البحث الثاني
إنه بعد التنزّل عن الإشكال في المبنى ، فهل يمكن التمسّك بالإطلاق أو لا ؟
والحق : تماميّة التمسّك بالإطلاق بالبيان المتقدّم ، فإن برهان حفظ الغرض يثبت أن الشارع أمضى طريقة أهل العرف في التطبيق .
هذا على مبنى صاحب ( الكفاية ) .
وأمّا على مبنى المشهور ، فنقول بعد الفراغ عن كون المولى في مقام البيان :
إنه وإنْ كان لفظ « البيع » موضوعاً للمسبب ، أي للحاصل من الصيغة ، لكنّ كلّ مسبّب قابل للانقسام من ناحية السبب ، فمع الشك في اعتبار العربيّة ـ مثلا في السبب ، يكون للمسبب فردان ، واللّفظ موضوع للجامع بينهما ، فالبيع الحاصل من اللّفظ الفارسي قسم من البيع ، وإذا احرز صدق لفظ البيع عليه وكان سائر مقدمات الحكمة محرزاً متوفّراً ، فلا محالة يتمّ الإطلاق ، ويندفع الشك في اعتبار العربيّة .
وعلى الجملة ، فإن الإمضاء وإن كان متوجّهاً إلى المسبّب ، لكن المسبّب أصبح ذا حصص بتبع الأسباب ، ومع توفّر المقدّمات يتم الإطلاق .
وأما على مبنى الميرزا ، بعد الفراغ عن التغاير وجوداً بين الآلة وذي الآلة ، فإن نفس الكلام المتقدّم في المسبب آت ، فقد يشك في أن المقصود هو الفتح بهذا المفتاح الخاص أو لا ؟ فذو الآلة ينقسم ويتعدّد بتعدّد الآلة ، نعم ، الفرق بين المسلكين هنا هو : إنه لو كان المسمّى هو السبب ، فإن الإطلاق يرفع الشك بالمطابقة فيه رأساً ، أمّا لو كان هو المسبب أو ذو الآلة ، فإنّ الإطلاق يزيل الشك ـ من حيث اعتبار العربيّة مثلا ـ بالإلتزام .
وأما على مبنى الإعتبار والإبراز ، فقد ذُكر أنّ البيع مركَّب من الإعتبار والإبراز ، والشارع قد أمضى ذلك ولم يقيّده بقيد ، والمفروض صدقه على الفارسي كالعربي ، والمفروض أيضاً كون الشارع في مقام البيان ، فلا إشكال في الإطلاق .
قال شيخنا :
لا إشكال في الإطلاق كما ذكر .
إلاّ أن الإشكال في أصل المبنى ، إذ المعاملات كلّها إنشائيّات ، فالبيع أمر يتحقق بالإنشاء ، فلو كان الإنشاء ـ أي الصيغة ـ جزء للبيع ، كيف يعقل إنشاء البيع ـ المركّب من الإعتبار والصيغة ـ بالصيغة ؟
وقد كان هذا إشكال الشيخ على المحقق الكركي في تعريف البيع .
وعلى الجملة ، فإنه مع غض النظر عمّا في المبنى ، فالإطلاق تام .
وتلخّص : تماميّة الإطلاق على جميع المباني ، وهذا ما استقر عليه رأي الاستاذ في الدورة اللاّحقة .
بقي الكلام في تفصيل المحقق الإصفهاني .
قال رحمه الله في ( حاشية المكاسب ) ، في التمسّك بالإطلاق اللفظي في أسماء المعاملات ، بناءً على كونها أسماء للمسبّبات(1) ، ما حاصله :
إن الأدلّة الشرعيّة في أبواب المعاملات على قسمين ، قسمٌ منها : ما جاء بلسان الإمضاء ، وقسم منها : ما جاء بلسان ترتّب الأثر وضعاً أو تكليفاً ، فيدلّ على الإمضاء بالدلالة الإلتزامية .
فما كان من القسم الأول فالتمسّك بإطلاقه ممكن ، وما كان من القسم الثاني فلا ، بل يتمسّك فيه بالإطلاق المقامي ، ومقتضاه نفوذ جميع الأسباب وتأثيرها .
توضيح ذلك : إن من الأدلّة ما لسانه لسان الإمضاء ، كقوله تعالى ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) وذلك ، لأن المراد من « البيع » فيه هو البيع العرفي ، إذ لا معنى لأن يقال أحلّ الله البيع الشرعي ، لأنّ ما كان حلالا فلا يقبل الحليّة ، فالآية إنما جاءت إمضاءً لِما هو عند العرف .
لكنّ نفس هذا العنوان ، وإنْ كان مسبّباً ، إلاّ أنّه بإضافته إلى الأسباب يتحصّص ، فالبيع الحاصل بسبب المعاطاة حصّة من البيع ، والحاصل من الصّيغة حصّة اخرى ، فهو عنوان جامع .
فلمّا جاء دليل الإمضاء على المسبّب ، كان مقتضى الإطلاق فيه إمضاء المسبب بجميع حصصه ، وإلاّ لقيَّد الدليل بكونه عن الصيغة مثلا ، … فالتمسّك في هذا القسم بلا إشكال .
وهذا الذي ذكره في هذا القسم موجود عند المحقق العراقي وغيره .
وأمّا ماذكره في القسم الثاني فلم يقله غيره ، وهو ما إذا كان الدليل لسانه لسان ترتيب الأثر تكليفاً أو وضعاً ، كما لو قال : إذا بعت وجب عليك الوفاء بالعقد وتسليم المبيع ـ ولا يخفى أن مقتضى مناسبة الحكم والموضوع أن يكون موضوع الأثر هو البيع الشرعي ، لأن الشارع لا يرتّبه على البيع أو النكاح أو … غير الشرعي ـ فإنه مع الشك في دخل شيء في ترتّب الأثر لا مجال للتمسّك بالإطلاق اللّفظي ، بل تصل النوبة إلى الإطلاق المقامي ، بتقريب : أن الشارع حكم بترتيب الأثر على البيع ، وقد علم أنه البيع الشرعي ، لكنّه لم يبيّن البيع الشرعي ولم يعرّفه مع كونه في مقام البيان وتعريف الموضوع المترتب عليه الحكم ، فيظهر أنّ جميع حصص البيع عنده موضوع لترتّب الأثر الشرعي ، وكلّها ممضاة عنده .
هذا كلامه قدّس سرّه .
وقد تنظّر فيه شيخنا الاستاذ فقال : بأنّ دليله على سقوط الإطلاق اللّفظي في القسم الثاني ليس إلاّ قوله : إن اللّسان إذا كان لسان ترتيب الأثر فما يترتّب عليه الأثر هو البيع الشرعي ، وهو دليل صحيح بحسب لبّ الواقع ، لأنّ ما لم يكن مورداً للإمضاء الشرعي فلا يترتب عليه الأثر ، لكنّ البحث إنما هو بحسب ظاهر لسان الدليل ، فهل يوجد تقييد بالشرعيّة فيه ؟
إنه لو كان التّضييق الواقعي موجباً لتضييق موضوع القضيّة الشرعيّة ، بأنْ يكون قوله : « إذا بعت متاعك وجب عليك تسليمه » راجعاً إلى : إذا بعت متاعك بيعاً شرعيّاً وجب عليك تسليمه ، كان لما ذكره مجال ، وإلاّ كان الموضوع في هذه القضية كما هو في ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) .
والتحقيق هو عدم التضيّق ، لأن « البيع » في هذه القضيّة هو البيع عند العرف ، وقد دلّ قوله : « يجب التسليم » بالدلالة المطابقيّة على ترتيب الأثر عليه ، وبالإلتزاميّة على الإمضاء ، فالإمضاء ليس في مرتبة الموضوع بل هو لازم المحمول ، وحينئذ يكون هذا اللاّزم مقيّداً للموضوع بحسب الواقع ، أمّا بحسب الدليل فلا .
ولمزيد التوضيح قال دام بقاه : إن الشارع لمّا قال ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) لم يرد مطلق « البيع » الصحيح منه والفاسد بحسب الواقع ، بل يريد الصحيح فقط ، لكن التقيّد الواقعي غير مقيّد للموضوع في ظاهر كلامه ، لأن هذا التقيّد إنما جاء من جهة « أحلَّ » وكذلك الحال في قوله : إذا بعتَ وجب عليك التسليم ، حيث اللّسان لسان ترتيب الأثر ، فإن المراد هو البيع الصحيح الشرعي دون غيره ، لكن هذا التقيّد إنما جاء من ناحية « يجب » وهذا التقيّد الآتي من ناحية المحمول لا يقيّد الموضوع ، سواء في هذه القضيّة أو تلك ، لأن مدلول الموضوع بما هو موضوع مقدَّم رتبةً ، ومدلول المحمول بما هو محمول في رتبة متأخّرة ، بلا فرق بين القسمين . فالتفصيل غير صحيح .
بل المراد من « البيع » في القسمين هو البيع العرفي .
هذا كلّه حلاًّ .
ويرد عليه النقض بألفاظ العبادات ، فإن الموضوع في « صلّ » هو الصلاة ، لكن وجوبها يقيّدها بالصلاة الصحيحة ، لعدم توجّه الوجوب إلى الحصّة الفاسدة أو الجامع بين الفاسدة والصحيحة ، فمع الشك يلزم سقوط الإطلاق اللّفظي .
ثم على فرض التنزّل عن الإشكال المذكور ، نقول : هل يمكن التمسّك بالإطلاق المقامي في القسم الثاني بعد سقوط الإطلاق اللّفظي .
إن مناط الإطلاق المقامي ـ كما سبق كون المولى في مقام البيان وعدم نصبه القرينة على إرادة حصّة معيّنة ، فلو لم يؤخذ بإطلاق كلامه لزمت اللّغوية.
لكنّ هذا موقوف على عدم وجود القدر المتيقّن ، وفي المعاملات يوجد القدر المتيقَّن ، وهو كون البيع بالعربيّة ، وعليه يحمل إطلاق : « إذا بعت وجب عليك التسليم » ، وعلى الجملة : فإن مناط الإطلاق المقامي لزوم اللّغويّة ، لكنّها غير لازمة مع وجود القدر المتيقن والأخذ به .
وقوله رحمه الله بأنّ الإمضاء لازم ترتيب الأثر .
فيه : إن اللاّزم متأخّر عن الملزوم ، وترتيب الحكم متأخّر عن الموضوع ومتعلَّق الحكم ، وما كان متأخراً عن الشيء بمرتبتين يستحيل أخذه في المقدَّم عليه بمرتبتين .
هذا ، والتحقيق : أن المراد من « البيع » في لسان الأدلّة هو البيع العرفي ، والموضوع له هذا العنوان هو الجامع بين الصحيح والفاسد ، بمناط صحّة تقسيمه إليهما ، وعليه ، فالتمسّك بالإطلاق اللّفظي ـ في موارد الشك في دخل شيء في صحّة البيع شرعاً ـ صحيح ، بالنظر إلى ما أوردناه على كلام هذا المحقّق .
(1) حاشية المكاسب 1/182 الطبعة المحقّقة الحديثة.