حكم الرشوة في غير الحكم:
وأما في غير الأحكام، فإن أخبار الرشوة وإن كانت واردة في مورد الحكم والأحكام، إلاّ أن مقتضى إطلاق بعض تلك الأخبار هو حرمتها في غير الأحكام أيضاً، فقد روى الشيخ الصّدوق قدّس سرّه ، عن الأصبغ بن نباتة ، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : « أيّما وال احتجب عن حوائج الناس، احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه، وإن أخذ هديّة كان غلولاً، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك »(1).
فهل تقيّد إطلاق الرواية بالروايات المقيّدة، أو أن ظهورها آب عن التقييد ؟
الظاهر هو الثاني، و « حوائج الناس » يعمّ غير الأحكام كما لا يخفى.
وروى الشيخ الصّدوق قدّس سرّه أيضاً ، عن سيدنا أبي الحسن الرضا عليه السلام ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين في تفسير قوله تعالى: ( أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ )قال : « هو الرجل يقضي لأخيه حاجته ثم يقبل هديّته »(2).
ويمكن أن يقال ـ ولا سيّما بالنظر إلى هذين الخبرين ـ أنه ولو فرض كون الرشوة في الحكم فقط، فإن كون الرجل منصوباً ـ شرعاً أو عرفاً ـ لرفع الظلم عن الناس وقضاء حوائجهم، يقتضي وجوب ذلك عليه ، وأن مطالبته أو أخذه شيئاً في مقابل عمله سحت.
وبالجملة، فإن الرشوة في الأحكام لإبطال الحق مقطوع بحرمتها، والظاهر أنها كذلك في مطلق الحكم إن كان البذل بعنوان الرشوة، سواء أثّر في كيفية الحكم أو لم يؤثر، وأما في غير الأحكام، فالمستفاد من الخبرين المذكورين حرمة الأخذ على من كان موظّفاً بالقيام بالواجبات الموضوعة على عاتقه.
ثم إنه لا فرق في « الرشوة » بين المال المبذول له وبين العمل النافع الذي يعمله له، كخياطة ثوب مثلاً أو إنجاز غرض له كأن يبيعه داره ولو بالثمن المتعارف ، أي بأن يقدّمه على غيره في المعاملة، وهل هذه المعاملة باطلة حينئذ ؟ قيل: لا، لأنه نظير البيع عند النداء ، وقيل: نعم، لأن الحكم الوضعي هذا مترتب على الحكم التكليفي، فلمّا كانت الرشوة محرّمة، وكانت هذه المعاملة مصداقاً لها، كانت باطلة.
وأيضاً: لو دفع إليه الخمس أو الزكاة حتى يحكم له، فإنه حرام، ولا تبرء ذمة المعطي من الخمس والزكاة حينئذ.
وفي هذه الأيام يقول بعض جهلة القضاة: إن أعطيت كذا للمستضعفين نجوت من العقوبة مثلاً، فإن هذا المال رشوة ولا يملكه المستضعفون.
وكذايحرم احترام القاضي وتبجيله والثناء عليه إن كان بعنوان الرشوة، ولو أثّر ذلك في نفس القاضي فحكم له ، كان مرتكباً للحرام أيضاً.
وبالجملة، فإن كلّ ما قصد به التوصّل إلى حكم الحاكم كان رشوة محرّمة، وإن شك في بعض الأفراد في الدخول تحت الاسم أو جزم بعدمه، فالبراءة جارية خلافاً لصاحب ( الجواهر )(3).
(1) وسائل الشيعة 17 : 94/10 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 5.
(2) وسائل الشيعة 17 : 95/11 . أبواب ما يكتسب به ، الباب 5.
(3) جواهر الكلام 22 : 148 ـ 149.