اختلافهم في توجيه الكلام

وكأن بعضهم قد التفت إلى سقوط تلك المحاولات للدفاع عن أبي بكر، فانبروا قبل كلّ شي لتكذيب الخبر أو التشكيك فيه، فيقول ابن روزبهان:
«هذا ليس من روايات أهل السنة بل من روايات الروافض، وإن سلّمنا صحّته فإن لكلّ إنسان شيطاناً…»(1).
وكذلك قال عبد العزيز الدّهلوي، قال: «هذه الرواية لم تصحّح في كتب أهل السنة حتى يتم الإلزام بها، بل الصحيح الثابت عندهم خلافه…»(2).
وتبعه الآلوسي في مختصره إذ قال: «ويجاب: بأن هذا غير ثابت عندنا، فلا إلزام، بل الثابت أنه أوصى عمر قبل الوفاة فقال…»(3).
وهذا عجيب منهم، خاصةً من الأخير، لأنهم يقلّدون ابن تيمية وهم عيال عليه في ردودهم على الإماميّة، وهو يقول بأن القضيّة من أكبر فضائل أبي بكر!!
لكن ذلك يكشف عن شدّة اضطرابهم كما أشرنا من قبل… والآن، فانظر إلى كلماتهم في مقام الدفاع عن أبي بكر، فقد قال ابن تيمية:
«والجواب أن يقال: هذا الحديث من أكبر فضائل الصّديق وأدلّها على أنه لم يكن طالب رئاسة ولا كان ظالماً، وأنه إنما كان يأمر الناس بطاعة اللّه ورسوله فقال لهم: إن استقمت… .
والشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني آدم… ومقصود الصدّيق بذلك: إني لست معصوماً كالرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، وهذا حق.
وقول القائل: كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعيّة، كلام جاهل بحقيقة الإمامة، فإن الإمام ليس هو ربّاً للرعيّة حتى يستغني عنهم… لكن إذا كان أكملهم علماً وقدرةً، ورحمةً كان ذلك أصلح لأحوالهم»(4).
أقول:
لكن هذا الكلام مغالطة وخروجٌ عن البحث، فمن يدّعي أن الإمام ربّ للرعيّة؟ ومن يدّعي العصمة لأبي بكر؟
وكم فرقٌ بين من يخبر عن نفسه ويعترف بأن له شيطاناً مقترناً به يعتريه فيطيعه ويزيغ قلبه، فيطلب من الناس ويعتذر إليهم أن يجانبوه ثم لا يحاسبوه، وبين من قال: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً»(5)؟
وكم فرقٌ بين من في قلبه زيغ ومن كان راسخاً في العلم؟ قال اللّه تعالى: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اْلأَلْبابِ * رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ * رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْم لا رَيْبَ فيهِ إِنَّ اللّهَ لا يُخْلِفُ الْميعادَ)(6).
وكيف يكون من يزيغه شيطانه ـ فيطلب من الناس أن لا يطيعوه في زيغه بل يستعين بهم على تقويمه ـ مصداقاً لمن أمر اللّه تعالى بإطاعته إطاعةً مطلقةً وجعلها في سياق إطاعته وإطاعة رسوله، إذ قال: (أَطيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي اْلأَمْرِ مِنْكُمْ)؟(7)
ثم نقول لهم وهم يقولون بضرورة الأفضليّة في الإمام، وقبح تقدّم المفضول في الإمامة، كما نصّ عليه ابن تيمية في منهاجه غير مرّة: إن مقتضى هذا الكلام الثابت عن أبي بكر هو أن يكون مفضولاً بالنسبة إلى عمر، لأنكم رويتم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أنه قال في حقّه: «ما لقيك الشيطان سالكاً فجّاً إلا سلك فجّاً غيره…»؟
وإذا كان هذا مدحاً لعمر، فما قاله أبو بكر عن نفسه يكون دالاًّ على نقصه وموجباً للذّم له بالضرورة.
ثم قال ابن تيمية: استعانة علي برعيّته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر» ثم استشهد بما يروونه من قول عبيدة السلماني للإمام عليه السلام في مسألة بيع أمهات الأولاد: «رأيك مع عمر في الجماعة أحبّ إلينا من رأيك وحدك في الفرقة. وكان يقول: اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف، حتى يكون الناس جماعةً أو أموت كما مات أصحابي»(8).
لكن هذه القضية ـ بناءً على ثبوتها ـ على خلاف مدّعى ابن تيمية أدلّ، فإنها من موارد مخالفة الأمة لأمير المؤمنين وعدم إطاعتها له في أحكامه، وهو الذي قال عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله «علي مع الحق والحق مع علي، اللهم أدر الحق معه حيثما دار»(9).
وقال صلّى اللّه عليه وآله لمّا أرسله إلى اليمن قاضياً: «إن اللّه سيهدي قلبك ويثبّت لسانك» قال عليه السلام: «فما شككت في قضاء بعدُ»(10).
بل ذلك صريح كلامه مع عبيدة ـ إن ثبت ـ فقد قال: «فإني أكره الخلاف…» ولا شك أن من لم يطعه كان على الباطل، وهذا ذمٌ لهم لا له… بخلاف إقرار واعتراف أبي بكر بأن له شيطاناً يزيغه عن الحق ويحمله على الظلم والباطل.
ومن القوم من حمل كلام أبي بكر على طلب المشورة من الناس(11). وبطلانه أوضح كما لا يخفى.
ومنهم من نقض(12) بقضية آدم وحوّاء إذ قال تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ)(13) فإن كان نقصاً لكان في تلك القضية نقص عليهما، بل كلّ الأنبياء جميعاً إذ قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا نَبِيّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ)(14).
وبطلانه واضح كذلك، لما تقدّم من أن كلام أبي بكر صريح في وجود الشيطان معه وإطاعته له. وأما آدم وسائر الأنبياء والمرسلين فهم معصومون بالإجماع من المعاصي.

(1) انظر كتاب دلائل الصدق لنهج الحق 3 / 14.
(2) التحفة الاثنا عشرية: 269، المطعن الثامن.
(3) مختصر التحفة الإثنا عشرية: 274.
(4) منهاج السنّة 5 / 463.
(5) كلمة مشهورة لأمير المؤمنين علي، موجودة في كتب الفريقين.
(6) سورة آل عمران: 6 ـ 8.
(7) سورة النساء: 59 .
(8) منهاج السنّة 5 / 465.
(9) مجمع الزوائد 7 / 235.
(10) مسند أحمد 1 / 83 ، سنن أبي داود 2 / 160، السنن الكبرى للبيهقي 10 / 86 ، كنز العمال 13 / 113، مسند أبي يعلى 1 / 363، السنن الكبرى للنسائي 5 / 116.
(11) ؟؟؟؟؟؟
(12) ؟؟؟؟
(13) سورة البقرة: 36.
(14) سورة الحج: 52 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *