إنكار ابن تيميّة وجود الخلاف بين الصّحابة و دفاعه عنه وعنهم و الرّد عليه

وهؤلاء المفترون وصفوهم بنقيض ذلك، بأنهم لم يكونوا يعلمون الحق ويتّبعونه، بل كان أكثرهم يعلمون الحق ويخالفونه، كما يزعمونه في الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة والأمة، وكثير منهم عندهم لا يعلم الحق، بل اتبع الظالمين تقليداً، لعدم نظرهم المفضي إلى العلم، والذي لم ينظر قد يكون تركه النظر لأجل الهوى وطلب الدنيا، وقد يكون لقصوره ونقص إدراكه… فإذا كان هذا في حكايته لما جرى عقب موت النبي من اختلاف الأمة، فكيف سائر ما ينقله ويستدلّ به؟»(1).
أقول:
نعم إن الإنسان يجب أن يعرف الحق ومن يهدي إليه، وأن يتّبعه ويهتدي بهداه (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدّيِ إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(2)، فهل كان المسلمون بعد موت النبي صلّى اللّه عليه وآله يعرفون الحق؟ وهل اتبعوه؟
إن العلاّمة يخبر هنا بالواقع بحسب الأدلّة.. فقد أصبح المسلمون بعد نبيّهم صلّى اللّه عليه وآله أربعة أصناف… والمهمّ هو البحث عمّن طلب الأمر لنفسه بغير حق ـ وهو أبو بكر من المهاجرين، وسعد بن عبادة من الأنصار ـ ومن طلب الأمر لنفسه بحق، وهو علي عليه السلام.. وفي أي شيء يشكّك ابن تيمية؟
أمّا الإختلاف بعد النبي صلّى اللّه عليه وآله في الخلافة عنه، فلا سبيل إلى التشكيك فيه، بل إنه رأس الخلافات وأعظمها… .
قال أبو الفتح الشهرستاني: «وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان، وقد سهّل اللّه تعالى ذلك في الصدر الأول، فاختلف المهاجرون والأنصار فيها، فقالت الأنصار: منّا أمير ومنكم أمير، واتّفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة الأنصاري، فاستدركه أبو بكر وعمر ـ رضي اللّه عنهما ـ في الحال، بأن حضرا سقيفة بني ساعدة، وقال عمر: كنت أزوّر في نفسي كلاماً في الطريق، فلمّا وصلنا إلى السقيفة أردت أن أتكلّم فقال أبو بكر: مه يا عمر. فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر ما كنت أقدِّره في نفسي، كأنه يخبر عن غيب. فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدي إليه فبايعته وبايعه الناس، وسكنت الفتنة. ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى اللّه المسلمين شرّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيّما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فإنهما تغرة يجب أن يقتلا.
وإنما سكتت الأنصار عن دعواهم لرواية أبي بكر عن النبي صلّى اللّه عليه وآله: الأئمة من قريش. وهذه هي البيعة التي جرت في السقيفة.
ثم لما عاد إلى المسجد انثال الناس عليه وبايعوه عن رغبة، سوى جماعة من بني هاشم، وأبي سفيان من بني أمية، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ كان مشغولاً بما أمره النبي صلّى اللّه عليه وآله من تجهيزه ودفنه وملازمة قبره، من غير منازعة ولا مدافعة»(3).
وأمّا أن بعضهم طلب الأمر لنفسه، فتلك أخبار السقيفة وإباء علي عليه السلام وأتباعه بيعة أبي بكر، في كتب الحديث والسيرة والتاريخ… وتلك عبارة الشهرستاني مرّت عليك آنفاً… .
وأمّا أن طلب أبي بكر ـ فضلاً عن غيره ـ كان بغير حق، وأن طلب علي عليه السلام كان بحق، فستقف على الأدلة الدالة على ذلك في غضون الكتاب… إن كلّ هذا واقع، وأيّ ذنب لمن يخبر عمّا وقع على ضوء الأدلّة والأخبار الصحيحة؟
ونحن أيضاً نقول: «الصراط المستقيم لابدّ فيه من العلم بالحق والعمل به، وكلاهما واجب لا يكون الإنسان مفلحاً ناجياً إلا بذلك»، ولكن لم تكن الأمة كلّها بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كذلك.
وأمّا قوله: «هذه الأمة خير الأمم» فهو إشارة إلى قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(4)، لكن هذه الأمة خير أمّة ما دامت تعرف المعروف وتعمل به، وتعرف المنكر وتنتهي عنه وتنهى عنه، وإلاّ فهي منقلبة على أعقابها، وذلك ما أخبر به عز وجلّ بقوله (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ…)(5).
فيكون المعنى: كنتم خير أمة أخرجت للناس ما لم تنقلبوا على أعقابكم بعد نبيكم عليه وآله الصّلاة والسلام.
وقوله: «خيرها القرن الأول» إشارة إلى ما يروونه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أنه قال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم»(6) لكنه ـ بعد الغضّ عن سنده والكلام في مدلوله ـ ليس على إطلاقه بل مقيّد ـ بالإتفاق ـ بما إذا لم يرتدُّوا، فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في أحاديث صحيحة أخرجوها: ليردنّ عليّ الحوض غداً رجال من أصحابي ثم ليختلجنّ عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً…(7).
فيكون المعنى: خير القرون قرني ما لم يرتدُّوا على أدبارهم، ولم يحدثوا من بعدي. وهل الإرتداد إلاّ الإعراض عن الحق بعد معرفته؟.
فظهر أن ما ورد في الكتاب والسنّة في مدح هذه الأمة أو الصحابة، فهو أيضاً من الأدلّة التي يخبر بها عن الواقع ويصدق بها ما كان، فضلاً عن أن يكون مانعاً عن القول بالحق، أو دليلاً لرفع اليد عن الحقيقة وبيانها… .
فهذا موجز الكلام على ما قاله ابن تيمية.
ثم إنه شرع في الجواب التفصيلي بزعمه عما قال العلاّمة قدس سره: فقال: «قوله: (تعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم). فيكونون كلّهم متّبعين أهواءهم، ليس فيهم طالب حق، ولا مريد لوجه اللّه تعالى والدار الآخرة، ولا من كان قوله عن اجتهاد واستدلال، وعموم لفظه يشمل عليّاً وغيره. وهؤلاء الذين وصفهم بهذا هم الذين أثنى اللّه تعالى عليهم هو ورسوله، ورضي عنهم ووعدهم الحسنى…»(8).
أقول: هذا مردود من وجوه:
1 ـ إن (الأهواء) في اللّغة جمع (هوى) وهو (الحبّ) أو (ميل النفس) يكون في الخير والشرّ، كما نصّ عليه ابن الأثير في النهاية، والفيروزآبادي في القاموس، وشارحه الزبيدي(9)، وغيرهم… فمراد العلاّمة تعدّد (ميولهم) و (أفكارهم) و(عقائدهم) وما شابه ذلك… فما ذكره ابن تيمية وهم، وما فرّع عليه بقوله: «فيكونون متّبعين أهواءهم ليس فيهم…» وهم آخر.
2 ـ إن العلاّمة قسّم الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى الأصناف الأربعة ـ كما هو صريح كلامه واعترف به المعترض ـ ومن الأقسام من ذكره بقوله: «وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق…» يعني به علياً كما اعترف الرجل كذلك، فليس (كلّهم متّبعين أهواءهم ليس فيهم طالب حق…) كما توهّم.
3 ـ وبما ذكرنا يتضح: أنه لو فرض إرادة العلاّمة من لفظة (الأهواء) البدع وإرادة النفس بالمعنى المذموم، فإن لفظه لا يشمل علياً عليه السلام، لأن التقسيم قاطع للشركة.
4 ـ إن هذا التقسيم الذي ذكره العلاّمة هو واقع الحال، الذي يصدّقه الكتاب وأخبار القوم، فكما يوجد في القرآن الكريم آيات تتضمن الثناء على أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه وآله، كذلك فيه آيات تتضمّن أن بينهم منافقين، بل فيه (سورة المنافقين)، وكما يوجد في أخبار القوم بطرقهم أحاديث في الثناء عليهم عن النبي صلّى اللّه عليه وآله، كذلك يوجد فيها ما يتضمّن الذمّ الشديد، كقوله: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»(10) وقوله: «ليردنّ علي الحوض..»(11) وكذا إخباره أنه سيكون بعده أقوام يكذبون عليه(12). فظهر صحة تقسيم العلاّمة.
وفيما ذكرناه غنى وكفاية.
ولقد أطال الرجل، فذكر آيات زعم أنها «تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار»، وآثاراً رواها عن الصحابة أنفسهم في مدح الصّحابة… وفي كثير من ذلك بحث ونظر ليس هذا موضعه…، ومن ذلك قوله: «وقال للمؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ…)، (إنَّمَا وليُّكُم اللّه…) وقد وضع بعض الكذّابين حديثاً مفترى: إن هذه الآية نزلت في علي لمَّا تصدق بخاتمه في الصّلاة. وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل، وكذِبه بيِّن من وجوه كثيرة…»(13).
قلت: هذا كلّه خروج عن البحث في هذا المقام، وسيجئ إن شاء اللّه تعالى الكلام على هذه الآية، ليعلم الباحث المنصف أن الحديث الوارد ليس حديثاً مفترى، وأن الاستدلال بالآية لإمامة أمير المؤمنين عليه السلام بلا فصل تام، غير قابل للنقاش… وحينئذ، يعرف المنصف الطائفة التي «ليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على اللّه وتكذيباً للحق منهم»(14) والتي «لا يوجد أكثر المنافقين إلاّ فيهم»(15).

(1) منهاج السنة 2 / 11 ـ 16.
(2) سورة يونس: 35.
(3) الملل والنحل 1 / 24.
(4) سورة آل عمران: 110.
(5) سورة آل عمران: 114.
(6) جامع الأصول 9 / 404.
(7) جامع الأصول 11 / 120.
(8) منهاج السنّة 2 / 17.
(9) تاج العروس في شرح القاموس 10 / 415.
(10) جامع الأصول 10 / 427.
(11) جامع الأصول 11 / 120.
(12) والأخبار في هذا المعنى كثيرة بألفاظ مختلفة.
(13) منهاج السنّة 2 / 29 ـ 30.
(14) منهاج السنّة 2 / 34.
(15) المصدر 2 / 46.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *