المقام الثالث: كيف كانت الشورى؟

وأما المقام الثالث، فقد أشار العلاّمة في كلامه إلى نقاط:
1 ـ إنه قد جمع فيمن يختار بين المفضول والفاضل، لأن أمير المؤمنين عليه السلام أفضل من سائر رجال الشورى قطعاً، ولأن بين الخمسة الباقية من هو أفضل من غيره يقيناً، والحال أنه قد تقرّر كتاباً وسنّةً وعقلاً أن الفاضل مقدّم على المفضول، فكيف جعلهم سواءً؟
2 ـ إنه جعل الشورى في عدد معيَّن وأشخاص معينين، فحصر الإمامة فيهم دون غيرهم.
3 ـ إنه عيّن الأجل وجعله ثلاثة أيام.
4 ـ إنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام، مع أنهم ـ عندهم ـ من العشرة المبشرة بالجنة، وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم، وبقتل من خالف الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن.
5 ـ إنه طعن في كلّ واحد ممن اختاره للشورى، وهذه قرينة أخرى على أنها شورى صوريّة اضطرّ إليها لدفع أمير المؤمنين علي عليه السلام.
6 ـ إنه جعل الرأي إلى عبد الرحمن بن عوف ـ بعد أن وصفه بالضّعف والقصور ـ فكان هو المحور، وعلى يده انتهى الأمر إلى حيث أراده عمر!
أقول:
هذه النقاط أمور مسلَّمةٌ عند الكلّ، بل كادت تعدّ من ضروريات تاريخ الإسلام، وقد رواها البخاري وابن سعد وابن جرير الطبري وابن عبد ربّه القرطبي واليعقوبي وابن الأثير وأبو الفداء وغيرهم.
وهناك نقاط أخرى لم يتعرّض لها العلاّمة رحمه اللّه، ولعلّ من أهمّها:
1 ـ إن عبد الرحمن ـ بعد أن فُوّض تعيين الخليفة إليه ـ دعا عليّاً عليه السلام واشترط عليه العمل بالكتاب والسنّة وأن يسير بسيرة الشيخين… جاء ذلك في:
صحيح البخاري، ومسند أحمد، وتاريخ الطبري، والكامل، والمنتظم، وتاريخ الخلفاء، والصواعق، والفصول في الأصول، والإبهاج في شرح المنهاج، وغير ذلك من كتب الحديث والتاريخ وأصول الفقه(1).
2 ـ قال علي عليه السلام لعبد الرحمن: ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون. واللّه ما ولّيت عثمان إلا ليردّ الأمر إليك، واللّه كلّ يوم في شأن. رواه الطبري وابن الأثير وأبو الفداء وغيرهم(2).
3 ـ إن عبد الرحمن مات وهو مهاجرٌ لعثمان، لأنه لما علم بأنه يريد الأمر من بعده لبني أمية وأنه سوف لا يعهد إليه، هجره ولم يكلّمه إلى أن مات، ولعلّ علياً عليه السلام إلى ذلك أشار بقوله له «واللّه كلّ يوم في شأن» وقوله: «سيبلغ الكتاب أجله».
وقد ذكر مهاجرة عبد الرحمن لعثمان في غير واحد من كتب القوم، مثل كتاب المعارف والعقد الفريد والمختصر في أخبار البشر وغيرها(3).
4 ـ السبب في دخول أمير المؤمنين عليه السلام في الشورى مع علمه بما سينتهي إليه المجلس، كما أخبر عن ذلك من قبل بقوله لعمّه العباس: «لقد عدل عنّا، لأن سعداً لا يخالف عبدالرحمن لأنه ابن عمّه، وعبد الرحمن صهر عثمان، فلا يختلفون، فيولّيها أحدهم الآخر»(4)، هو عدم تعاونه عليه السلام معهم في حرمانه، بل ليتضح للمسلمين دسيستهم في ذلك، ولينتهزها فرصةً لتذكيرهم بأحقّيته بالإمامة والولاية منذ اليوم الأول، وتلك نصوص احتجاجه عليهم مذكورة في كتبهم بالأسانيد، وقد تكلّمنا عليه بالإيجاز سابقاً.
5 ـ وأمّا السبب في البيعة فواضح، فإنّ عبد الرحمن قد قال له: «يا علي، إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلنَّ على نفسك سبيلاً»(5) ثم إنه بعد أن بايع عثمان على الكتاب والسنّة وسيرة الشيخين قال: «يا أبا طلحة، ما الذي أمرك به عمر؟ قال: أن أقتل من شق عصا الجماعة. فقال عبد الرحمن لعلي: بايع إذن وإلا كنت متّبعاً غير سبيل المؤمنين، وأنفذنا فيك ما أمرنا به. فقال: لقد علمتم أني أحق بها من غيري»(6).
فهذه أهم أخبار الشورى… .

(1) البخاري ـ بشرح ابن حجر 13 / 168، مسند أحمد 1 / 75، تاريخ الطبري 3 / 301، الكامل لابن الأثير 3 / 71، المنتظم لابن الجوزي 4 / 373، تاريخ الخلفاء للسيوطي 120، الصواعق 1 / 309 الفصول في الأصول للسرخسي 4 / 55، الابهاج للسبكي 3 / 272.
(2) تاريخ الطبري 3 / 297، الكامل في التاريخ 3 / 71، المختصر في أخبار البشر 1 / 166.
(3) المعارف لابن قتيبة: 550 (المتهاجرون)، العقد الفريد 4 / 279، المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء 1 / 166.
(4) تاريخ الطبري 3 / 294، الكامل 3 / 67، تاريخ أبي الفداء 1 / 166، العقد الفريد 4 / 256.
(5) صحيح البخاري 8 / 123 وانظر فتح الباري 13 / 170.
(6) شرح نهج البلاغة 6 / 168.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *