حديثان متناقضان في موضع صلاة النبي الظهر في حجّة الوداع

حديثان متناقضان في موضع صلاة النبي الظهر في حجّة الوداع
ومن ذلك: حديثان متناقضان أخرجهما مسلم، وأخرج البخاري أحدهما، في موضع صلاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الظهر يوم النحر في حجّة الوداع، فأخرج عن عائشة وجابر أنّه صلاّها بمكّة، وأخرج هو والبخاري عن ابن عمر أنّه صلاّها بمنى، قال القاري في كتابه في (الرجال): «قال ابن حزم في هاتين الروايتين: إحداهما كذب بلا شك».
وقد اختلف القوم في تعيين الصدق من الكذب منهما، وقد شرح ابن القيّم اختلافهم في المقام حيث قال: «فصل: ثمّ رجع إلى منى، واختلف أين صلّى الظهر يومئذ، ففي الصحيحين عن ابن عمر أنّه أفاض يوم النحر ثمّ رجع فصلّى الظهر بمنى، وفي صحيح مسلم عن جابر أنّه صلّى الظهر بمكّة، وكذلك قالت عائشة، واختلف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر، فقال أبو محمّد ابن حزم: قول عائشة وجابر أولى، وتبعه على هذا جماعة ورجّحوا هذا القول بوجوه:
أحدها: إن راويه اثنان، وهما أولى من الواحد.
الثاني: أنّ عايشة أخصّ الناس به، ولها من القرب والإختصاص والمزيّة ما ليس لغيرها.
الثالث: أنّ سياق جابر لحجّة النبي صلّى الله عليه وسلّم من أوّلها إلى آخرها أتمّ سياق، وقد حفظ القصّة وضبطها حتّى ضبط جزئيّاتها، حتّى ضبط منها أمراً لا يتعلّق بالمناسك، وهو نزول النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة جمع الطريق، فقضى حاجته عند الشعب ثمّ توضّأ وضوءاً خفيفاً، فمن ضبط هذا القدر فهو يضبط مكان صلاته يوم النحر بطريق أولى.
الرابع: أنّ حجّة الوداع كانت في آذار، وهي تساوي الليل والنهار، وقد خرج من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى وخطب بها الناس، ونحر بُدناً عظيمة وقسمها، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيّب وخطب ثمّ أفاض، فطاف وشرب من ماء زمزم ومن نبيذ السقاية ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يبدو في الأظهر أنّها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك وقت الظهر في فصل آذار.
الخامس: إنّ هذين الحديثين جاريان مجرى الناقل والمبقي، فإنّ عادته صلّى الله عليه وسلّم كانت في حجّته صلاته في منزله الذي هو نازل فيه بالمسلمين، فجرى ابن عمر على العادة، وضبط جابر وعائشة الأمر الذي هو خارج عن عادته، فهو أولى بأن يكون هو المحفوظ.
ورجحت طائفة اُخرى قول ابن عمر لوجوه:
أحدها: أنّه لو صلّى الظهر بمكّة لم يُصَلِّ أصحابه بمنى وحداناً ولا زرافات، بل لم يكن لهم بدّ من الصلاة خلف إمام يكون نائباً عنه، ولم ينقل هذا أحد قط، ولم يقل أحد أنّه استناب من يصلّي بهم، ولولا علمه أنّه يرجع إليهم فيصلّي بهم لقال: إن حضرت الصّلاة ولست عندكم فليصلّ بكم فلان، وحيث لم يقع هذا ولا هذا، ولا صلّى الصحابة هناك وحداناً قطعاً، ولا كان من عادتهم إذا اجتمعوا أن يصلّوا عزين، علم أنّهم صلّوا معه على عادتهم.
الثاني: إنّه لو صلّى بمكّة، لكان خلفه بعض أهل البلد وهو مقيم، وكان يأمرهم أن يتمّوا صلاتهم، ولنقل أنّهم قاموا فأتمّوا بعد سلامه صلاتهم، وحيث لم ينقل هذا ولا هذا بل هو معلوم الإنتفاء قطعاً، علم أنّه لم يصلّ قطعاً حينئذ بمكّة.
وما نقله بعض من لا علم له أنّه قال: يا أهل مكّة أتمّوا صلاتكم فإنّا قوم سفر، فإنّما قاله عام الفتح لا في حجّته.
الثالث: إنّه من المعلوم أنّه لمّا طاف ركع ركعتي الطواف، ومعلوم أنّ كثيراً من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه، فلعلّه لمّا ركع ركعتي الطواف والناس خلفه يقتدون به، ظنّ الظانّ أنّها صلاة الظهر، ولاسيّما إذا كان ذلك في وقت الظهر، وهذا الوهم لا يمكن دفع احتماله، بخلاف صلاته بمنى فإنّها لا تحتمل غير الفرض.
الرابع: إنّه لا يحفظ عنه في حجّه أنّه صلّى الفرض بجوف مكّة، بل إنّما كان يصلّي بمنزله بالمسلمين مدّة مقامه، كان يصلّي بهم أين نزلوا، لا يصلّي في مكان آخر غير المنزل العام.
الخامس: إنّ حديث ابن عمر متفق عليه، وإنّ حديث جابر من أفراد مسلم، فحديث ابن عمر أصحّ منه، وكذلك هو في إسناده، فإنّ راويه أحفظ وأشهر وأنفق، فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيدالله؟ وأين يقع جعفر من حفظ نافع؟
السادس: إنّ حديث عائشة قد اضطربت في وقت طوافه، فروي عنها على ثلاثة أوجه: أحدها أنّه طاف نهاراً، الثاني: أنّه أخّر الطواف إلى الليل، الثالث: أنّه أفاض من آخر يومه، فلم يضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصّلاة، بخلاف حديث ابن عمر.
السابع: إنّ حديث ابن عمر أصحّ منه بلا نزاع، فإنّ حديث عائشة من رواية محمّد بن إسحاق، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه عنها، وابن إسحاق مختلف في الإحتجاج به، ولم يصرّح بالسماع بل عنعنه، فكيف يقدم على قول عبيدالله حدّثني نافع عن ابن عمر؟
الثامن: إنّ حديث عائشة ليس بالبيّن إنّه صلّى الظهر بمكّة، فإنّ لفظه هكذا: أفاض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في آخر يوم صلّى الظهر ثمّ رجع إلى منى، فمكث فيها ليالي أيّام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كلّ جمرة بسبع حصيات، فأين دلالة هذا الحديث الصريحة على أنّه صلّى الظهر يومئذ بمكّة؟ وأين هذا في صريح الدلالة إلى قول ابن عمر أفاض يوم النحر ثمّ صلّى الظهر بمنى راجعاً؟ وأين حديث اتفق أصحاب الصحيح على إخراجه إلى حديث اختلف في الإحتجاج به؟ والله أعلم»(1).

(1) زاد المعاد 2: 280 كيفيّة حجّة الوداع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *