حكم نظر الثاني في حكم الأوّل:
وأما بالنسبة إلى الحاكم الثاني، فقيل بوجوب النظر عليه في حكم الأوّل، وقيل: لا يجب عليه ذلك، وقيل: بل لا يجوز.
ومنشأ الخلاف هو الخلاف في صدق الردّ على النظر كذلك، لكن الظاهر العدم، كما أن جريان أصالة الصحّة في حكم الحاكم الأوّل لا يقتضي حرمة النظر والسؤال عن الواقع في ذلك المورد، ولا دليل على وجوب العمل بهذا الأصل، فلو أوقع عقداً وشك في صحّته ، لم يمنع الإحتياط بإجرائه مرّة أخرى جريان أصالة الصحة فيه، فالظاهر جواز النظر في الحكم وإن أمكن حمله على الوجه الصحيح، نعم، لو استلزم النظر نقض حكم صحيح لم يجز له ذلك، وأما القول بالوجوب فمشكل جدّاً، لأن الشك في صحة حكم الحاكم الأوّل الواجد للشرائط لا يقتضي وجوب النظر كما لا يخفى.
وهل يجب على الحاكم الثاني النظر في الأمور الجارية في البلد ؟ الظاهر: لا، إلا إذا طالبه أحد من الناس بالنظر في قضية، أو كانت له دعوى بالنسبة إلى الحاكم الأوّل، فحينئذ ، يجب عليه النظر لفصل الخصومة .
أما قول المحقق « ينظر » فظاهره وجوب النظر، وبه صرّح في ( الجواهر )( ) وقال في ( المسالك )( ) بوجوب النظر في صورتين ، إحداهما: دعوى المحكوم عليه جور الحاكم الأوّل في حكمه، والثانية: كون الغريم محبوساً ولم يفصل الأمر بعد.
أقول: إن كان النظر في مورد لم تفصل الخصومة فيه ، فلا مانع منه بل هو واجب، وإن كان بعد تمام حكم الحاكم الأوّل ، لكن امتنع المحكوم عليه من أداء الحق فأمر بحبسه، فلا وجه للقول بوجوب النظر ولا جوازه، لأن المفروض تمام الحكم فالردّ عليه غير جائز، لا سيما مع عدم دعوى المحكوم عليه تقصير الحاكم الأوّل في الحكم. نعم ، على الحاكم الثاني حينئذ مراجعة الغريم، فإن كان عنده ما يجب عليه أداؤه ، وجب عليه إجباره على الأداء من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما النظر في الحكم ، فلا وجه له. وحمل عبارة المحقق عليه غير صحيح، ولذا استشكل في ( الجواهر ) في الفتوى بوجوبه، وحمل في ( المسالك ) كلام المحقق على مورد دعوى المحكوم عليه جور الحاكم الأوّل، وحمله في ( الجواهر ) على إرادة النظر إن شاء. وفيه: إن أدلة حرمة النقض وإنفاذ الحكم ، تعم المورد الذي احتمل صدقه فيه ، فلا يجوز النظر، بل يحمل الحكم حينئذ على الصحة… فظهر : أنه لابدّ من حمل عبارة المحقق قدّس سرّه على معنى آخر غير وجوب النظر، وما ذكره الشهيد الثاني هو الأولى.
بل لا يجوز النظر حتى مع تراضي الخصمين، خلافاً لصاحب ( الجواهر ) قدّس سرّه، إذ لا وجه لذلك أيضاً، مع صدق النقض والردّ على هذا النظر، وحمل عبارة المحقق على هذا الوجه في غير محلّه.
ولا ينافي ذلك ما ذكره الأصحاب في آداب القضاء من نظر الحاكم الثاني في المحبوسين، إذ لا منافاة بين استحباب النظر وعدم جواز تجديد الحكم، بمعنى أن ينظر في المحبوسين ، فمن وجده محبوساً بحكم حاكم تركه في الحبس…
نعم، يجب تجديد النظر في صورة دعوى المحكوم عليه كون حكم الحاكم الأوّل على خلاف القواعد والأحكام المقررة في القضاء، فإن كان حكمه عن تقصير فهو ضامن، وإن كان عن قصور فضمانه من بيت المال.
فالحاصل: إنه مع حكم الحاكم الأوّل وفصل الخصومة بحكمه وحبس المحكوم عليه، لا يجوز تجديد النظر بمجرد امتناع المحكوم عليه عن أداء الحق ، وإن رضي المحكوم له بذلك.
وقد ظهر بما ذكرنا أنه لا مجال للقول بتجديد النظر ، إلاّ في صورة دعوى المحكوم عليه مخالفة الحاكم الأوّل لأحكام القضاء في حكمه، فإنها مورد البحث والكلام، فقيل بلزوم النظر وإن أمكن حمله على الوجه الصحيح، وأنه ينفذ حكم الحاكم الثاني وإن استلزم النقض.
أقول: إن استلزم نقض الحكم مع إمكان حمله على الوجه الصحيح فهو مشكل، وإلاّ وجب النظر، إذ لا وجه لعدم سماعها حينئذ.
وأما التتبع لحكم الحاكم الأوّل والتفحص عن دليل حكمه للوقوف عليه والبحث عن صحته وعدم صحته من غير موجب لذلك، فغير جائز، إلاّ أن يدّعى بأن حكم الحاكم الأوّل بوحده لا يكفي للحمل على الصحة، فلو حكم على الغريم بأداء الحق وأخذه منه وأعطاه لمن له الحق ، فحينئذ لا يجوز النظر فيه، لأنه نقض لحكمه أو لأنه ليس مورداً للإبتلاء، وأما مع صدور الحكم المجرّد عن استيفاء الحق فالنظر واجب، لكون الحكم الأوّل ناقصاً، فعندما حضر الحاكم الثاني وأراد استيفاء الحق ، فلابدّ من تجديد النظر في أصل الحكم ليكون مسوّغاً لاستنقاذ الحق ، لكن عبارة المحقق تأبى الحمل على هذا المعنى، فإن ظاهرها تمام الحكم لا نقصانه.
وكيف كان ، فلا يشترط في حكم الحاكم استيفاء الحق، بل الحكم بدونه تام ، إلاّ أن تقوم دعوى أخرى لأجل استيفاء الحق، فلو ادّعى المحكوم عليه الإعسار ، سمعت دعواه وطولب بالبيّنة واُمهل حتى اليسار كي يؤدي الحق، فظهر أن القول بالنظر في هذه الصورة مشكل.
وأمّا لو ادّعى المحكوم عليه جور الحاكم الأوّل في الحكم ، فهل يكون سماعها ردّاً على الحكم أو لا ؟ التحقيق: أنه إن كان المراد من الحكم الواجب إنفاذه والمحرّم نقضه ، هو الحكم الصادر بحسب القواعد والأدلّة الشرعية، فكلّ حكم لا يكون كذلك فليس حراماً نقضه، فلا وجه لقول صاحب ( الجواهر ) « وإن اقتضى نقض الأوّل ». وأمّا إذا صدق عليه النقض ، فلا مناص من الإلتزام بتخصيص أدلّة سماع الدعوى لأدلّة نفوذ الحكم، فلا يجوز نقض الحكم ، إلاّ إذا كان عن جور أو تقصير.
ويكون المسوغ لأصل النظر في الحكم ـ مع وجود الأدلّة الآمرة بحمله على الوجه الصحيح ـ هو دعوى المحكوم عليه جور الحاكم الأوّل ، فإن ذلك يوجب النظر في الحكم مع وجود الأصل المذكور، لأن هذا الأصل لا يقتضي عدم جواز النظر.
فتلخّص: إن الحق وجوب النظر في هذه الصورة، وعليه يحمل عبارة المحقق كما في ( المسالك ) ، وأما حمله على صورة تراضي الخصمين أو صورة صدور الحكم من الحاكم الأوّل من غير استنقاذ للحق كما في ( الجواهر ) ، فغير صحيح كما تقدّم، وقد عدل هو قدّس سرّه عن ذلك أيضاً ، وحمله على إرادة النظر إن شاء، وقد تقدّم ما فيه أيضاً.
Menu