مسألتان/1- من ادّعى ما لا يد لأحد عليه قضي له

مسألتان

الاولى

(من ادّعى ما لا يد لأحد عليه قضي له)

قال المحقق قدّس سرّه: «من ادّعى ما لا يد لأحد عليه قضي له»(1).
أقول: هذه قاعدة كليّة تنطبق على المصاديق المختلفة، فمن ادّعى ما لا يد لأحد عليه، سواء كان درهماً أو ديناراً أو حيواناً أو كتاباً أو غير ذلك، وسواء كان بين جماعة أو لا، قضي له من غير بيّنة ويمين، كما يقبل قوله عند جميع العقلاء، وللحاكم أن يعتمد على هذه السيرة فيجعلها طريقاً إلى الواقع ومدركاً لحكمه، إذ لا يشترط في حكم الحاكم أن يكون في مورد المرافعة دائماً.
فالملاك عند العقلاء أن يدّعي المدّعي الشيء الذي لا يد لأحد عليه ولا يكون معارض لهذا المدّعي، ولذا أضاف في (القواعد) قيد عدم منازعة أحد له(2)، وهو ظاهر (المسالك) حيث قال بعد ذكر الرواية الآتية: «ولأنه لا منازع له حتى يطلب منه البينة»(3).
والمراد من «اليد» في قوله «ما لا يد لأحد عليه» هي اليد الفعلية، بأن لا يكون لأحد يد على الشيء حين الدعوى، والمراد من «قضي له» أن يحكم الحاكم ـ إن رجع إليه في القضية ـ بكون الشيء ملكاً للمدّعي، فكأنه يطبق في تلك القضية الشخصية الفتوى الكلية بأن من ادّعى شيئاً ولا معارض له فهو له، نظير ما إذا أفتى فتوى كلّية بكون الحبوة للولد الأكبر، ثم إذا سئل عن مالك هذا السيف الموجود ضمن تركة هذا الميت ـ وهو يعلم بأن زيداً هو الولد الأكبر ـ حكم بكونه لزيد من جهة أنه من الحبوة، تطبيقاً لتلك الفتوى الكلّية على هذه القضية الشخصية، فيكون بحكم الحاكم بمنزلة ذي اليد.
وقد استظهر من (المسالك) أن المراد من «قضي له» عدم التعرّض له، وعدم منعه من التصرف في العين، وهو بعيد.
فالدليل على هذا الحكم هو السيرة العقلائية، وعلى طبقها حكم الإمام عليه السلام فيما رواه منصور بن حازم في قضية هي من مصاديق تلك القاعدة الكلية التي ذكرناها، ومن هنا قال المحقق قدّس سرّه:
«ومن بابه أن يكون كيس بين جماعة فيسألون هل هو لكم؟ فيقولون: لا ويقول واحد: هو لي، فإنه يقضى به لمن ادّعاه»(4).
أي: كما رواه منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «قلت: عشرة كانوا جلوساً وسطهم كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضاً ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلّهم: لا، وقال واحد منهم: هو لي، فلمن هو؟ قال: للذي ادّعاه»(5).
ومن الأصحاب من استدلّ بهذه الرواية على الحكم في غير هذه المسألة.
قلت: ومع كون الدليل منحصراً بها يشكل التعدّي عن موردها، فلابدّ من الأخذ بالقدر المتيقن من مدلولها.
وأما إشكال المحقق الأردبيلي بعدم إحراز كون «يونس» الراوي عن منصور هو «يونس بن عبد الرحمن» الثقة(6)، فقد أجاب عنه في (مفتاح الكرامة) بأن الشيخ وإن لم يذكر اسم أبيه في التهذيب، لكن المذكور في النهاية: يونس بن عبدالرحمن(7).
واستدل في (الجواهر) للحكم المذكور بأصالة صحّة قول المسلم وفعله، بل كلّ مدّع ولا معارض له(8).
وأُشكل عليه: «بأن من المحقق في محلّه عدم قيام دليل على وجوب حمل قول المسلم على الصحة بمعنى الصدق، فيكون الأصل في قول المسلم الحجّية إلا ما خرج بالدليل، بل ظاهر الأدلة خلافه، نعم، الصحة بمعنى عدم اللغوية أو المشروعية قام الدليل على وجوب حمله عليها، لكن الصحة بهذا المعنى لا ربط لها بالمقام ولا تنفع المستدل أصلاً، كما لا يخفى.
هذا، مضافاً إلى ما أفاده الاستاذ العلامة من أنه لو كان الأصل في قول المسلم الحجّية والصّدق، لكان وارداً على اليد أيضاً لو كان في مقابله يد نظير البينة، فلا يحتاج إلى إقامة البينة، وهذا مما لا يذهب إليه أحد»(9).
أقول: إن المراد من أصالة حمل قول المسلم وفعله على الصحّة هو حمل أفعاله المتعلقة بنفسه، وسماع كلامه في كلّ أمر يتعلّق به على الصحة، فلو ادّعى كون الشيء له ـ ولم يكن له معارض ـ سمع قوله من جهة أنه أبصر بأُموره وبمعرفة ما يملكه وما يتعلّق له به حق ويعود إليه من غيره، وبهذا التقريب يندفع الإشكال المذكور، والنقض بعدم سماع قوله بالنسبة إلى ما في يد غيره، غير وارد، لوضوح أنها دعوى بالنسبة إلى أمر راجع إلى غيره، وقد ذكرنا أن مجرى الأصل المزبور هو الامور المتعلقة بنفسه، ومن هنا يقبل قوله إن قال بالنسبة إلى شيء في يده: إنه ليس لي، وإن كان له يد عليه، وليس قبول قوله هذا من جهة كونه إقراراً.
وقد استظهر صاحب (الجواهر) من الخبر المذكور قبول دعوى المدّعي ولو بعد قوله ليس لي، قال: بل قد يقال بظهور الصحيح المزبور في قبول دعوى المدّعي ولو بعد قوله: ليس لي، بناءاً على إرادة الحقيقة من قوله كلّهم. قال: ويمكن أن يكون على القواعد أيضاً، لأصالة صحة قوليه معاً باحتمال التذكر وغيره، لعدم المعارض(10).
قلت: ما ذكره يتوقّف على أن يكون القائل هو لي من جملة القائلين: لا، وليس في الخبر ظهور في ذلك، فلابدّ من الأخذ بالقدر المتيقن وهو أن لا يكون منهم.
وقال ابن إدريس بعد الرواية: «فقه هذا الحديث صحيح، وليس هذا مما أخذه بمجرّد دعواه وإنما لم يثبت صاحب سواه، واليد على ضربين: يد مشاهدة ويد حكميّة، فهذا يده عليه يد حكمية، لأن كلّ واحد منهم نفى يده عنه وبقي يد من ادّعاه عليه حكمية، ولو قال كلّ واحد من الجماعة في دفعة واحدة أو متفرقاً هو لي، لكان الحكم فيه غير ذلك، وكذلك لو قبضه واحد من الجماعة ثم ادّعاه غيره، لم يقبل دعواه بغير بيّنة، لأن اليد المشاهدة عليه لغير من ادّعاه، والخبر الوارد في الجماعة أنهم نفوه عن أنفسهم ولم يثبتوا لهم عليه يداً لا من طريق الحكم ولا من طريق المشاهدة، ومن ادعاه له عليه يد من طريق الحكم فقبلنا دعواه فيه من غير بينة، ففقهه ما حرّرناه، وأيضاً، إنما قال ادّعاه من حيث اللغة، لأن الدعوى الشرعية من ادّعى في يد غيره عيناً أو ديناً»(11).
وما ذكره قدّس سرّه مشكل جدّاً، ولو كان هنا يد وكانت العين في الحقيقة للغير وقد تلفت بتلف سماوي، لزم أن يكونوا ضامنين له، وهذا لا يقول به أحد.

(1) شرائع الإسلام 4 : 109.
(2) قواعد الأحكام 3 : 449.
(3) مسالك الأفهام 14 : 76.
(4) شرائع الإسلام 4 : 109.
(5) وسائل الشيعة 27 : 274/1 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 17.
(6) مجمع الفائدة والبرهان 12 : 111.
(7) سند الخبر صحيح ، وما ذكرناه عن مفتاح الكرامة ، هو صريح الشيخ الحر في وسائل الشيعة وتجده في النهاية: 350 ط لبنان.
(8) جواهر الكلام 40 : 397.
(9) كتاب القضاء للمحقق الآشتياني : 350.
(10) جواهر الكلام 40 : 399.
(11) السرائر في الفقه 2 : 195.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *