كلام الآلوسي

كلام الآلوسي
وقال شهاب الدين الآلوسي البغدادي بتفسـير قوله تعـالى: (فَهَلْ عَسَـيْتُمْ إِن تَوَلَّـيْـتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الاَْرْضِ وَتُـقَـطِّـعُوا أَرْحَامَـكُم)(1) ما ملخّصه:
«واستدلّ بها أيضاً على جواز لعن يزيد ـ عليه من الله تعالى ما يستحقّ ـ : نقل البرزنجي في الإشاعة، والهيثمي في الصواعق، أنّ الإمام أحمد لمّا سأله ولده عبـد الله عن لعن يزيد قال: كيف لا يُلعن من لعنه الله تعالى في كتابه؟!
فقال عبـد الله: قد قرأت كتاب الله عزّ وجلّ فلم أجـد فيه لعن يزيد؟!
فقال الإمام: إنّ الله تعالى يقول: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الاَْرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) الآية; وأيّ فساد وقطيعة أشدّ ممّا فعله يزيد؟! انتهى.
وعلى هذا القول، لا توقّف في لعن يزيد; لكثرة أوصافه الخبيثة وارتكابه الكبائر في جميع أيّام تكليفه، ويكفي ما فعله أيّام استيلائه بأهل المدينة ومكّة، فقد روى الطبراني بسند حسـن: اللّهمّ من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرف ولا عدل.
والطامة الكبرى ما فعله بأهل البيت، ورضاه بقتل الحسـين على جدّه وعليه الصلاة والسلام، واستبشاره بذلك وإهانته لأهل بيته ممّا تواتر معناه، وإن كانت تفاصيله آحاداً، وفي الحديث: سـتّة لعنتهم ـ وفي رواية: لعنهم الله ـ وكلُّ نبيّ مجاب الدعوة: المحرّف لكتاب الله ـ وفي رواية: الزائد في كتاب الله ـ، والمكذّب بقدر الله، والمتسلّط بالجبروت ليعزّ من أذلّ الله ويذلّ من أعزّ الله، والمسـتحلّ من عترتي، والتارك لسُـنّتي.
وقد جزم بكفره وصرّح بلعنه جماعة من العلماء، منهم: الحافظ ناصر السُـنّة ابن الجوزي، وسبقه القاضي أبو يعلى، وقال العلاّمة التفتازاني: لا نتوقّف في شأنه، بل في إيمانه، لعنة الله تعالى عليه وعلى أنصاره وأعوانه.
وممّن صرّح بلعنه: الجلال السـيوطي عليه الرحمة.
وفي تاريخ ابن الوردي وكتاب الوافي بالوفيات: إنّ السبي لمّا ورد من العراق على يزيد، خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرّيّة عليّ والحسـين رضي الله عنهما، والرؤوس على أطراف الرماح وقد أشرفوا على ثنيّة جيرون، فلمّا رآهم نعب غراب، فأنشأ يقول:
لمّا بدت تلك الحمول… البيتين.
يعني: إنّه قتل بمن قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر، كجدّه عتبة وخاله ولد عتبة وغيرهما; وهذا كفر صريح، فإذا صحَّ عنه فقد كفر به، ومثله تمثّله بقول عبـد الله بن الزبعرى قبل إسلامه:
ليت أشياخي… الأبيات.
وأفتى الغزّالي عفا الله عنه بحرمة لعنه.
وتعقّب السفاريني ـ من الحنابلة ـ نقل البرزنجي والهيثمي السابق عن أحمد رحمه الله تعالى، فقال: المحفوظ عن الإمام أحمد خلاف ما نقلا، ففي الفروع ما نصّه: من أصحابنا من أخرج الحجّاج عن الإسلام، فيتوجّه عليه يزيد ونحوه، ونصّ أحمد خلاف ذلك، وعليه الأصحاب، ولا يجوز التخصيص باللعنة، خلافاً لأبي الحسـين وابن الجوزي وغيرهما.
وقال شيخ الإسلام ـ يعني والله تعالى أعلم: ابن تيميّة ـ : ظاهر كلام أحمد الكراهة.
قلت: والمختار ما ذهب إليه ابن الجوزي وأبو حسـين القاضي ومن وافقهما.
انتهى كلام السفاريني.
وأبو بكر ابن العربي المالكي ـ عليه من الله تعالى ما يستحقّ ـ أعظم الفرية، فزعم أنّ الحسـين قتل بسيف جدّه، صلّى الله عليه تعالى وسلّم. وله من الجهلة موافقون على ذلك، (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً)(2).
قال ابن الجوزي عليه الرحمة في كتابه (السرّ المصون): من الاعتقادات العامّة التي غلبت على جماعة منتسـبين إلى السُـنّة أن يقولوا: إنّ يزيد كان على الصواب، وإنّ الحسـين رضي الله تعالى عنه أخطأ في الخروج عليه; ولو نظروا في السير لعلموا كيف عُقدت له البيعة، وأُلزم الناس بها، ولقد فعل في ذلك كلّ قبيح.
ثمّ لو قدّرنا صحّة عقد البيعة، فقد بدت منه بواد كلّها توجب فسخ العقد، ولا يميل إلى ذلك إلاّ كلُّ جاهل عامّيّ المذهب يظنّ أنّه يغيظ بذلك الرافضـة.
وأنا أقول: الذي يغلب على ظنّي أنّ الخبيث لم يكن مصدّقاً برسالة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأنّ مجموع ما فعل مع أهل حرم الله تعالى وأهل حرم نبيّه عليه الصلاة والسلام وعترته الطيّبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات، وما صدر منه من المخازي، ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر.
ولا أظنّ أنّ أمره كان خافياً على أجلّة المسلمين إذ ذاك، ولكن كانوا مغلوبين مقهورين، لم يسعهم إلاّ الصبر ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
ولو سُـلّم أنّ الخبيث كان مسـلماً، فهو مسـلمٌ جمـعَ من الكبـائر مـا لا يحيـط به نطاق البيان.
وأنا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين ولو لم يتصوّر أن يكون له مثلٌ من الفاسقين.
والظاهر أنّه لم يتب، واحتمال توبته أضعف من إيمانه، ويُلحق به ابن زياد وابن سعد وجماعة; فلعنة الله عزّ وجلّ عليهم أجمعين، وعلى أنصارهم وأعوانهم وشيعتهم، ومن مال إليهم إلى يوم الدين، ما دمعت عين على أبي عبـد الله الحسـين.
ويعجبني قول شاعر العصر، ذي الفضل الجلي، عبـد الباقي أفندي العمري الموصلي، وقد سُـئل عن لعن يزيد اللعين:
يزيد على لعني عريض جنابه *** فأغدو به طول المدى ألعن اللعنا
ومن كان يخشى القال والقيل، من التصريح بلعن ذاك الضليل، فليقل: لعن الله عزّ وجلّ مَن رضي بقتل الحسـين، ومَن آذى عترة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بغير حقّ، ومَن غصبهم حقّهم; فإنّه يكون لاعناً له; لدخوله تحت العموم دخولا أوّلـيّـاً في نفس الأمر.
ولا يخالف أحدٌ في جواز اللعن بهذه الألفاظ ونحوها، سوى ابن العربي المارّ ذِكره وموافقيه; فإنّهم على ظاهر ما نُقل عنهم لا يجوّزون لعن مَن رضي بقتل الحسـين رضي الله تعالى عنه، وذلك لعمري هو الضلال البعيد، الذي يكاد يزيد على ضلال يزيد»(3).
وقال الآلوسي:
«وما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من فساد الدين على أيدي أغيلمة من سفهاء قريش; وقد كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت.
أو المراد الأحاديث التي فيها تعيين أسماء أُمراء الجور وأحوالهم وذمّهم، وقد كان رضي الله تعالى عنه يكنّي عن بعض ذلك ولا يصرّح; خوفاً على نفسه منهم بقوله: أعوذ بالله سبحانه من رأس السـتّين وإمارة الصبيان; يشير إلى خلافة يزيد الطريد لعنه الله تعالى على رغم أنف أوليائه، لأنّها كانت سنة سـتّين من الهجرة، واسـتجاب الله تعالى دعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فمات قبلها بسـنة»(4).
وقال:
«(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ)(5)، أي بأيّ نوع من الإيذاء كان، وفي صيغة الاستقبال المشعرة بترتّب الوعيد على الاستمرار على ما هم عليه إشعارٌ بقبول توبتهم.
(لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)، أي بسبب ذلك، كما ينبئ عنه بناء الحكم على الموصول، وجملة الموصول وخبره مسوق من قبله عزّ وجلّ على نهج الوعيد، غير داخل تحت الخطاب.
وفي تكرير الإسناد، بإثبات العذاب الأليم لهم، ثمّ جعل الجملة خبراً، ما لا يخفى من المبالغة، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة مع الإضافة إلى الاسم الجليل لغاية التعظيم والتنبيه، على أنّ أذيّته عليه الصلاة والسلام راجعة إلى جنابه عزّ وجلّ، موجبة لكمال السخط والغضب منه سبحانه.
وذكر بعضهم أنّ الإيذاء لا يختصّ بحال حياته صلّى الله عليه وسلّم، بل يكون بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم أيضاً، وعدّوا من ذلك التكلّم في أبويه صلّى الله عليه وسلّم بما لا يليق، وكذا إيذاء أهل بيته رضي الله تعالى عنهم، كإيذاء يزيد عليه ما يسـتحقّ لهم، وليـس بالبعيـد»(6).
وقال:
«و (الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ)(7) أبلغ من (عدوّك); ولذا اختير عليه مع اختصاره، والآية قيل: نزلت في أبي سفيان ابن حرب، كان عدوّاً مبيناً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصار عند أهل السُـنّة وليّـاً مصافياً، وكأنّ ما عنده انتقل إلى ولد ولده يزيد عليه من الله عزّ وجلّ ما يسـتحقّ»(8).
وقال:
«(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)(9)، والمراد به الجنس، فهو في معنى الجمع; ولذا قيل: «أُولئك»، وإلى ذلك أشار الحسـن بقوله: هو الكافر العاقّ لوالديه المنكر للبعث; ونزول الآية في شخص لا ينافي العموم كما قرّر غير مرّة، وزعم مروان عليه ما يستحقّ أنّها نزلت في عبـد الرحمن ابن أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنهما، وردّت عليه عائشة رضي الله تعالى عنها.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن عبـد الله، قال: إنّي لفي المسـجد حيـن خطـب مروان، فقال: إنّ الله تعـالى قد أرى لأمير المؤمنين ـ يعني: معاوية ـ في يزيد رأياً حسناً أن يستخلفه، فقد استخلف أبو بكر عمر.
فقال عبـد الرحمن بن أبي بكر: أهرقلية؟! إنّ أبا بكر رضي الله تعـالى عنـه والله مـا جعلهـا في أحـد من وُلـده ولا أحـد من أهـل بيتـه، ولا جعلها معاوية إلاّ رحمة وكرامة لولده.
فقال مروان: ألسـتَ الذي قال لوالديه أُفّ لكما؟!
فقال عبـد الرحمن: ألسـتَ ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أباك؟!
فسمعت عائشة فقالت: مروان! أنت القائل لعبـد الرحمن كذا وكذا؟! كذبت والله ما فيه نزلت، نزلت في فلان بن فلان.
وفي رواية تقدّمت رواها جماعة، وصحّحها الحاكم، عن محمّـد بن زياد، أنّها كذّبته ثلاثاً، ثمّ قالت: والله ما هو به ـ تعني أخاها ـ ولو شئت أن أُسمّي الذي أُنزلت فيه لسمّيته!
إلى آخر ما مرّ، وكان ذلك من فضض اللعنة، إغاظة لعبـد الرحمن وتنفيراً للناس عنه; لئلاّ يلتفتوا إلى ما قاله، وما قال إلاّ حقّـاً، فأين يزيد الذي تجلّ اللعنة عنه وأين الخلافة؟!
ووافق بعضهم ـ كالسهيلي في (الإعلام) ـ مروان في زعم نزولها في عبـد الرحمن، وعلى تسليم ذلك لا معنى للتعيير، لا سيّما من مروان، فإنّ الرجل أسلم وكان من أفاضل الصحابة وأبطالهم، وكان له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره، والإسلام يجبّ ما قبله، فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن يعـيّر بما كان»(10).
وقال:
«وذكروا من علامات النفاق بغض عليّ كرّم الله تعالى وجهه..
فقد أخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود، قال: ما كـنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلاّ ببغضهم عليّ بن أبي طالب.
وأخرج هو وابن عساكر، عن أبي سعيد الخدري ما يؤيّده(11).
وعندي أنّ بغضه رضي الله تعالى عنه من أقوى علامات النفاق، فإنْ آمنتَ بذلك فيا ليت شعري ماذا تقول في يزيد الطريد؟! أكان يحبّ عليّـاً كرّم الله تعالى وجهه أم كان يبغضه؟!
ولا أظنّك في مرية من أنّـه عليه اللعنة كان يبغضه رضي الله تعالى عنه أشدّ البغض، وكذا يبغض ولديه الحسـن والحسـين على جدّهما وأبويهما وعليهما الصلاة والسلام كما تدلّ على ذلك الآثار المتواترة معنىً; وحينئذ لا مجال لك من القول بأنّ اللعين كان منافقـاً»(12).

(1) سورة محمّـد 47: 22.
(2) سورة الكهف 18: 5.
(3) روح المعاني 26 / 108 ـ 111.
(4) روح المعاني 6 / 280 ـ 281.
(5) سورة التوبة 9: 61.
(6) روح المعاني 10 / 185.
(7) سورة فصّلت 41: 34.
(8) روح المعاني 24 / 190.
(9) سورة الأحقاف 46: 18.
(10) روح المعاني 26 / 31 ـ 32، وانظر: تفسـير ابن أبي حاتم 10 / 3295 ح 18572، تفسير الفخر الرازي 28 / 24.
(11) انظر: تاريخ دمشق 42 / 286، تذكرة الحفّاظ 2 / 673، الدرّ المنثور 7 / 504.
(12) روح المعاني 26 / 117.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *