تخريج الحديث الثاني عشر

الحديث الثاني عشر
رواه الحافظ أبو نعيم، قال: «حدثنا محمد بن أحمد بن علي، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا إبراهيم بن محمّد بن ميمون، ثنا علي ابن عياش، عن الحارث بن حصيرة، عن القاسم بن جندب، عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: يا أنس! اسكب لي وضوءاً. ثمّ قال: فصلّى ركعتين، ثمّ قال: يا أنس! أوّل مَنْ يدخل عليكَ من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وقائد الغرّ المحجّلين، وخاتم الوصيّين.
قال أنس: قلت: اللّهمّ اجعله رجلا من الأنصار. وكتمته.
إذ جاء علي فقال: مَنْ هذا يا أنس؟ فقلت: عليّ.
فقام مستبشراً فاعتنقه، ثمّ جعل يمسح عرق وجهه بوجهه ويمسح عرق عليّ بوجهه. قال عليّ: يا رسول اللّه! لقد رأيتك صنعت شيئاً ما صنعت بي من قبل.
قال: وما يمنعني وأنت تؤدّي عنّي وتسمعهم صوتي، وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي.
رواه جابر الجعفي، عن أبي الطفيل، عن أنس نحوه».
أقول:
قد روى الحديث، عن أبي نعيم كذلك جماعة، منهم: الحافظ ابن عساكر إذ أخرجه قائلا: «أخبرنا أبو علي المقرىء، أنبأنا أبو نعيم الحافظ…»(1).
وأخرجه ابن عساكر بطريق آخر; إذ قال: «أخبرنا أبو الحسن الفرضي، أنا أبو القاسم بن أبي العلاء، أنا أبو بكر محمّد بن عمر بن سليمان بن المعدل العريني النصيبي ـ بها ـ وأبو بكر الحسين بن محمّد قالا: أنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد، نا أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة، نا إبراهيم بن محمّد، نا علي بن عائش، عن الحارث بن حصيرة، عن القاسم بن جندب، عن أنس بن مالك…»(2).
وهذا الحديث يعدّ من أسمى مناقب سيّدنا أمير المؤمنين وفضائله الدالّة على إمامته بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله. ولولا ذلك لما قال أنس: «اللّهم اجعله رجلاً من الأنصار» ولما كتم(3).
ومن هنا، فقد بذل المتعصّبون جهودهم في الطعن فيه، واضطربت كلماتهم في الردّ عليه، وإليك بعض الكلام في ذلك.
لقد روى الحافظ أبو نعيم هذا الحديث بطريقين، أحدهما: عن القاسم بن جندب، عن أنس، والآخر عن جابر الجعفي، عن أبي الطفيل، عن أنس… .
فقال ابن الجوزي ـ بعد أنْ رواه بالطريق الأوّل ـ : «هذا حديث لا يصحّ. قال يحيي بن معين: علي بن عابس ليس بشيء. وقد روى هذا الحديث جابر الجعفي، عن أبي الطفيل، عن أنس. قال زائدة: كان جابر كذّاباً، وقال أبو حنيفة: ما لقيت أكذب منه»(4).
فأمّا الطريق الأوّل، فقد طعن فيه من أجل: (علي بن عابس)، ولم يقل إلاّ: قال يحيى بن معين: «ليس بشيء» ; ممّا يدلّ على أنّ لا إشكال في هذا الطريق إلا من ناحية «علي بن عابس».
وأمّا الطريق الثاني، فالكلام في: (جابر الجعفي).
أمّا الذهبي، فلم يذكر الحديث بترجمة (جابر) أصلا.. وإنّما ذكره بالطريق الأوّل، لكن لا بترجمة (علي بن عابس)، بل بترجمة: (إبراهيم)، ثمّ اضطرب الأمر عليه; فعنون تارة: «إبراهيم بن محمد بن ميمون» وأُخرى: «إبراهيم بن محمود بن ميمون»، فقال في الأوّل: «إبراهيم بن محمد بن ميمون: من أجلاد الشيعة. روى عن علي بن عابس خبراً عجيباً. روى عنه أبو شيبة بن أبي بكر وغيره»(5).
ثمّ قال في الصفحة اللاحقة: «إبراهيم بن محمود بن ميمون: لا أعرفه. روى حديثاً موضوعاً فاسمعه: فروى محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن عابس، عن الحارث بن حصيرة، عن القاسم بن جندب، عن أنس: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قال لي: أوّل مَنْ يدخل عليكَ من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وقائد الغرّ المحجّلين، وخاتم الوصيّين.. الحديث بطوله».
فهل هو: «إبراهيم بن محمّد بن ميمون»، أو: «إبراهيم بن محمود ابن ميمون»؟!
قال في الأوّل: «من أجلاد الشيعة»، وفي الثاني: «لا أعرفه»!!
وهل الحديث: «عجيب» أو: «موضوع»!!
وعندما نرجع إلى لسان الميزان، نجد أنّ ابن حجر يقول: «إبراهيم بن محمّد بن ميمون: من أجلاد الشيعة. روى عن عليّ بن عابس خبراً عجيباً. روى عنه أبو شيبة بن أبي بكر وغيره. انتهى.
والحديث: قال هذا الرجل: حدّثنا علي بن عابس، عن الحارث بن حصيرة، عن القاسم بن جندب، عن أنس: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قال لي:… الحديث بطوله. رواه عنه أيضاً: محمد بن عثمان بن أبي شيبة. وذكره الأزدي في الضعفاء، وقال: إنّه منكر الحديث. وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال إنّه: كندي.
وأعاده المؤلّف في ترجمة إبراهيم بن محمود، وهو هو، فقال: لا أعرفه. روى حديثاً موضوعاً، فذكر الحديث المذكور.
ونقلتُ من خطّ شيخنا أبي الفضل الحافظ: إنّ هذا الرجل ليس بثقة. وقال إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة: سمعت عمّي عثمان بن أبي شيبة يقول: لولا رجلان من الشيعة ما صحّ لكم حديث. فقلت: مَنْ هما يا عمّ؟ قال: إبراهيم بن محمد بن ميمون، وعبّاد بن يعقوب، وذكره أبو جعفر الطوسي في رجال الشيعة»(6).
ووقع اختلاف واضطراب في اسم الراوي: هل هو «علي بن عابس»، كما ذكروا، أو: إنّه «علي بن عياش»، كما في حلية الأولياء، وقال مصحّحه: «الصحيح ما أثبتناه»، أو: «علي بن عبّاس»، أو: «علي بن عائش»، كما في روايتي ابن عساكر!!

أقول:
إنّي أظنّ أنّ هذا التصحيف مقصود وليس بصدفة:
فإن كان: «ابن عياش»، فهو من رجال البخاري والسنن الأربعة(7).
وإن كان: «ابن عابس»، فهو من رجال الترمذي، وقد اختلفت كلماتهم فيه. فعن جماعة، كالجوزجاني والأزدي: ضعيف. وعن يحيى بن معين في رواية: كأنّه ضعيف. وفي أُخرى: ليس بشيء. وعن ابن حبّان: فحش خطأُه فاستحقّ الترك. وعن الدارقطني: يعتبر به. وعن أبي زرعة والساجي: عنده مناكير.
وعن ابن عدي: لعلي بن عابس أحاديث حِسان، ويروي عن أبان بن تغلب وعن غيره أحاديث غرائب، وهو مع ضعفه يكتب حديثه(8).
وقد أورد ابن عدي روايته الحديث عن عطية، عن أبي سعيد، قال: لمّا نزلت: (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)(9) دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فاطمة فأعطاها فدكاً(10).
فمن يروي مثل حديثنا ـ وهذا الحديث في فدك ـ فلابُدّ وأن يُترك عند الجوزجاني وأمثاله من النواصب!!
هذا تمام الكلام على الطريق الأوّل.
وقد عرفت أنّ «إبراهيم بن محمّد بن ميمون» من الثقات عند ابن حبّان وغيره، ولم ينقل ابن حجر تضعيفاً له إلاّ عن الأزدي، وهذا من عجائب ابن حجر; لأنّه تعقّب تضعيفات الأزدي غير مرّة قائلا: «ليت الأزدي عرف ضعف نفسه» و«لا يعتبر تجريحه لضعفه هو»(11).
ولم يتكلّم فيه الذهبي إلاّ بقوله: «من أجلاد الشيعة»، وهذا ليس بطعن; فقد قدّمنا غير مرّة عن الذهبي نفسه، وعن ابن حجر أنّ التشيّع غير مضرّ بالوثاقة.
وأمّا الطريق الثاني، فقد تكلّموا فيه لـ(جابر بن يزيد الجعفي)، ويكفي أنْ نورد نصّ كلام الذهبي فيه في ميزان الإعتدال; إذ قال:
«جابر بن يزيد ـ د ت ق ـ بن الحارث الجعفي الكوفي، أحد علماء الشيعة، له عن أبي الطفيل، والشعبي، وخلق. وعنه: شعبة، وأبو عوانة، وعدّة.
قال ابن مهدي، عن سفيان: كان جابر الجعفي ورعاً في الحديث، ما رأيت أورع منه في الحديث.
وقال شعبة: صدوق; وقال يحيى بن أبي بكير، عن شعبة: كان جابر إذا قال أخبرنا وحدّثنا وسمعت، فهو من أوثق الناس.
وقال وكيع: ما شككتم في شيء فلا تشكّوا أنّ جابراً الجعفي ثقة.
وقال ابن عبدالحكم: سمعت الشافعي يقول: قال سفيان الثوري لشعبة، إنْ تكلّمت في جابر الجعفي لأتكلّمنّ فيك…»(12).
فإذا كان جابر من رجال ثلاثة من الصحاح، ثمّ من مشايخ أئمّة، كالثوري وشعبة، وأبي عوانة، وأنّهم قالوا هذه الكلمات في توثيقه… فإنّه يكفينا للإحتجاج قطعاً; إذْ ليس عندهم من المحدّثين من أجمعوا على وثاقته إلاّ الشاذ النادر، فهم لم يجمعوا حتى على وثاقة البخاري صاحب الصحيح.
على أنّ ما ذكروه جرحاً فيه فليس من أسباب الجرح والقدح; لأنّ كلمات الجارحين تتلخّص في أنّه: «كان من علماء الشيعة»، وأنّه كان: «يحدّث بأخبار لا يُصبر عنها» في فضل أهل البيت، وأنّه: «كان يؤمن بالرجعة»… ولا شيء من هذه الأُمور بقادح، لا سيّما بالنظر إلى ما تقدّم عن أئمّة القوم من التأكيد على ورعه في الحديث، والنهي عن التشكيك في أنّه ثقة، حتّى أنّ مثل سفيان يقول لمثل شعبة:
«إنْ تكلّمت في جابر الجعفي لأتكلّمن فيك»!
وبما ذكرناه كفاية، لمن طلب الرشاد والهداية.
وبه تتبيّن مواضع الزور والدجل والتدليس في كلمات المفترين.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمين.

(1) تاريخ مدينة دمشق 42 / 386.
(2) المصدر 42 / 303.
(3) كتمان أنس ما يتعلَّق بأمير المؤمنين عليه السلام لا يختصّ بهذا المورد، فله نظائر للتفصيل فيها مجال آخر.
(4) كتاب الموضوعات 1 / 377.
(5) ميزان الاعتدال 1 / 63.
(6) لسان الميزان 1 / 107.
(7) تقريب التهذيب 2 / 42.
(8) الكامل 6 / 322، تهذيب الكمال 20 / 502، تهذيب التهذيب 7 / 301.
(9) سورة الإسراء: الآية 26.
(10) الكامل 6 / 324.
(11) مقدمة فتح الباري: 430.
(12) ميزان الاعتدال 1 / 378 ـ 384.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *