كلمات مالك و أبي حنيفة و غيرهما في شأنه

الشرح:
قال ابن تيمية: «وجعفر الصّادق رضي اللّه عنه من خيار أهل العلم والدّين. أخذ العلم عن جدّه أبي أمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعن محمد بن المنكدر، ونافع مولى ابن عمر، والزهري، وعطاء بن أبي رباح، وغيرهم. وروى عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري، مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وابن جريج، وشعبة، ويحيى بن سعيد القطان، وحاتم بن إسماعيل، وحفص بن غياث، ومحمد بن إسحاق بن يسار. وقال عمرو بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين.
وأمّا قوله: اشتغل بالعبادة…»(1).
أقول:
لم يلتفت الرجل إلى كلمة العلاّمة: «أفضل أهل زمانه وأعبدهم» لا بالنفي ولا بالإثبات… ولنورد كلمات عدّة من أئمة القوم تأكيداً لما ذكره العلاّمة رحمه اللّه:
قال إمامهم مالك بن أنس: «جعفر بن محمد، اختلفت إليه زماناً، فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال، إما مصلّ وإما صائم وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يحدّث إلاّ عن طهارة»(2).
وقال إمامهم أبو حنيفة: «ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، لمّا أقدمه المنصور بعث إلي فقال: يا أبا حنيفة: إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ له من المسائل الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليّ أبو جعفر ـ وهو بالحيرة ـ فأتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت عليه وأومأ إلي، فجلست، ثم التفت إليه فقال: يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة. قال جعفر: نعم. ثم أتبعها قد أتانا ـ كأنه كره ما يقول فيه قوم إنه إذا رأى الرجل عرفه ـ ثم التفت المنصور إلي فقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد اللّه من مسائلك. فجعلت ألقي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تبعناهم، وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة.
ثم قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس»(3).
وقال ابن حبان: «كان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلاً»(4).
وقال أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي: «ثقة لا يسأل عن مثله»(5).
وقال ابن خلكان: «كان من سادات أهل البيت، ولقّب بالصّادق لصدقه في مقالته، وفضله أشهر من أن يذكر»(6).
وقال أبو الفرج ابن الجوزي: «كان مشغولاً بالعبادة عن حبّ الرياسة»(7).
وقال أبو الفتح الشهرستاني: «جعفر بن محمد الصّادق، هو ذو علم غزير في الدّين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد في الدنيا، وورع تام عن الشهوات. وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين إليه ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل العراق وأقام بها مدّة، ما تعرّض للإمامة قط، ولا نازع في الخلافة أحداً. ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلَّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط»(8).
وقال أبو نعيم: «جعفر بن محمد الإمام الناطق، ذو الزمام السابق، أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق، أقبل على العبادة والخضوع، وآثر العزلة والخشوع، ونهى عن الرئاسة والجموع»(9).
وقال النووي: «اتفقوا على إمامته وجلالته»(10).
وأمّا الذين ذكر أنهم أخذوا عنه، فهم بعض من كلّ، كما لا يخفى على من راجع ترجمته في الكتب المذكورة وغيرها.
وأمّا أخذه عن الذين ذكرهم فكذب، ومما يوضح كذبه دعواه الأخذ عن الزهري الذي عرفت حاله.
قال قدس سره: قال علماء السيرة: إنه انشغل بالعبادة عن طلب الرياسة.
الشرح:
قال ابن تيمية: «وأمّا قوله: اشتغل بالعبادة عن الرياسة، فهذا تناقض من الإماميّة، لأن الإمام عندهم واجب أن يقوم بها وبأعبائها، فإنه لا إمام في وقته إلا هو، فالقيام بهذا الأمر أعظم لو كان واجباً وأولى من الإشتغال بنوافل العبادات»(11).
أقول:
إن الإمام المنصوص عليه بالإمامة يجب عليه قبولها والقيام بأعبائها متى ما أقبل عليه المسلمون وبايعوه وطلبوا منه ذلك، لكن هذا لم يكن من الناس، وعلى الجملة، فإن الحكومة والرياسة من شؤون الإمام الحق، فإن تمكّن منها وجبت عليه وإلاّ لم تجب عليه المطالبة بها، كما هو الحال بالنسبة إلى النبي. وفي كلمات أئمة أهل البيت ممّا يشهد بذلك كثير، ومن ذلك كلمات الأمير عليه السلام في (نهج البلاغة).
ثم إن الذي ذكره العلاّمة لم يكن منقولاً عن الإماميّة حتى يكون تناقضاً منهم، بل إنه قال: «قال علماء السيرة…» وقد وجدت هذا القول في الكلمات التي نقلناها، في عبارة ابن الجوزي، وأبي نعيم، والشهرستاني… لكن الرجل نسب هذا إلى العلاّمة نفسه قائلاً: «وأما قوله…» حتى يشكل بالتناقض على زعمه!!
قال قدس سره: قال عمرو بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمت أنه من سلالة النبيين.
الشرح:
كلام عمرو بن أبي المقدام هذا، مذكور في ترجمة الإمام عليه السلام في (تهذيب التهذيب) و(تهذيب الأسماء واللغات) وغيرهما، كما نقله المعترض نفسه أيضاً. ممّا يدلُّ على اعتنائهم به وبكلامه، إلا أنهم يتّهمونه بالرفض لتقديمه عليّاً على الشيخين، ولهذا السبب رفض بعضهم الحديث عنه!!

(1) منهاج السنّة 4 / 52 ـ 53.
(2) تهذيب التهذيب 2 / 89.
(3) جامع مسانيد أبي حنيفة 1 / 222، تذكرة الحفاظ 1 / 166.
(4) الثقات 6 / 131 وعنه تهذيب التهذيب 2 / 89.
(5) تهذيب التهذيب 2 / 88.
(6) وفيات الأعيان 1 / 327.
(7) صفة الصفوة 2 / 94.
(8) الملل والنحل 1 / 166.
(9) حلية الأولياء 3 / 192.
(10) تهذيب الأسماء واللغات 1 / 155.
(11) منهاج السنّة 4 / 53 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *