1 ـ الإقرار و جملة من أحكامه:
قال: « أما الإقرار فيلزم إذا كان جائز التصرف »(1).
أقول: إذا أقر المدّعى عليه، وكان إقراره مطابقاً لاعتقاده، كان المؤثر هو الإعتقاد، لأنه إذا علم بأن الشيء المترافع فيه لزيد، وجب عليه ردّه إليه عند مطالبته به، سواء أقرّ بذلك بلسانه أو لم يقرّ، وحيث كان إقراره جامعاً لشرائط الحجّية المذكورة في محلّها، فإنه يلزم بما أقرّ به والعمل على طبقته .
ولكن هل هذا الإقرار الحجّة يتوقّف ترتيب الأثر عليه على حكم الحاكم، أو أنه بعد تماميّة حجّيته ، يترتّب عليه الأثر من قبل المدعي بلا توقف على الحكم، ولسائر الناس إلزامه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما هو الحال في الإقرار الجامع لشرائط الحجية الذي يترتب عليه الأثر مع عدم المرافعة والتحاكم إلى الحاكم بلا خلاف ؟.
لا إشكال في أن فصل الخصومة من آثار الحكم، فمع الحكم لا تسمع دعواه لو عدل عن إقراره أو أنكره بعدئذ، ولو كان ذلك منه قبل الحكم لسمعت دعواه، فهذا الأثر يختصّ بالحكم، وأما غير هذا الأثر من الآثار، فقد قال جماعة بأن الأحوط عدم ترتيبه حتى يحكم الحاكم، ووجه هذا الإحتياط هو : أنه كما أن فصل الخصومة متوقف على الحكم، فكذلك غيره من الآثار، إذ مع الحضور عند الحاكم والترافع لديه ، يكون الأمر بيده وتتوقف الآثار كلّها على حكمه وإن قامت الحجّة بعد الإقرار للمدعي على أخذ ما يدّعيه، فلا يبعد أن يكون هذا وجه الإحتياط، وإن كان مقتضى إطلاقات الأدلّة هو الأخذ بالحجّة وبه قال جماعة.
ويدلّ على حجّية الإقرار بناء العقلاء وسيرتهم على الأخذ به، سواء حكم الحاكم أو لا، وقد أمضى الشارع هذه السيرة بقوله: « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز »(2)، فالإقرار حجّة وإن لم يحكم الحاكم، نعم، يحتمل أن يكون للحكم موضوعية في مورد النزاع، فالأحوط أن يكون ترتّب الآثار بعده.
ثم هل البيّنة كالإقرار أو أن حجيتها متوقفة على الحكم ؟ قال غير واحد من الأصحاب ـ بل قيل: إنه المشهور ـ بالفرق بين الأمرين(3) وأن الإقرار حجة وتترتب عليه الآثار ـ عدا ما يختص منها بالحكم ـ بخلاف البيّنة فلا يترتب عليها أثر مطلقاً، فلا يجوز له التصرّف في المال ما لم يحكم الحاكم، فالبيّنة حجة بعد الحكم في مقام المرافعة إلى الحاكم، وأما مع عدم الترافع إليه وقيامها فهي حجة والأثر مترتب عليها.
وقيل: لا فرق بين الإقرار والبيّنة، فكما أن الإقرار حجّة وللمقرّ له التصرف في المال وترتيب الأثر وكذا لغيره بإذنه، فكذلك البيّنة بعد قيامها. نعم، يتوقف قطع النزاع على حكم الحاكم ، ويكون أثره عدم سماع الدّعوى بعد ذلك، فإن كانت حجّية البيّنة متوقفة في مقام التخاصم على حكم الحاكم، فكذلك الإقرار ، من دون فرق بينهما.
ثم، هل الإقرار تتقدر حجيّته بمقدار ضرر المقرّ أو أنه كالبينة في الطريقية إلى إثبات حق المقرّ له ؟ مثلاً: إذا أقرّ بأن لزيد على ذمّته كذا من الدراهم، يكون إقراره حجة، وأما إذا أقرّ بالنسبة إلى عين خارجيّة بأنها لزيد، فهل يفيد عدم كونها له فقط ، أو يفيد مع ذلك كون العين لزيد أيضاً، فيكون الإقرار طريقاً إلى مالكيّة زيد لتلك العين كالبيّنة ؟ وجهان.
قد يقال بالأوّل، لأن ذلك حدّ دليل حجيّة الإقرار وهو « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز »، وأما كون الشيء لزيد بالخصوص فلا يقتضيه بل يحتاج إلى دليل آخر، بخلاف البيّنة، فإن مفاد دليل حجيتها ـ وهو: « إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » ـ كون الشيء لمن أقامها فضلاً عن دلالته على عدم كونه للمنكر.
أقول: والوجه الثاني غير بعيد، فإنه لمّا يقرّ بكون الشيء لزيد، يلزم بما أقرّ به ـ خصوصاً بعد حكم الحاكم ـ وكون الشيء لزيد هو من مصاديق ضرر المقرّ كذلك، فلا فرق بين البينة والإقرار من هذه الجهة، وإنما ينشأ الإشكال فيما ذكرنا بناءاً على القول بانحلال الإقرار إلى أمرين: ( أحدهما ) عدم كون المقرّ فيه للمقرّ، و( الآخر ) كونه للمقرّ له، فيقال بكونه حجة في الأوّل فقط ـ وهو عدم الملكيّة ـ لأنه مقدار الضرر . ولكن لا وجه لهذا المعنى، بل إن نفس ملكية زيد للشئ المقرّ فيه من مصاديق الضرر ، فيشمله « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ».
وكذلك لا فرق بين الإقرار والبيّنة في سماع دعوى ثالث لذلك الشيء الذي تنازعا فيه، لأن حكم الحاكم يفصل الخصومة بين المترافعين، فلا تسمع دعوى أحدهما بعد صدور الحكم من الحاكم في ذلك النزاع، أما بالنسبة إلى دعوى ثالث مالكيّة ما أخذه المقرّ له أو مقيم البينة، فلا يقتضي الحكم عدم سماعها، لأنها دعوى جديدة يجب سماعها والنظر فيها بحسب الموازين الشرعيّة.
وأما اليمين، فليس لها حجّية شرعيّة بالنسبة إلى غير الحاكم، فليست كالبيّنة والإقرار في ترتب آثار الحجّية، بل إن الآثار كلّها تترتب عليها بالحكم(4).
هل يحكم عليه من دون مسألة المدعي ؟
قال المحقق قدّس سرّه: « وهل يحكم به عليه من دون مسألة المدعي ؟ قيل: لا، لأنه حق له، فلا يستوفى إلاّ بمسألته »(5).
أقول: وهل يحكم الحاكم على المقرّ قبل مطالبة المقرّ له بالحكم ؟
لا إشكال في جواز الحكم مع مسألة المدعي، بل قد يجب، كما إذا توقف استيفاء الحق على حكمه، بل لا يبعد الوجوب وإن لم يتوقف عليه، لأن الحكم من شأن الحاكم ووظيفته بعد الإقرار والمطالبة.
وأما الحكم من دون مطالبة المدعي ففيه قولان، فعن ( المبسوط )(6): ليس للحاكم الحكم قبل التماس المدعي.
وظاهره الحرمة.
قال: لأنه حق للمدّعي فلا يستوفى إلاّ بمسألته.
أي: فلا يجوز إصدار الحكم قبلها أو مع منعه. ولكن هذا التعليل غير تام، لأن كونه حقاً لا ينافي أن لا يكون أداء هذا الحق موقوفاً على إذنه أو مطالبته، ولا يستلزم أن يكون حراماً بدون ذلك.
فالصحيح هو الرجوع إلى الأدلّة أو الأصول، وحيث لا دليل في المسألة ، فإن الأصل مع الشك في الحرمة هو عدم الحرمة، ومع الشك في الوجوب فهو عدم الوجوب، إلا أن يستفاد الوجوب من إطلاقات أدلّة الحكم والقضاء، فمقتضى الأصل هو جواز الحكم من دون مسألة المدعي. هذا من الناحية التكليفية، وأما وضعاً، فالأصل مع الشك هو عدم نفوذ هذا الحكم، لكن ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة « فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه… » هو الإطلاق، فليس الحكم مقيّداً بالمطالبة والمسألة من المدعي.
هذا، مع أن الحكم قد يكون حقاً للمنكر، كما إذا لم يقم المدعي البيّنة فيحلف المدّعى عليه، فإن الحكم حينئذ حق للمدّعى عليه لا للمدّعي، نعم ، يجوز لمن كان حقاً له أن لا يطالب بحقّه أو يسقطه إن كان قابلاً له.
إذن، يمكن القول بجواز الحكم مع عدم المطالبة، إلا أن يقال بوجوبه حينئذ أيضاّ، تمسّكاً بإطلاقات الآيات والروايات فيقال بأن الحكم وظيفة الحاكم بعد تماميّة المقدمات، سواء سئل بذلك أو لا، وأما مع المطالبة فالحكم واجب بلا كلام.
قال: « وصورة الحكم أن يقول: ألزمتك… ».
أقول: كلّ لفظ ظاهر في الحكم صدر بقصد الإنشاء فهو الحكم ، وأمّا « ثبت عندي » ونحوه ، فليس صورة له، لعدم ظهوره فيه.
وهل يتحقق الحكم بالفعل بقصد الإنشاء ؟ قيل: نعم، وهو مشكل، لعدم تحقق الحكم بالفعل عند أهل العرف، وشمول الإطلاقات له غير معلوم.
حكم كتابة الإقرار:
قال: « ولو التمس أن يكتب له بالإقرار لم يكتب حتى يعلم اسمه ونسبه … »(7).
أقول: وحيث حكم، فهل يجب عليه كتابة الحكم مطلقاً أو في صورة الإلتماس أو لا يجب ؟ قيل: يجب، لأن الكتابة من تبعات الحكم ولواحقه، فيجب كتابة الحكم حتى يبقى ولا ينكر أو ينسى، ولأنه إن لم يكتب لضاع حق المقرّ له، وقيل: لا يجب، لأن الذي يفصل الخصومة ويقطع النزاع هو الحكم، وأما الكتابة فهي من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا من آثار الحكم ولواحقه، وحيث كان من باب الأمر بالمعروف لغرض استيفاء الحق وإنقاذه، فإن هذا الغرض يتحقق من طرق أخرى أيضاً ، فلا تجب الكتابة.
وقيل: تحرم الكتابة، لأنها قد تكون إعانة على الإثم، كما إذا أخذ الشخص الكتابة إلى حاكم جور، فكانت سبب الظلم لأحد ، أو ارتكاب محرّم من قبل الحاكم الجائر ، فتكون إعانة على الإثم الصادر منه.
وفصّل بعضهم بأنه إن كان إحقاق حق المقرّ له متوقفاً على الكتابة وجبت وإلاّ فلا.
وعلى القول بوجوب الكتابة، فلا يجوز له أخذ الاُجرة عليها، بناء على عدم جواز أخذ الاُجرة على الواجبات، وهو جائز له بناء على عدم وجوبها عليه، وحيث لا يجوز له أخذ الاُجرة، فإنه لا يجوز له أخذ شيء في مقابل الدواة والقرطاس أيضاً، فظهر أن الحكم هنا يتفرّع على الحكم في الفرع السابق.
هذا، ولو قصّر في تطبيق القواعد والأحكام أو خالف في شيء منها، فإنه لا أثر لحكمه حينئذ ولا نفوذ ، وإن كان حكمه حقاً، لقوله عليه السلام « … ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار… »(8) إذ من الواضح أنه لا ينفذ حكم من كان من أهل النار، ولعل السرّ في ذلك : أن الحكم له جهة تعبدية، ويعتبر فيه قصد القربة ، وأن يكون على طبق الأحكام والقواعد المقررة لذلك من قبل الشارع، فإن لم يكن كذلك أو كان بالمقدّمات المحرّمة لم ينفذ ألبتة، وعليه، فلو حكم بالحق رياء أو طلباً لرضا أحد من المخلوقين لم ينفذ حكمه.
ويحتمل أن يكون السرّ في ذلك : اشتراط نفوذ الحكم بكونه صادراً عن المقدّمات الصحيحة والمشروعة، فمع انتفاء الشرط ينتفي المشروط.
ولو شك في كون إصدار الحكم واجباً تعبديّاً أو توصّلياً، فإن الأصل في الواجبات هو التعبديّة… وسيأتي مزيد تحقيق لهذه المسألة إن شاء الله تعالى.
هذا، ولو أجاب الحاكم المدعي بكتابة الإقرار والحكم، لم يكتب حتى يعلم اسمه ونسبه، أو يشهد على الاسم والنسب شاهدا عدل، حتى يأمن الحاكم بذلك من التدليس بجعل الحكومة بالإقرار أو الشهادة به لغير من وقع، وقد اتفق حصول هذا التزوير في زماننا من بعض المزوّرة، إذ حضر رجلان عند فقيه ورع ـ وهو مكفوف البصر ـ وذكروا عنده أن فلاناً حاضر عندكم يقرّ بأنه قد باع داره لفلان ونحن شهود على ذلك، فكتب الفقيه المذكور بذلك، ثم ظهر أنه كان تزويراً من الرجلين، وقد أدّى الأمر إلى النزاع والخصومة… إذن، يشترط أن يكون الحاكم عارفاً للشخص من حيث اسمه ونسبه، وإلاّ فيشترط شهادة شاهدين عادلين.
قال المحقق: « ولو شهد عليه بالحلية جاز ولم يفتقر إلى معرفة النسب … »(9) .
أقول: وهل يغني ذكر أوصافه وملامحه الذاتية عن ذكر الاسم والنسب ؟ قال المحقق: نعم، لكن في ( الجواهر ) عن ( السرائر ) الإشكال فيه، إلا أن عبارة السرائر تدلّ على خلاف ذلك . فليراجع(10).
وكيف كان، فما ذكره المحقق قدّس سرّه هو الأظهر، لكن يجب ذكر الحلية بحيث يأمن معه من الاشتباه والتزوير.
(1) شرائع الإسلام 4 : 83 .!
(2) قال في وسائل الشيعة 23 : 184/2 ، الباب 3: « وروى جماعة من علمائنا في كتب الاستدلال عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ».
(3) وقد وقع البحث والكلام بينهم حول الوجوه التي ذكروها للفرق بينهما وما يترتب على ذلك من ثمرة، وربما بني الخلاف في المقام على الخلاف في حجية البيّنة، فعلى القول بعدم حجية البيّنة إلا للحاكم، توقّف ثبوت الحق على حكم بخلاف الإقرار، وعلى القول بعموم حجيتها لم يتوقف كالإقرار. وإن شئت التفصيل فراجع الكتب الاستدلالية المفصلة.
(4) في المسألة أقوال: فقيل: هي كالبينة، وقيل: هي كالإقرار وقيل: هي شيء ثالث، وعلى الأوّل هي كالبينة على الإطلاق حتى بالنسبة إلى الثالث أو لا ؟ تعرض المحقق الآشتياني للمسألة بالتفصيل.
(5) شرائع الإسلام 4 : 83.
(6) المبسوط في فقه الإمامية 8 : 158.
(7) شرائع الإسلام 4 : 83.
(8) وسائل الشيعة 27 : 22/6 . أبواب صفات القاضي ، الباب 4.
(9) شرائع الإسلام 4 : 83.
(10) وهذا نص عبارة السرائر: « وإذا أقرّ إنسان لغيره بمال عند حاكم، فسأل المقرّ له الحاكم أن يثبت إقراره عنده، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته: لم يجز له ذلك إلا أن يكون عارفاً بالمقر بعينه واسمه ونسبه، أو يأتي المقر له ببينة عادلة على أن الذي أقر هو فلان ابن فلان بعينه واسمه ونسبه، لأنه لا يأمن أن يكون نفسان قد تواطآ على انتحال اسم إنسان غائب واسم أبيه والانتساب إلى آبائه ليقرّ أحدهما لصاحبه بمال ليس له أصل، فإذا أثبت الحاكم ذلك على غير بصيرة كان مخطئا مغرراً.
وقال في مسائل خلافه: مسألة: إذا حضر خصمان عند القاصي، فادّعى أحدهما على الآخر مالاً فأقرّ له بذلك، فسأل المقرّ له القاضي أن يكتب له بذلك محضراً والقاضي لا يعرفهما، ذكر أصحابنا أنه لا يجوز له أن يكتب، لأنه يجوز أن يكونا استعارا نسباً باطلاً وتواطآ على ذلك، وبه قال ابن جرير الطبري، وقال جميع الفقهاء: إنه يكتب ويحليهما بحلاهما التامة ويضبط ذلك. قال رحمه الله : والذي عندي أنه لا يمتنع ما قاله الفقهاء، فإن الضبط بالحلية يمنع من استعارة النسب، فإنه لا يكاد يتفق ذلك. ثم قال رحمه الله : والذي قاله بعض أصحابنا يحمل على أنه لا يجوز أن يكتب ويقتصر على ذكر نسبهما، فإن ذلك يمكن استعارته، قال رحمه الله : وليس في ذلك نص مسند عن أصحابنا يرجع إليه.
قال محمد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب: الذي ذكره وذهب إليه شيخنا في مسائل خلافه هو الذي أقول به وأعمل عليه ويقوى في نفسي، وهذا يبين لك أيها المسترشد أنه قد يذكر في نهايته شيئا لا يعمل ولا يرجع فيه إلى خبر مسند يعتمد عليه ويرجع إليه… ». كتاب السّرائر 2 : 162.