الأدلّة في المسألة

الأدلّة في المسألة
قال المحقق النائيني :
ربما يقال بتأثير العلم الإجمالي في دوران الأمر بين المحذورين من جهة الالتزام ، حيث أن في الأخذ بالفعل أو الترك من دون الالتزام بالوجوب أو الحرمة ، مخالفة للتكليف المعلوم إجمالاً التزاماً .
وأنت خبير بفساد هذا القول ، فإن المراد من الموافقة الالتزاميّة … .
إنْ كان هو التصديق والتديّن بما جاء به النّبي صلّى اللّه عليه وآله من الأحكام الفرعيّة ، فمرجع ذلك إلى تصديق نبوّته وأن ما جاء به فهو من عند اللّه ، وهو لا يستلزم الالتزام بكلّ واحد واحد من الأحكام تفصيلاً .
وإنْ كان المراد منها هو الالتزام بكلّ واحد واحد من الأحكام على التفصيل .
فإنْ أراد القائل بلزومه حرمة التشريع والالتزام بخلاف الحكم الواقعي مسنداً له إلى الشارع ، فهو حق ، لكنه أجنبي عن لزوم الالتزام بكلّ حكم على التفصيل .
وإنْ أراد لزومه بنفسه ، بحيث يكون لكلّ واجب مثلاً إطاعتان ومعصيتان ، إحداهما : من حيث العمل ، والاخرى : من حيث الالتزام ، فلا دليل عليه لا عقلاً ولا نقلاً .
وإنْ كان المراد من لزومها ، هو وجوب الإتيان بالعبادات بقصد التعبّد والامتثال ، بأنْ يؤتى بها بداعي الأمر مثلاً ، فهو وإنْ كان حقّاً ، إلاّ أنه أجنبي عن محلّ الكلام أيضاً .
وبالجملة ، لا دليل على لزوم الموافقة الالتزاميّة ، بالمعنى الذي يكون مربوطاً بالمقام…(1) .
وجاء في الكفاية :
هل تنجز التكليف بالقطع ـ كما يقتضي موافقته عملاً ـ يقتضي موافقته التزاماً والتسليم له اعتقاداً وانقياداً ، كما هو اللاّزم في الاصول الدينيّة والامور الاعتقاديّة ، بحيث كان له امتثالان وطاعتان ، احداهما : بحسب القلب والجنان ، والاخرى : بحسب العمل بالأركان ، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاماً ولو مع الموافقة عملاً ، أو لا يقتضي ، فلا يستحق العقوبة عليه ، بل إنما يستحقها على المخالفة العمليّة ؟
الحق : هو الثاني ، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيّده إلاّ المثوبة دون العقوبة ولو لم يكن متسلّماً وملتزماً به ومعتقداً ومنقاداً له ، وإنْ كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيّده ، لعدم اتّصافه بما يليق أنْ يتّصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها ، وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لأمره أو نهيه التزاماً مع موافقته عملاً(2) .
وقال السيد الخوئي :
التحقيق : عدم وجوب الموافقة الالتزاميّة ، إذ لم يدل عليه دليل من الشرع ولا من العقل . أمّا الأدلّة الشرعية ، فظاهرها البعث نحو العمل والإتيان به خارجاً، لا الالتزام به قلباً . وأمّا العقل ، فلا يدلّ على أزيد من وجوب امتثال أمر المولى ، فليس هناك ما يدلّ على لزوم الالتزام قلباً(3) .
أقول :
وعلى الجملة ، فإنه إذا قام الدليل على التكليف وثبت ، فإنّ العقل حاكم بلزوم إطاعة المولى بامتثال التكليف الوجوبي أو التحريمي ، أمّا أن يأمر بالالتزام القلبي أيضاً ، فلا دليل عليه .
وبعبارة اخرى : إن العقل يحرك العبد المكلّف نحو امتثال متعلّق التكليف ، ولا يتجاوز بعثه وتحريكه دائرة المتعلّق ، بأن يبعث إلى شيء زائد عنه ، بل إنه يريد من المكلّف الإتيان بالمتعلّق فحسب .
هذا بالنسبة إلى الحكم العقلي .
وأمّا الحكم الشرعي ، فإنه لمّا جاء الخطاب بالصّلاة مثلاً وأمر بها المولى ، فإن « صلّ » يشتمل على مادّة وهيئة ، أمّا المادّة ، فهي الصّلاة ، وأمّا الهيئة ، فمدلولها البعث والطلب أو اعتبار اللابّدية ، فلا دليل من الخطاب الشرعي بالصّلاة ـ لا مادةً ولا هيئة ـ على وجوب الموافقة .
وأمّا أن يكون هناك دليلٌ من خارج الخطاب الشرعي بوجوب الصّلاة ، يدلّ على وجوب الموافقة الإلتزاميّة مضافاً إلى الصّلاة ، فلا يوجد هكذا دليل .
نعم ، توجد روايات كثيرة في وجوب التصديق والإقرار بما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ، كقوله عليه السّلام ـ في جواب السؤال عمّا بنيت عليه دعائم الإسلام ـ : « … والإقرار بما جاء به من عند اللّه … »(4) .
ولكنْ في دلالتها على المدّعى بحث ، كما لا يخفى .
وقد يقال : بأنّ هذه النصوص ناظرة إلى اُصول الدين أو منصرفة إليها .
ولكنّ هذا غير واضح ، والعهدة في إثباته على مدّعيه ، لأنّ النصوص مطلقة وعبارتها « الإقرار بما جاء به » النبيّ ، سواء في الاصول أو الفروع ، وما هو منشأ الإنصراف ؟
وقد يقال(5) : بدلالتها على وجوب الموافقة الإلتزاميّة ، لكنْ يكفي الموافقة إجمالاً .
وفيه : إن كانت دالّةً على الوجوب ، فمقتضى القاعدة انحلالها على كلّ واحد واحد ممّا جاء به النبي صلّى اللّه عليه وآله ، فهو إطلاق شمولي ، فالقول بالالتزام الإجمالي في غير محلّه .
فإنْ قلت : القول بوجوب الموافقة الالتزاميّة مخالف للمشهور .
قلنا : هذا المشهور ليس مشهور القدماء بل المتأخرين ، ومخالفتهم لا تضرّ ، هذا أوّلاً .
وثانياً : إعراض المشهور وإن كان موهناً عندنا ، لكنْ عن السّند لا الدلالة ، وما نحن فيه من قبيل الثاني لا الأوّل .
هذا كلّه ، أللهم إلاّ أن يقال بأن « الإقرار » أمر و« الالتزام » أمر آخر . فتدبّر .

(1) أجود التقريرات 3 / 95.
(2) كفاية الاصول : 268 .
(3) مصباح الاصول 2 / 52 .
(4) الكافي 2 / 19 و 21 ـ 22 و 38 .
(5) نهاية الأفكار ق 1 ج 3 ص 54 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *