المنهج الرابع: في الأدلّة على إمامته المستنبطة من أحواله وهي اثنا عشر

المنهج الرابع
في الأدلّة على إمامته المستنبطة من أحواله وهي اثنا عشر:
الأول
أنه عليه السلام كان أزهد الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وطلَّق الدنيا ثلاثاً، وكان قوته جريش الشعير وكان يختمه لئلاّ يضع الإمامان عليهما السلام فيه أدماً، وكان يلبس خشن الثياب وقصيرها، ورقَّع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكانت حمائل سيفه من اللّيف، وكذا نعله.
روى أخطب خوارزم عن عمار قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول: «يا علي إن اللّه تعالى زيّنك بزينة لم يزيّن العباد بزينة أحبّ إليه منها: زهّدك في الدنيا وبغّضها إليك، وحبّب إليك الفقراء فرضيت بهم أتباعاً ورضوا بك إماماً. يا علي طوبى لمن أحبّك وصدّق عليك، والويل لمن أبغضك وكذب عليك. أما من أحبّك وصدّق عليك فإخوانك في دينك وشركاؤك في جنتك، وأما من أبغضك وكذب عليك فحقيق على اللّه تعالى يوم القيامة أن يقيمه مقام الكذّابين».
قال سويد بن غفلة: دخلت على علي بن أبي طالب عليه السلام القصر، فوجدته جالساً بين يديه صحفة فيها لبن حازر أجد ريحه من شدة حموضته، وفي يديه رغيف أرى قشار الشعير في وجهه وهو يكسره بيده أحياناً، فإذا غلبه كسره بركبته فطرحه فيه، فقال: أدن فأصب من طعامنا هذا! فقلت: إني صائم! فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول: من منعه الصيام من طعام يشتهيه كان حقاً على اللّه أن يطعمه من طعام الجنة ويسقيه من شرابها. قال: فقلت لجاريته وهي قائمة بقرب منه: ويحك يا فضّة، ألا تتقين اللّه في هذا الشيخ؟ ألا تنخلون له طعاماً مما أرى فيه من النخالة؟ فقالت: لقد تقدّم إلينا ألا ننخل له طعاماً! قال: ما قلت لها؟ فأخبرته، فقال: بأبي وأمي من لم ينخل له طعام ولم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه اللّه عز وجل!
واشترى يوماً ثوبين غليظين فخيّر قنبراً فيها، فأخذ واحداً ولبس هو الآخر، ورأى في كمّه طولاً عن أصابعه فقطعه.
قال ضرار بن ضمرة: دخلت على معاوية بعد قتل علي أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: صف لي علياً فقلت: أعفني! فقال: لا بدّ أن تصفه، فقلت: أما إذا لابدَّ، فإنه كان واللّه بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس باللّيل ووحشته، غزير العبرة طويل الفكرة، يقلّب كفه ويعاتب نفسه، يعجبه من اللّباس ما خشن ومن الطعام ما جشب. وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه، ونحن واللّه مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكاد نكلّمه هيبة له، يُعظِّم أهل الدين ويقرّب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله.
فأشهد باللّه لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى اللّيل سدوله وغارت نجومه، قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا غُرِّي غيري، أبي تعرَّضت أم لي تشوَّفت؟ هيهات هيهات قد أبنتك ثلاثاً لارجعة فيها، فعُمرك قصير وخطرك يسير وعيشك حقير. آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق!
فبكى معاوية وقال: رحم اللّه أبا الحسن كان واللّه كذلك!
قال معاوية: كيف كان حبّك له؟ قال: كحبّ أم موسى لموسى! قال: فما حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذُبح ولدها في حجرها، فلا ترقأ عبرتها، ولا يسكن حزنها!
وبالجملة، فزهده لم يلحقه أحد فيه، ولا يسبقه أحد إليه.
وإذا كان أزهد الناس كان هو الإمام، لامتناع تقدّم المفضول عليه.
الثاني
أنه عليه السلام كان أعبد الناس يصوم النهار ويقوم اللّيل، ومنه تعلّم الناس صلاة اللّيل ونوافل النهار، وأكثر العبادات والأدعية المأثورة عنه تستوعب الوقت. وكان يصلّي في نهاره وليلته ألف ركعة، ولم يُخِلَّ بصلاة اللّيل حتى في ليلة الهرير.
قال ابن عباس: رأيته في حربه وهو يرقب الشمس فقلت: يا أمير المؤمنين ماذا تصنع؟ فقال: أنظر إلى الزوال لأصلّي، فقلت: في هذا الوقت؟ فقال: إنما نقاتلهم على الصّلاة!
فلم يغفل عن فعل العبادة في أوّل وقتها في أصعب الأوقات.
وكان إذا أريد إخراج شيء من الحديد من جسده تُرك إلى أن يدخل في الصلاة فيبقى متوجهاً إلى اللّه تعالى غافلاً عما سواه، غير مدرك للآلام التي تفعل به.
وجمع بين الصّلاة والزكاة فتصدّق وهو راكع، فأنزل اللّه تعالى فيه قرآناً يتلى.
وتصدّق بقوته وقوت عياله ثلاثة أيام حتى أنزل فيه وفيهم: هَلْ أتَى… .
وتصدّق ليلاً ونهاراً وسرّاً وجهاراً.
وناجى الرسول فقدم بين يدي نجواه صدقة فأنزل اللّه تعالى فيه قرآناً.
وأعتق ألف عبد من كسب يده.
وكان يؤجِّر نفسه وينفق على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الشِّعْب.
وإذا كان أعبد الناس كان أفضل، فيكون هو الإمام.
الثالث
أنه كان أعلم الناس بعد رسول اللّه، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: أقضاكم علىٌّ. والقضاء يستلزم العلم والدين.
وفيه نزل قوله تعالى: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ).
ولأنه عليه السلام كان في غاية الذكاء والفطنة شديد الحرص على التعلّم، ولازم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الذي هو أكمل الناس ملازمة شديدة ليلاً ونهاراً من صغره إلى وفاة رسول اللّه. وقال صلّى اللّه عليه وآله: العلم في الصغر كالنقش في الحجر. فتكون علومه أكثر من علوم غيره، لحصول القابل الكامل، والفاعل التام.
ومنه استفاد الناس العلم:
أما النحو، فهو واضعه، قال لأبي الأسود الدؤلي: الكلام كلّه ثلاثة أشياء: إسم وفعل وحرف… وعلّمه وجوه الإعراب.
وأما الفقه، فالفقهاء كلّهم يرجعون إليه، أما الإمامية فظاهر، لأنهم أخذوا علمهم منه ومن أولاده. وأما غيرهم فكذلك، أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وزفر، فإنهم أخذوا عن أبي حنيفة، والشافعي قرأ على محمد بن الحسن وعلى مالك فرجع فقهه إليهما. وأما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي، فرجع فقهه إليه، وفقه الشافعي راجع إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على الصادق، والصّادق قرأ على الباقر، والباقر قرأ على زين العابدين، وزين العابدين قرأ على أبيه، وأبوه قرأ على علي عليه السلام. وأما مالك فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وعكرمة على عبد اللّه بن عباس، وعبد اللّه بن عباس تلميذ علي عليه السلام.
وأما علم الكلام، فهو أصله ومن خطبه استفاد الناس، وكلّ الناس تلاميذه، فإن المعتزلة انتسبوا إلى واصل بن عطاء وهو كبيرهم وكان تلميذ أبي هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ علي عليه السلام: والأشعرية تلامذة أبي الحسن علي بن أبي بشر الأشعري، وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وهو شيخ من شيوخ المعتزلة.
وعلم التفسير إليه يعزى، لأن ابن عباس كان تلميذه فيه، قال ابن عباس: حدّثني أمير المؤمنين من تفسير الباء من بسم اللّه الرحمن الرحيم من أول اللّيل إلى آخره.
وأما علم الطريقة، فإليه منسوب، فإن الصوفيّة كلّهم يسندون الخرقة إليه.
وأما علم الفصاحة، فهو منبعه حتى قيل في كلامه أنه فوق كلامه المخلوق ودون كلام الخالق، ومنه تعلم الخطباء. وقال: سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض!
وإليه يرجع الصحابة في مشكلاتهم، ورووا في عمر قضايا كثيرة قال فيها: لولا على لهلك عمر. وأوضح كثيراً من المشكلات:
جاء إليه شخصان كان مع أحدهما خمسة أرغفة ومع الآخر ثلاثة، فجلسا يأكلان فجاءهما ثالث فشاركهما، فلما فرغوا رمى لهما ثمانية دراهم، فطلب صاحب الأكثر خمسة فأبى عليه صاحب الأقل، فتخاصما ورجعا إلى علي عليه السلام فقال: قد أنصفك فقال: يا أمير المؤمنين إن حقي أكثر وأنا أريد مرّ الحق، فقال: إذا كان كذلك فخذ درهماً واحداً وأعطه الباقي.
ووقع مالكا جارية عليها جهلاً في طهر واحد فحملت، فأشكل الحال فترافعا إليه فحكم بالقرعة فصوّبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقال: الحمد للّه الذي جعل لنا أهل البيت من يقضي على سنن داود. يعني به القضاء بالإلهام.
وركبت جارية أخرى فنخستها ثالثة فوقعت الراكبة فماتت، فقضى بثلثي ديتها على الناخسة والقامصة، وصوّبه النبي صلّى اللّه عليه وآله.
وقتلت بقرة حماراً، فترافع المالكان إلى أبي بكر فقال: بهيمة قتلت بهيمة لا شيء على ربها! ثم مضيا إلى عمر فقضى بذلك أيضاً، ثم مضيا إلى علي عليه السلام فقال: إن كانت البقرة دخلت على الحمار في منامه فعلى ربّها قيمة الحمار لصاحبه، وإن كان الحمار دخل على البقرة في منامها فقتلته فلا غرم على صاحبها! فقال النبي صلّى اللّه عليه وآله: لقد قضى علي بن أبي طالب بينكما بقضاء اللّه عز وجلّ.
والأخبار العجبية في ذلك لا تحصى كثرةً.
وإذا كان أعلم وجب أن يكون هو الإمام، لقوله تعالى: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)!
الرابع
أنه كان أشجع الناس، وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام وتشيّدت أركان الإيمان، ما انهزم في موطن قطّ ولا ضرب بسيفه إلا قطّ، وطالما كشف الكرب عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ولم يفرَّ كما فرَّ غيره.
ووقاه بنفسه لما بات على فراشه مستتراً بإزاره فظنّه المشركون وقد اتفقوا على قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أنه هو، فأحدقوا به وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه فيذهب دمه ويعدو كلّ قبيل إلى رهطه. وكان ذلك سبب حفظ دم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتمت السّلامة وانتظم به الغرض في الدعاء إلى الملّة، فلما أصبح القوم وأرادوا الفتك به ثار إليهم فتفرّقوا عنه حين عرفوه، وانصرفوا وقد ضلّت حيلتهم وانتقض تدبيرهم.
وفي غزاة بدر وهي أول الغزوات، كانت على رأس ثمانية عشر شهراً من قدومه المدينة، وعمره سبعة وعشرون سنة، قتل عليه السلام منهم ستة وثلاثين رجلاً بانفراده، وهم أعظم من نصف المقتولين، وشرك في الباقين.
وفي غزاة أحد انهزم الناس كلّهم عن النبي صلّى اللّه عليه وآله إلا علي بن أبي طالب عليه السلام وحده! ورجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نفرٌ يسيرٌ أوّلهم عاصم بن ثابت وأبو دجانة وسهل بن حنيف، وجاء عثمان بعد ثلاثة أيام، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لقد ذهبت فيها عريضة! وتعجّبت الملائكة من ثبات علي عليه السلام وقال جبرئيل وهو يعرج إلى السماء: لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي! وقتل علي عليه السلام أكثر المشركين في هذه الغزاة، وكان الفتح فيها على يديه عليه السلام.
روى قيس بن سعد عن أبيه قال: سمعت عليّاً عليه السلام يقول: أصابتني يوم أحد ست عشرة ضربة، سقطت إلى الأرض في أربع منهنّ، فجاءني رجل حسن الوجه حسن الكلم طيب الريح فأخذ بضبعي فأقامني ثم قال: أقبل عليهم فإنك في طاعة اللّه وطاعة رسوله، فهما عنك راضيان. قال علي: فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فأخبرته فقال: يا علي أما تعرف الرجل؟ قلت: لا ولكن شبّهته بدحية الكلبي، فقال: يا علي أقرَّ اللّه عينك كان جبرئيل عليه السلام.
وفي غزاة الأحزاب وهي غزاة الخندق، لما فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من عمل الخندق أقبلت قريش يقدمها أبو سفيان وكنانة وأهل تهامة في عشرة آلاف، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد، ونزلوا من فوق المسلمين ومن تحتهم كما قال تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)، فخرج النبي صلّى اللّه عليه وآله بالمسلمين وهم ثلاثة آلاف وجعل الخندق بينهم، واتفق المشركون مع اليهود وطمع المشركون بكثرتهم وموافقة اليهود. وركب عمرو بن عبدود وعكرمة بن أبي جهل ودخلوا من مضيق في الخندق إلى المسلمين وطلب المبارزة، فقام عليٌّ وأجابه فقال له النبي صلّى اللّه عليه وآله إنه عمرو، فسكت. ثم طلب المبارزة ثانياً وثالثاً، وكلّ ذلك يقوم علي ويقول له النبي صلّى اللّه عليه وآله: إنه عمرو، فأذن له في الرابعة. فقال له علي عليه السلام: كنت عاهدتَ اللّه ألا يدعوك رجل من قريش إلى احدى خلّتين إلا أخذتها منه، وأنا أدعوك إلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك، قال: أدعوك إلى النزال! قال: ما أحبّ أن أقتلك! فقال له علي عليه السلام: ولكني أحبّ أن أقتلك! فحميَ عمرو ونزل عن فرسه وتجاولا فقتله علي ووَلَدَهُ وانهزم عكرمة، ثم انهزم باقي المشركين واليهود!
وعنه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: قتل علي لعمرو بن ود أفضل من عبادة الثقلين!
وفي غزاة بني النضير قتل علي عليه السلام رامي قبة النبي صلّى اللّه عليه وآله بسهم، وقتل بعده عشرة منهم فانهزموا.
وفي غزاة السلسلة، جاء أعرابي فأخبر النبي صلّى اللّه عليه وآله أن جماعة من العرب قصدوا أن يبيّتوا النبي صلّى اللّه عليه وآله بالمدينة، فقال صلّى اللّه عليه وآله: من للوادي؟ فقال أبو بكر: أنا له، فدفع إليه اللّواء وضمّ إليه سبعمائة، فلما وصل إليهم قالوا له: إرجع إلى صاحبك فإنا في جمع كثير، فرجع!
فقال صلّى اللّه عليه وآله في اليوم الثاني: من للوادي؟ فقال عمر: أنا ذا يا رسول اللّه فدفع إليه الراية، ففعل كالأول!
فقال صلّى اللّه عليه وآله في اليوم الثالث: أين علي بن أبي طالب؟ فقال: أنا ذا يا رسول اللّه فدفع إليه الراية، فمضى إلى القوم فلقيهم بعد صلاة الصبح، فقتل منهم ستة أو سبعة وانهزم الباقون، وأقسم اللّه تعالى: بفعل أمير المؤمنين عليه السلام فقال: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً…).
وقتل من بني المصطلق مالكاً وابنه، وسبى كثيراً من جملتهم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، فاصطفاها النبي صلّى اللّه عليه وآله، فجاء أبوها في ذلك اليوم فقال: يا رسول اللّه ابنتي كريمة لا تسبى، فأمره بأن يخيّرها فاختارت النبي صلّى اللّه عليه وآله فقال: أحسنت وأجملت. ثم قال: يا بنية لا تفضحي قومك! فقالت: اخترت اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وآله!
وفي غزاة خيبر، كان الفتح فيها على يد أمير المؤمنين عليه السلام. دفع صلّى اللّه عليه وآله الراية إلى أبي بكر فانهزم، ثم إلى عمر فانهزم، ثم إلى علي عليه السلام وكان أرمد العين فتفل في عينه وخرج فقتل مرحباً فانهزم الباقون وغلّقوا عليهم الباب، فعالجه أمير المؤمنين عليه السلام فقلعه وجعله جسراً على الخندق، وكان الباب يغلقه عشرون رجلاً، ودخل المسلمون الحصن ونالوا الغنائم، وقال عليه السلام: واللّه ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانية، بل بقوّة ربانية.
وكان فتحُ مكة بواسطته عليه السلام.
وفي غزاة حنين، خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله متوجها إليهم في عشرة آلاف من المسلمين فعاينهم أبو بكر وقال: لن نغلب اليوم من كثرة، فانهزموا ولم يبق مع النبي صلّى اللّه عليه وآله غير تسعة من بني هاشم، وأيمن ابن أم أيمن! وكان أمير المؤمنين بين يديه يضرب بالسيف، وقتل من المشركين أربعين نفراً فانهزموا!
الخامس
إخباره بالغائب والكائن قبل كونه:
فأخبر بأن طلحة والزبير لما استأذناه في الخروج إلى العمرة: لا واللّه ما يريدان العمرة وإنما يريدان البصرة، فكان كما قال!
وأخبر وهو بذي قار جالس لأخذ البيعة: يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون ولا ينقصون يبايعوني على الموت، فكان كذلك وكان آخرهم أويس القرني.
وأخبر بقتل ذي الثدية وكان كذلك.
وأخبره شخص بعبور القوم في قضية النهروان فقال: لم يعبروا، ثم أخبره آخر بذلك، فقال: لم يعبروه وإنه واللّه مصرعهم، فكان كذلك!
وأخبر بقتل نفسه الشريفة.
وأخبر جويرية بن مسهر بأن اللّعين يقطع يديه ورجليه ويصلبه، ففعل به معاوية ذلك.
وأخبر ميثم التمار بأنه يصلب على باب عمرو بن حريث عاشر عشرة هو أقصرهم خشبة، وأراه النخلة التي يصلب عليها، فوقع كذلك!
وأخبر رشيد الهجري بقطع يديه ورجليه وصلبه وقطع لسانه، فوقع!
وأخبر كميل بن زياد بأن الحجاج يقتله فوقع، وأن قنبراً يذبحه الحجاج، فوقع!
وقال للبراء بن عازب: إن ابني الحسين يقتل ولا تنصره، فكان كما قال. وأخبر بموضع قتله.
وأخبر بملك بني العباس وأخذ الترك الملك منهم، فقال: ملك بني العباس عُسْرٌ لا يسرَ فيه، لو اجتمع عليهم الترك والديلم والسند والهند والبربر والطيلسان على أن يزيلوا ملكهم لما قدروا أن يزيلوه حتى يشذّ عنهم مواليهم وأرباب دولتهم، ويُسلط عليهم ملك من الترك يأتي عليهم من حيث بدأ ملكهم لا يمرّ بمدينة إلا فتحها، ولا ترفع له راية إلا نكسها، الويل الويل لمن ناواه، فلا يزال كذلك حتى يظفر، ثم يدفع بظفره إلى رجل من عترتي يقول بالحق ويعمل به. وكان الأمر كذلك حيث ظهر هولاكو من ناحية خراسان، ومنه ابتدأ ملك بني العباس، حيث بايع لهم أبو مسلم الخراساني.
السادس
أنه كان مستجاب الدعاء:
دعا على بسر بن أرطاة بأن يسلبه اللّه عقله، فخولط فيه!
ودعا على العيزار بالعمى فعميَ.
ودعا على أنس بن مالك لمّا كتم شهادته بالبرص، فأصابه.
وعلى زيد بن أرقم بالعمى، فعميَ!
السابع
أنه لمّا توجه إلى صفين، لحق بأصحابه عطشٌ شديد، فعدل بهم قليلاً فلاح لهم ديْرٌ فصاحوا بساكنه وسألوه عن الماء؟ فقال: بيني وبينه أكثر من فرسخين، ولولا أني اُوتى بما يكفيني كلّ شهر على التقصير لتلفت عطشاً، فأشار أمير المؤمنين إلى مكان قريب من الدير وأمر بكشفه، فوجدوا صخرة عظيمة فعجزوا عن إزالتها، فقلعها وحده ثم شربوا الماء، فنزل إليه الراهب وقال له: أنت نبيٌّ مرسل أو ملكٌ مقرب؟ قال: لا، ولكني وصي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فأسلم على يده وقال: إن هذا الدير بني على طلب قالع هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها، وقد مضى جماعة قبلي ولم يدركوه، وكان الراهب من جملة من استشهد معه، ونظم القصّة السيد الحميري في قصيدته المذهّبة.
ولقد سرى فيما يسير بليلة *** بعد العشاء بكربلاء في موكب
الثامن
ما رواه الجمهور أن النبي صلّى اللّه عليه وآله لما خرج إلى بني المصطلق جنَّب عن الطريق وأدركه الليل، فنزل بقرب واد وعر، فهبط جبرئيل عليه السلام آخر اللّيل وأخبره أن طائفة من كفار الجن قد استوطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه، فدعا بعلي عليه السلام وعوّذه وأمره بنزول الوادي، فقتلهم.
التاسع
رجوع الشمس له مرّتين، إحداهما في زمن النبي صلّى اللّه عليه وآله، والثانية بعده.
أما الأولى، فروى جابر وأبو سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نزل عليه جبرئيل يوماً يناجيه من عند اللّه تعالى، فلما تغشاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين عليه السلام، فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس، فصلّى علي عليه السلام العصر بالإيماء، فلما استيقظ النبي صلّى اللّه عليه وآله قال له: سل اللّه تعالى يردَّ عليك الشمس لتصلّي العصر قائماً، فدعا فردّت الشمس، فصلّى العصر قائماً.
وأما الثانية، فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل، اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابّهم، وصلّى بنفسه في طائفة من أصحابه العصر، وفاتت كثيراً منهم، فتكلّموا في ذلك فسأل اللّه تعالى ردّ الشمس فردّت. ونظمه السيد الحميري في قصيدته المذهّبة، فقال:
رُدَّت عليه الشمس لَمَّا فاتَهُ *** وقتُ الصلاة وقد دنت للمغربِ
حتى تبلَّج نورها في وقتها *** للعصر ثم هَوَتْ هَوِيَّ الكوكب
وعليه قد رُدَّت ببابل مرةً *** أخرى وما رُدت لخلق مُعْرِب
العاشر
ما رواه أهل السِّيَر: أن الماء زاد في الكوفة وخافوا الغرق، ففزعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فركب بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وخرج الناس معه، فنزل على شاطئ الفرات فصلّى ثم دعا وضرب صفحة الماء بقضيب في يده، فغاض الماء وسلّم عليه كثير من الحيتان، ولم ينطق الجرِّي والزمَّار والمارماهي، فسئل عن ذلك فقال: أنطق اللّه لي ماطهر من السموك، وأصمت ماحرمه ونجّسه وأبعده.
الحادي عشر
روى جماعة أهل السيرة: أنه عليه السلام كان يخطب على منبر الكوفة، فظهر ثعبان فرقى المنبر، فخاف الناس وأرادوا قتله فمنعهم، فخاطبه ثم نزل! فسأل الناس عنه فقال: إنه حاكم من حكام الجن التبس عليه قضية فأوضحتها له! وكان أهل الكوفة يسمّون الباب الذي دخل منه باب الثعبان، فأراد بنو أمية إطفاء هذه الفضيلة فنصبوا على ذلك الباب فيلاً مدة طويلة حتى سمي: باب الفيل.
الثاني عشر
الفضائل: إما نفسانيّة أو بدنيّة أو خارجيّة، وعلى التقديرين الأولين، فإما أن تكون متعلّقة بالشخص نفسه أو بغيره، وأمير المؤمنين عليه السلام جمع الكلّ!
أما فضائله النفسانية المتعلّقة به كعلمه وزهده وكرمه وحلمه، فهي أشهر من أن تخفى، والمتعلّقة بغيره كذلك كظهور العلوم عنه واستفادة غيره منه.
وكذا فضائله البدنية كالعبادة والشجاعة والصدقة.
وأما الخارجية فكالنسب، ولم يلحقه أحد فيه لقربه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وتزويجه إيّاه بابنته سيدة النساء.
وقد روى أخطب خوارزم من كبار السنّة بإسناده عن جابر قال: لما تزوّج علي فاطمة زوجه اللّه إياها من فوق سبع سماوات وكان الخاطب جبرئيل، وكان ميكائيل وإسرافيل في سبعين ألفاً من الملائكة شهوداً، فأوحى اللّه تعالى إلى شجرة طوبى أن انثري ما فيك من الدرّ والجواهر ففعلت، وأوحى اللّه تعالى إلى الحور العين أن القُطْنَ، فلقطنَ فهنَّ يتهادين بينهن إلى يوم القيامة.
وأورد أخباراً كثيرة في ذلك.
وكان أولاده عليهم السّلام أشرف الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وبعد أبيهم.
عن حذيفة بن اليمان قال: رأيت النبي صلّى اللّه عليه وآله آخذاً بيد الحسين بن علي صلّى اللّه عليه وآله وقال: أيها الناس، هذا الحسين بن علي ألا فاعرفوه وفضلوه، فواللّه لجدّه أكرم على اللّه من جدّ يوسف بن يعقوب صلّى اللّه عليه وآله هذا الحسين بن علي جدّه في الجنة، وجدّته في الجنة، وأمّه في الجنة، وأبوه في الجنة، وعمّه في الجنة، وعمّته في الجنّة، وخاله في الجنة، وخالته في الجنة، وأخوه في الجنة، وهو في الجنة، ومحبّوهم في الجنة، ومحبو محبّيهم في الجنة.
وعن حذيفة بن اليمان قال: بتُّ عند النبي صلّى اللّه عليه وآله ذات ليلة، فرأيت عنده شخصاً فقال لي: هل رأيت؟ قلت: نعم يا رسول اللّه، قال: هذا مَلَكٌ لم ينزل إلي منذ بعثت، أتاني من اللّه فبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة!
والأخبار في ذلك كثيرة.
وكان محمد بن الحنفية فاضلاً عالماً، حتى ادّعى قوم فيه الإمامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *