرين، وتمكّن من تربية ثلّةٍ من العلماء الأعلام في مختلف العلوم الإسلاميّة وغيرها، وترك تراثاً عظيماً خالداً من غير تلامذته الذين أخذوا عنه وهم يعدون بالآلاف، إنّ كتاب «توحيد المفضّل» الذي هو من أمالي الإمام الصادق (عليه الصّلاة والسّلام) والروايات المنقولة عنه في نشر الأُصول الإعتقاديّة وبيان الأحكام الشرعيّة وتفسير الآيات القرآنيّة وغير ذلك من الحقائق الدينيّة تدلّ على جلالة قدره وعظمة شأنه بحيث لم يكن يدانيه في ذلك العصر أحدٌ من العلماء، ومن الضروريّ أن أؤكّد على أنّ الإمام الصادق (عليه الصّلاة والسّلام) كان يهتمّ بأمر الأخلاق ويسعى في تربية الشيعة تربيةً صحيحةً صالحةً، إهتمّ بهذا الجانب الأخلاقيّ والتربويّ بل كان من أولى اهتماماته، وقد يكون العلّامة الحلي (رحمه الله) يريد من قوله المعارف الحقيقيّة هذا المعنى، أي الجانب الأخلاقي والتربويّ أيضاً والأخبار المعتبرة المنقولة عن الإمام الصادق في هذا الباب أي في باب الأخلاق الفاضلة والتربية الصالحة كثيرةٌ لا تحصى، أنقل لكم نصوص عدّة من هذه الروايات:
قال (عليه الصّلاة والسّلام): (لا تذهبنّ بكم المذاهب فوالله لا تنال ولايتنا إلّا بالورع والإجتهاد في الدنيا ومواسات الإخوان في الله وليس من شيعتنا من يظلم النّاس)، وقال في روايةٍ أُخرى: (صِل من قطعك وأعط من حرمك وأحسن من أساء إليك وسلّم على من سبّك وأنصف من خاصمك واعف عمّن ظلمك)، وقال (عليه الصّلاة والسّلام): (من أراد عزّاً بلا سلطان وكثرةً بلا إخوان وهيبةً بلا مال فلينتقل من ذلّ معاصي الله إلى عزّ طاعته)، وقال (عليه السّلام): (حقّ على كلّ مسلمٍ يعرفنا أن يعرض عمله في كل يومٍ وليلةٍ على نفسه فيكون محاسب نفسه فإن رأى حسنةً استزاد منها وإن رأى سيّئةً استغفر منها)، فـ(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) عقيدةً وقولاً وعملاً فيما بلّغوه عن الله والرسول في الأُصول الإعتقاديّة والأحكام الشرعيّة والأخلاق الفاضلة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
Menu