حكم ما لو ادعى الإعسار:
قال المحقق قدّس سرّه: « ولو ادّعى الإعسار… ».
أقول: أي لو أقرّ بالحق ثم ادعى الإعسار، فإن استبان فقره وعلم صدق دعواه أنظره ، لقوله تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة )(1) وللموثق الآتي ذكره وغيره.
قال: « وفي تسليمه إلى غرمائه ليستعملوه أو يؤاجروه روايتان … »(2).
أقول: قال في ( الجواهر )(3): أشهرهما عملاً وأصحّهما سنداً وأكثرهما عدداً وأوفقههما بالأصل والكتاب رواية الإنظار، يعني الموثقة: « إن علياً عليه السلام كان يحبس في الدين، فإذا تبين له حاجة وإفلاس خلّى سبيله حتى يستفيد مالاً »(4) .
ورواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام: « إن امرأة استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها وكان زوجها معسراً فأبى أن يحبسه وقال: إن مع العسر يسراً »(5).
ومراده من الأصل هو أنه مع الشك في وجوب أن يصير أجيراً أو يسلّم نفسه ليؤاجروه حتى يؤدي دينه، فالأصل عدم الوجوب.
والمراد من الكتاب الآية الشريفة المذكورة آنفاً.
والرواية الاخرى ما رواه السكوني: « إن علياً عليه السلام كان يحبس في الدين ثم ينظر ، فإن كان له مال أعطى الغرماء، وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم: إصنعوا به ما شئتم، إن شئتم واجروه وإن شئتم استعملوه »(6).
لكن الشيخ قدّس سرّه عمل في ( النهاية )(7) برواية السكوني، وعن ابن حمزة التفصيل بين ما إذا كان يتمكّن من العمل فيستعمل، وما إذا كان عاجزاً عن العمل فينظر حتى حصول الميسرة.
وقد رجّح صاحب ( الجواهر )(8) الرواية الأولى على الثانية، لموافقتها للكتاب، وقيل: إن رواية السكوني غير مخالفة للكتاب حتى ترجّح الأولى عليها، لأن المتمكن من العمل ليس معسراً، وبهذا المعنى صرح العلاّمة في ( المختلف )(9)، ولذا لا يستحق الزكاة لأنه واجد للمال بالقوّة.
أقول: إن كان لفظ « المعسر » ظاهراً فيمن ليس واجداً للمال فعلاً، سواء تمكن من تحصيله بسهولة أو لا، وافقت الرواية الأولى لظاهر الكتاب ، وإن ظاهراً فيمن ليس واجداً للمال ولو بالقوّة، لم توافقه، والظاهر أن « المعسر » هو الذي ليس عنده مال ولا يمكنه تحصيله، لأن أكثر الناس يحصّلون مؤنتهم عن طريق العمل وإجارة أنفسهم في مختلف الصنائع والحرف والأشغال… لكن رواية السكوني تخالف الكتاب من جهة أخرى ، وذلك أنها تدلّ على تسليمه إلى الغرماء، وليس في الكتاب دلالة على ذلك.
ويحتمل أن تكون رواية السكوني موافقة للأصل، فإنه إذا كان مال المدين أقلّ من حقوق الغرماء أو مساوياً لها، منعه الحاكم عن التصرف في ماله مع مطالبة الغرماء لحقوقهم، لأن تصرّفه في ماله يوجب الضرر في حقوق أولئك إلا أن يأذنوا بذلك، فلو كان المدين ذا صنعة وحرفة لها ماليّة يبذل بأزائها المال، والغرماء يطالبون بحقوقهم، كان على الحاكم أن يمنعه من العمل لنفسه وتسليمه إلى الغرماء ليستعملوه حتى يستوفوا حقوقهم عن طريق استعماله وتشغيله ـ كما يمنعه ويحجره عن التصرف في أعيان أمواله ـ لأن المفروض ماليّة عمله، فتكون رواية السكوني غير مخالفة للأصل، إذ الأصل وجوب حفظ حق الناس كيفما أمكن، والمنع عن تضييعه والسعي وراء وصوله إليهم.
نعم، لا يجوز حمل المدين على عمل حرجي ، أو إجباره على تحصيل المال عن طريق غير متعارف، كأن تؤمر المرأة بالتزوج لتأخذ المهر وتقضي الديون، أو يؤمر الرجل بخلع زوجته فيأخذ عوضه ونحو ذلك.
وبما ذكرنا يجمع بين الروايتين، بأن من كان ذا صنعة وحرفة يستعمل ويحسب عمله عوضاً عن ديونه، نظير من عمل في بناء المسجد مدّة وطلب من الفقيه أن يحسب عمله بدلاً عن مبلغ معيّن من سهم الإمام عليه السلام في ذمّته، ومن لم يكن كذلك ولا يتمكن من عمل مشروع مطابق لشأنه فإنه ينظر حتى حصول الميسرة.
(1) سورة البقرة 2 : 280.
(2) شرائع الإسلام 4 : 84.
(3) جواهر الكلام 40 : 165.
(4) وسائل الشيعة 18 : 418/1 . باب حبس المديون 7.
(5) وسائل الشيعة 18 : 418/2 . باب حبس المديون 7.
(6) وسائل الشيعة 18 : 418/3 . باب حبس المديون 7.
(7) النهاية في مجرّد الفتوى : 352/16.
(8) جواهر الكلام 40 : 165 ـ 166.
(9) مختلف الشيعة في أحكام الشريعة 8 : 471 ـ 472.