أمر يزيد بقتل الإمام الحسين (عليه السلام)

الحلقة الثانية

دور يزيد والحزب الأُموي في الكوفة

في بابين:

البابُ الأوّل

دور يزيد بن معاوية

في فصول:

الفصل الأوّل

في أنّ يزيد أمر بقتل الإمام عليه السلام

قال ابن حجر الهيتمي المكّي، في كلام له عن يزيد:
«قال أحمد بن حنبل بكفره، وناهيك به ورعاً وعلماً بأنّه لم يقل ذلك إلاّ لقضايا وقعت منه صريحة في ذلك ثبتت عنده…»(1).
نعم… وقعت منه قضايا ثابتة توجب الحكم بكفره…
لقد ثبت أمره بقتل الإمام السبط الشهيد عليه السلام، والأدلّة المثبتة لذلك كثيرة، سنذكرها بشيء من التفصيل، وسيرى القارئ خلال أخبار ذلك طرفاً من القضايا المثبتة لكفره…
وهذا بعض تلك الأدلّة على ضوء ما ورد في الكتب الأصليّة المعتمدة:

1 ـ كـتاب يزيد إلى الوليد والي المدينة
فلقد جاء في غير واحد من التواريخ أنّ يزيد قد أمر الوليد بن عتبة ابن أبي سفيان ـ وهو على المدينة ـ بقتل الإمام إنْ هو لم يبايع:
قال اليعقوبي، المتوفّى سـنة 292:
«وملك يزيد بن معاوية… وكان غائباً، فلمّا قدم دمشق كتب إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ وهو عامل المدينة ـ :
إذا أتاك كتابي هذا، فأحضر الحسـين بن عليّ وعبـد الله بن الزبير، فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليَّ برؤوسهما، وخذ الناس بالبيعة، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم وفي الحسـين بن عليّ وعبـد الله بن الزبير; والسلام»(2).
وقال الطبري، المتوفّى سـنة 310:
«ولم يكن ليزيد همّة حين وليَ إلاّ بيعة النفر الّذين أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعة يزيد، حين دعا الناس إلى بيعته وأنّه وليّ عهده بعده، والفراغ من أمرهم، فكتب إلى الوليد:
بسـم الله الرحمن الرحيـم، من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أمّا بعد، فإنّ معاوية كان عبـداً من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه وخوّله ومكّن له، فعاش بقدر ومات بأجل، فرحمه الله، فقد عاش محموداً ومات برّاً تقيّـاً; والسلام».
وكتب إليه في صحيفة كأنّها أُذن فأرة:
«أمّا بعد، فخذ حسـيناً وعبـد الله بن عمر وعبـد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليسـت فيه رخصة حتّى يبايعوا; والسلام»(3).
وقال ابن أعثم الكوفي، المتوفّى حدود سـنة 314:
«ذكر الكتاب إلى أهل البيعة بأخذ البيعة:
من عبـد الله يزيد بن معاوية أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة; أمّا بعد، فإنّ معاوية كان عبـداً لله من عباده، أكرمه الله واستخلفه وخوّله ومكّن له، ثمّ قبضه إلى روحه وريحانه ورحمته وغفرانه… وقد كان عهد إليّ عهداً وجعلني له خليفةً من بعده، وأوصاني أنْ آخذ آل أبي تراب بآل أبي سفيان; لأنّهم أنصار الحقّ وطلاّب العدل…».
ثمّ كتب إليه في صحيفة صغيرة كأنّها أُذن فأرة:
«أمّا بعد، فخذ الحسـين بن عليّ وعبـد الرحمن بن أبي بكر وعبـد الله بن الزبير وعبـد الله بن عمر بن الخطّاب أخذاً عنيفاً ليست فيه رخصة، فمن أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه»(4).
وقال الخوارزمي، المتوفّى سـنة 568:
«كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبـد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد ابن عتبة; أمّا بعد، فإنّ معاوية كان عبـداً من عبيـد الله، أكرمه واستخلفه ومكّن له… وأوصاني أن أحذر آل أبي تراب وجرأتهم على سفك الدماء، وقد علمت ـ يا وليد ـ أنّ الله تعالى منتقم للمظلوم عثمان بن عفّان من آل أبي تراب بآل أبي سفيان; لأنّهم أنصار الحقّ وطلاّب العدل…».
ثمّ كتب صحيفة صغيرة كأنّها أُذن فأرة:
«أمّا بعد، فخذ الحسـين وعبـد الله بن عمر وعبـد الرحمن بن أبي بكر وعبـد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً عنيفاً ليست فيه رخصة، فمن أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه; والسلام»(5).
وقال ابن الجوزي، المتوفّى سـنة 597:
«فلمّا مات معاوية كان يزيد غائباً فقدم فبويع له، فكتب إلى الوليد ابن عتبة ـ واليه على المدينة ـ :
خذ حسـيناً وعبـد الله بن الزبير وعبـد الله بن عمر بالبيعة أخذاً شديداً، ليسـت فيه رخصة، حتّى يبايعوا»(6).
هذا ما نقله هؤلاء…
لكنّ ابن سعد، المتوفّى سـنة 230..
يروي ـ في ترجمة الإمام عليه السلام من طبقاته ـ أنّه «لمّا حُضِرَ معاوية، دعا يزيد بن معاوية فأوصاه بما أوصاه به، وقال: أُنظر حسـين بن عليّ ابن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه أحبّ الناس إلى الناس، فصِل رحمه وارفق به، يصلح لك أمره، فإنْ يك منه شيء فإنّي أرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه.
وتوفّي معاوية ليلة النصف من رجب سنة ستّين، وبايع الناس ليزيد.
فكتب يزيد ـ مع عبـد الله بن عمرو بن أُويـس العامري، عامر بن لؤي ـ إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو على المدينة، أنِ ادعُ الناس فبايعهم، وابدأ بوجوه قريش، وليكنْ أوّل من تبدأ به الحسـين بن عليّ، فإنّ أمير المؤمنين عهد إليّ في أمره بالرفق به واسـتصلاحه»(7).
والبلاذري، لم يرو نصّ الكـتاب..
وإنّما قال: «كـتب يزيد إلى عامله الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في أخذ البيعة على الحسـين وعبـد الله بن عمر وعبـد الله بن الزبير، فدافع الحسـين بالبيعة، ثمّ شخصَ إلى مكّـة»(8).
وقال ابن عساكر، عن ابن سعد:
«فكتب يزيد ـ مع عبـد الله بن عمرو… ـ أنِ ادعُ الناس فبايعهم، وابدأ بوجوه قريش، وليكنْ أوّل من تبدأ به الحسـين بن عليّ بن أبي طالب، فإنّ أمير المؤمنين ـ رحمه الله ـ عهد إليّ في أمره الرفق به واسـتصلاحه»(9).
وكذا روى الحافظ أبو الحجّاج المزّي، قال:
«فكتب يزيد ـ مع عبـد الله بن عمرو بن أُويـس العامري… أنِ ادعُ الناس فبايعهم، وابدأ بوجوه قريش، وليكنْ أوّل من تبدأ به الحسـين بن عليّ، فإنّ أمير المؤمنين ـ رحمه الله ـ عهد إليّ في أمره بالرفق به واسـتصلاحه»(10).
وقال ابن الأثير الجزري:
«ولم يكن ليزيد همّة حين وليَ إلاّ بيعة النفر الّذين أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعته، فكتب إلى الوليد يخبره بموت معاوية وكتاباً آخر صغيراً فيه :
أمّا بعد، فخذ حسـيناً وعبـد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليسـت فيه رخصة حتّى يبايعوا; والسلام»(11).
وقال الذهبي:
«قالوا: ولمّا حُضِرَ معاوية دعا يزيد فأوصاه، وقال: انظر حسـيناً فإنّه أحبّ الناس إلى الناس، فصِل رحمه وارفق به، فإنْ يك منه شيء فسيكفيك الله بمن قتل أباه وخذل أخاه.
ومات معاوية في نصف رجب، وبايع الناس يزيد، فكتب إلى والي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، أنِ ادعُ الناس وبايعهم، وابدأ بالوجوه، وارفق بالحسـين، فبعث إلى الحسـين وابن الزبير في الليل ودعاهما إلى بيعة يزيد، فقالا: نصبح وننظر في ما يعمل الناس; ووثبا فخرجا.
وقد كان الوليد أغلظ للحسـين، فشتمه حسـين وأخذ بعمامته فنزعها، فقال الوليد: إنْ هجنا بهذا إلاّ أسداً; فقال له مروان أو غيره: أُقتله! قال: إنّ ذاك لدم مصون»(12).
فهؤلاء لا يروون لا القتل ولا اسـتعمال الشدّة، بل بالعكس، ينقلون الرفق بالإمام…
وأبو الفداء..
لا يروي شـيئاً، لا القتل، ولا الشدّة، ولا الرفق… وإنّما جاء في تاريخـه:
«أرسل إلى عامله بالمدينة بإلزام الحسـين وعبـد الله بن الزبير وابن عمر بالبيعة»(13).
وفي رواية أُخرى لابن عساكر عمّن حمل كتاب يزيد إلى الوليد:
«فلمّا قرأ كتاب يزيد بوفاة معاوية واستخلافه، جزع من موت معاوية جزعاً شديداً، فجعل يقوم على رجليه ثمّ يرمي بنفسه على فراشه; ثمّ بعث إلى مروان، فجاء وعليه قميص أبيض وملاءة مورّدة، فنعى له معاوية وأخبره بما كتب إليه يزيد، فترحّم مروان على معاوية وقال: ابعث إلى هؤلاء الرهط الساعة، فادعهم إلى البيعة، فإنْ بايعوا وإلاّ فاضرب أعناقهم.
قال: سـبحان الله! أقتل الحسـين بن عليّ وابن الزبير؟!
قال: هو ما أقول لك»(14).

أقـول:
فلماذا هذا الاختلاف والاضطراب في نقل كـتاب يزيد إلى الوليد؟!
ثمّ إنّ يزيد بن معاوية عزل الوليد عن المدينة لمّا بلغه أنّ الإمام عليه السلام وابن الزبير غادراها ولم يبايعا…
قال ابن كثير: «عزل يزيد بن معاوية الوليد بن عتبة عن إمرة المدينة لتفريطه»(15).
وقال ابن خلدون: «لمّا بلغ الخبر إلى يزيد ـ بصنيع الوليد بن عتبة في أمر هؤلاء النفر ـ عزله عن المدينة، واستعمل عليها عمرو بن سعيد الأشدق»(16).
وكيف كان… فالنقل ـ في نصِّ كتابه إلى الوليد ـ مختلفٌ… والذي أظـنّه أن صنيـع الوليد مع الإمام عليه السلام كان ضمن الخطّـة المرسومة مـن معاوية كما تقـدّم سابقاً… نعم، قد فرّط الوليد في أمر ابن الزبير; والله العالم.

2 ـ كـتاب يزيد إلى ابن زياد
أمّا أنّ يزيد أمر عبيـد الله بن مرجانة بقتل الإمام عليه السلام، فقد جاء في تاريخ اليعقوبي، فقد قال:
«وأقبل الحسـين من مكّة يريد العراق، وكان يزيد قد ولّى عبيـد الله ابن زياد العراق، وكتب إليه: قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كـتبوا إلى الحسـين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي به بلدك من بين البلدان، وأيّامك من بين الأيّام، فإنْ قتلته وإلاّ رجعت إلى نسـبك وإلى أبيك عبيـد، فاحذر أنْ يفوتك»(17).
ورواه البلاذري:
«بلغني مسير حسـين إلى الكوفة، وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت به من بين العمّال، وعندها تعتق أو تعود عبـداً كما يعتبد العبـيد»(18).
ورواه الطبراني:
«حدّثنا عليّ بن عبـد العزيز، ثنا الزبير بن بكّار، حدّثني محمّـد بن الضحّاك بن عثمان الحزامي، عن أبيه، قال: خرج الحسـين بن عليّ رضي الله عنهما إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيد بن معاوية، فكتب يزيد بن معاوية إلى عبيـد الله بن زياد وهو واليه على العراق: إنّه قد بلغني أنّ حسـيناً قد سار إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت به من بين العمّال، وعندها تعتق أو تعود عبـداً كما يعتبد العبيـد.
فقتله عبيـد الله بن زياد، وبعث برأسه إليه، فلمّا وضع بين يديه تمثّل بقول الحصين بن الحُمَام(19):
نفلّق هاماً من رجال أحبّة *** إلينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما»(20)
وقال ابن عساكر:
«أخبرنا أبو غالب أحمد بن الحسـن، أنبأنا أبو الحسـين ابن الآبنوسي، أنبأنا عبيـد الله بن عثمان بن جنيقا الدقّاق، أنبأنا إسماعيل بن عليّ الخطبي، قال:… وبلغ يزيد خروجه، فكتب إلى عبيـد الله بن زياد، وهو عامله على العراق، يأمره بمحاربته وحمله إليه إنْ ظفر به; فوجّه اللعينُ عبيـدُ الله بن زياد الجيشَ إليه مع عمر بن سعد بن أبي وقّاص، وعدل الحسـين إلى كربلاء، فلقيه عمر بن سعد هناك، فاقتتلوا، فقتل الحسـين رضوان الله عليه ورحمته وبركاته، ولعنة الله على قاتله…
أخبرنا أبو غالب أيضاً، أنبأنا أبو الغنائم بن المأمون، أنبأنا عبيـد الله ابن محمّـد بن إسحاق، أنبأنا عبـد الله بن محمّـد، حدّثني عمّي، أنبأنا الزبير، حدّثني محمّـد بن الضحّاك، عن أبيه، قال:
خرج الحسـين بن عليّ إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيد، فكتب يزيد إلى ابن زياد… فقتله ابن زياد، وبعث برأسه إليه»(21).
ورواه الهيثمي عن الطبراني، ووثّـق رجاله(22).
وقال الذهبي، المتوفّى سـنة 748:
«خرج الحسـين، فكتب يزيد إلى ابن زياد نائبه: إنّ حسـيناً صائر إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وأنت من بين العمّال، وعندها تعتق أو تعود عبـداً; فقتله ابن زياد، وبعث برأسه إليه»(23).
وقال السيوطي، المتوفّى سنة 911:
«وبعث أهل العراق إلى الحسـين الرسل والكتب يدعونه إليهم، فخرج من مكّة إلى العراق في عشرة ذي الحجّة، ومعه طائفة من آل بيته رجالا ونساءً وصبياناً. فكتب يزيد إلى واليه بالعراق عبيـد الله بن زياد بقتاله، فوجّه إليه جيشاً أربعة آلاف، عليهم عمر بن سعد بن أبي وقّـاص…»(24).
هذا، وسيأتي كلام جماعة آخرين من الأئمّة الأعلام، الصريح في أنّ يزيد هو قاتل الحسـين عليه السلام، وأنّـه يُلعن بلا كلام.

3 ـ كـتاب ابن عبّـاس إلى يزيد
«وقال شقيق بن سلمة(25):
لمّا قُتل الحسـين ثار عبـد الله بن الزبير، فدعا ابن عبّـاس إلى بيعته فامتنع، وظنّ يزيد أنّ امتناعه تمسّك منه ببيعته، فكتب إليه:
أمّا بعد، فقد بلغني أنّ الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته، وأنّك اعتصمت ببيعتنا وفاءً منك لنا، فجزاك الله من ذي رحم خير ما يجزي الواصلين لأرحامهم الموفين بعهودهم، فما أنْـسَ من الأشياء فلستُ بناس برّك وتعجيل صلتك بالذي أنت له أهل، فانظر من طلع عليك من الآفاق ممّن سحرهم ابن الزبير بلسانه فأعلِمهم بحاله، فإنّهم منك أسمع الناس، ولك أطوع منهم للمحلّ.
فكـتب إليه ابن عبّـاس:
أمّا بعد، فقد جاءني كتابك، فأمّا تركي بيعة ابن الزبير فوالله ما أرجو بذلك برّك ولا حمدك، ولكنّ اللهَ بالذي أنوي عليم.
وزعمت أنّك لسـت بناس برّي، فاحبـس أيّها الإنسان برّك عنّي، فإنّي حابـس عنك برّي.
وسـألت أن أُحبّب النـاس إليـك وأُبغّضـهم وأُخـذّلهم لابن الزبير، فلا، ولا سرور ولا كرامة، كيف؟! وقد قتلت حسـيناً وفتيان عبـد المطّلب مصابيح الهدى ونجوم الأعلام! غادرتهم خيولك بأمرك في صعيد واحد مرمّـليـن بالدمـاء، مسـلوبـيـن بالعـراء، مقـتوليـن بالظمـاء، لا مكـفّنيـن ولا موسّدين، تسفي عليهم الرياح، وينـشئ بهم عرج البطاح، حتّى أتاح الله بقوم لم يشركوا في دمائهم كفّنوهم وأجنّوهم، وبي وبهم لو عززتَ وجلست مجلسك الذي جلسـت..
فما أنـسَ من الأشـياء فلسـتُ بنـاس اطّرادك حسـيناً من حرم رسـول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حرم الله، وتسـييرك الخيول إليه، فما زلتَ بذلك حتّى أشخصته إلى العراق، فخرج خائفاً يترقّب، فنزلَتْ به خيلُك عداوةً منك لله ولرسوله ولأهل بيته الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فطلب إليكم الموادعة، وسألكم الرجعة، فاغتنمتم قلّة أنصاره واسـتئصال أهل بيته، وتعاونتم عليه كأنّكم قتلتم أهل بيت من الترك والكفر.
فلا شيء أعجب عندي من طلبتك ودّي، وقد قتلت ولد أبي، وسـيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري، ولا يعجبك أن ظفرت بنا اليوم، فلنظفرنّ بك يوماً; والسلام»(26).

4 ـ خطبة معاوية بن يزيد
وهذا ولده ووليّ عهده معاوية، الذي وصف بالشابّ الصالح… يصرّح بأنّ قاتل الحسـين عليه السلام هو أبوه، وقد جعل تصريحه بذلك من آثار صلاحه.
قال ابن حجر المكّي:
«لم يخرج إلى الناس، ولا صلّى بهم، ولا أدخل نفسه في شيء من الأُمور، وكانت مدّة خلافته أربعين يوماً…
ومن صلاحه الظاهر: أنّه لمّا ولي صعد المنبر فقال: إنّ هذه الخلافة حبل الله، وإنّ جدّي معاوية نازع الأمر أهله ومن هو أحقّ به منه عليّ بن أبي طالب، وركب بكم ما تعلمون، حتّى أتته منيّته، فصار في قبره رهيناً بذنوبـه.
ثمّ قلّد أبي الأمر وكان غير أهل له، ونازع ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقصف عمره، وانبتـر عقبه، وصـار في قبره رهيناً بذنوبـه.
ثمّ بكى وقال: إنّ من أعظم الأُمور علينا علمنا بسوء مصرعه وبئس منقلبه، وقد قتل عترة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأباح الخمر، وخـرّب الكعبة، ولم أذق حلاوة الخلافة فلا أتقلّد مرارتها، فشأنكم أمركم.
والله لئن كانت الدنيا خيراً فقد نلنا منها حظّاً، ولئن كانت شرّاً فكفى ذرّيّـة أبي سفيان ما أصابوا منها.
ثمّ تغيّب في منزله حتّى مات بعد أربعين يوماً على ما مرّ، فرحمه الله أنصف من أبيه، وعرف الأمر لأهله»(27).

5 ـ أمرُه ابنَ زياد بقتل مسلم بن عقيل
قال البلاذري:
«فكتب يزيد إلى عبيـد الله بن زياد… بولاية الكوفة إلى ما كان يلي من البصرة، وبعث بكتابه في ذلك مع مسلم بن عمرو الباهلي ـ أبي قتيبة ابن مسلم ـ وأمر عبيـد الله بطلب ابن عقيل ونفيه إذا ظفر به أو قتله، وأنْ يتيقّظ في أمر الحسـين بن عليّ ويكون على اسـتعداد له»(28).
وقال الطبري أنّه كتب إليه مع مسلم المذكور:
«أمّا بعد، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه»(29).
وقال ابن الجوزي:
«… فقام رجل ممّن يهوى يزيد إلى النعمان بن بشير فقال له: إنّك ضعيف، قد فسد البلد; فقال له النعمان: أكون ضعيفاً في طاعة الله أحبّ إليّ من أن أكون قويّـاً في معصية الله.
فكتب بقوله إلى يزيد، فولّى الكوفة عبيـد الله بن زياد إضافة إلى البصرة، وأمره أن يقتل مسلم بن عقيل…»(30).

6 ـ سـروره بمقـتل مسلم بن عقيـل
قال البلاذري:
«ولمّا كتب ابن زياد إلى يزيد بقتل مسلم، وبعث إليه برأسه ورأس هانئ بن عروة ورأس ابن صلخب وما فعل بهم، كتب إليه يزيد:
إنّك لم تعدُ أن كنت كما أُحبّ، عملت عمل الحازم، وصُلت صولة الشجاع، وحقّـقت ظنّي بك.
وقد بلغني أنّ حسـيناً توجّه إلى العراق، فضع المناظر والمسالح، وأَذْكِ العيون، واحترس كلّ الاحتراس، فاحبس على الظِنّة، وخذ بالتهمة، غير أنْ لا تقاتل إلاّ من قاتلك، واكتب إليَّ في كلّ يوم بما يحدث من خبر إن شاء الله»(31).

7 ـ سروره بمقتل الإمام
وقال غير واحد من الأئمّة الحفّاظ: إنّ يزيد قد سُرّ بقتل الإمام عليه السلام وأصحابه..
قال ابن سعد:
«وقد كان عبيـد الله بن زياد لمّا قتل الحسـين بعث زحر بن قيس الجعفي(32) إلى يزيد بن معاوية يخبره بذلك، فقدم عليه، فقال: ما وراءك؟
قال: يا أمير المؤمنين! أبشر بفتح الله وبنصره; وَرَدَ علينا الحسـين ابن عليّ، في ثمانية عشر من أهل بيته وفي سـبعين من شـيعته، فسرنا إليهم فخـيّرناهم الاسـتـسلام والنزول على حكم عبيـد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال على الاسـتـسـلام.
فناهضناهم عند شروق الشمس، وأطفنا بهم من كلّ ناحية، ثمّ جرّدنا فيهم السيوف اليمانية، فجعلوا يبرقطون إلى غير وزر، ويلوذون منّا بالآكام والأُمر والحفر لواذاً، كما لاذ الحمائم من صقر، فنصرنا الله عليهم.
فوالله ـ يا أمير المؤمنين ـ ما كان إلاّ جزر جزور أو نومة قائل، حتّى كفى الله المؤمنين مؤونتهم، فأتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مطرّحة مجرّدة، وخدودهم معفّرة، ومناخرهم مرمّلة، تسفي عليهم الريح ذيولها بقيّ سـبـسـب، تنتابهم عرج الضباع، زوّارهم العقبان والرخم.
قال: فدمعت عينا يزيد وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسـين. وقال: كذلك عقابة البغي والعقوق. ثمّ تمثّل يزيد:
من يذق الحرب يجد طعمها *** مرّاً وتتركه بجعجاع»(33)
وقال المسعودي:
«جلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه ابن زياد، وذلك بعد قتل الحسـين، فأقبل على ساقيه فقال:
أسقني شربةً تروّي مشاشي *** ثمّ مِل فاسقِ مثلها ابن زيادِ
صاحب السرّ والأمانة عندي *** ولتسديد مغنمي وجهادي
ثمّ أمر المغنّين فغنّوا به»(34).
وقال الطبري:
«حدّثني أبو عبيدة معمر بن المثنّى، أنّ يونس بن حبيب الجرمي حدّثه، قال: لمّا قَتل عبيـدُ الله بن زياد الحسـينَ بن عليّ عليه السلام وبني أبيه، بعث برؤوسهم إلى يزيد بن معاوية، فسُرّ بقتلهم أوّلا، وحسنت بذلك منزلة عبيـد الله عنده…»(35).
وقال ابن الأثير:
«وقيل: لمّا وصل رأس الحسـين إلى يزيد حسـنت حال ابن زياد عنده، ووصله، وسرّه ما فعل، ثمّ لم يلبث إلاّ يسـيراً…»(36).
وروي الذهبي:
بإسناد له ـ نصّ على قوّته ـ : «دخل رجل على يزيد فقال: أبشر! فقد أمكنك الله من الحسـين…»(37).
وقال السـيوطي:
«ولمّا قُتل الحسـين وبنو أبيه، بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد، فسُـرّ بقتلهم أوّلا…»(38).

8 ـ كلام الحصين بن نمير مع يزيد
قال أبو إسحاق الإسفرائني:
إنّ يزيد قال: «فلعن الله من قتله، إنّما قتله عبيـد الله بن زياد عاملي على البصـرة».
قال أبو إسحاق:
ثمّ أمر بإحضار من أتى برأس الحسـين ومن معه، ليسألهم كيف كان قتله، فحضروا بين يديه، فقال لابن ربعي: ويلك! أنا أمرتك بقتل الحسـين؟!
فقال: لا، لعن الله قاتله.
ولم يزالوا كذلك إلى أن وصل السؤال إلى الحصين بن نمير، فقال مقالتهم، ثمّ قال: أتريد أن أخبرك بمن قتله؟!
فقال: نعم.
فقال: أعطني الأمان.
فقال: لك الأمان.
فقال: إعلم أيّها الأمير، إنّ الذي عقد الرايات، ووضع الأموال، وجيّـش الجيوش، وأرسل الكتب، وأوعد ووعد، هو الذي قتله!
فقال: من فعل ذلك؟!
فقال: أنت!
فغضب منه ودخل منزله، ووضع الطشت الذي فيه رأس الحسـين بين يديه، وجعل يبكي ويلطم على وجهه ويقول: ما لي وللحسـين؟!
قالت هند زوجة يزيد: لمّا أخذت مضجعي تلك الليلة رأيت في منامي كأنّ أبواب السماء قد فتحت…»(39).

9 ـ إقرار ابن زياد
وقد جاء في بعض المصادر المعتبرة، أنّ يزيد بن معاوية قد خيّر ابن زياد بين قتل الإمام عليه السلام وقتله، فاختار قتل الإمام عليه السلام..
قال ابن الأثير: «أمّا قتلي الحسـين، فإنّه أشار علَيَّ يزيد بقتله أو قتلي، فاخترت قتله…»(40).
وفي كـتاب له إلى الإمام عليه السلام:
«أمّا بعد، يا حسـين، فقد بلغني نزولك بكربلاء، وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يزيد بن معاوية أنْ لا أتوسّد الوثير ولا أشبع من الخبز ]الخمير [أو أُلحقك باللطيف الخبير، أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية; والسلام»(41).

10 ـ حمله الرؤوس والعيال إلى الشام
ومن الأدلّة المثبتة لأمره بقتل الإمام عليه السلام ورضاه بذلك: أنّه أمر ابن زياد بإرسال رأس الإمام وسائر الرؤوس الشريفة وأهل بيته عليهم السلام إليه، وكذا ما صدر منه قولا وفعلا في تلك الأيّام، ممّا يصلح كلّ واحد من ذلك لأن يكون دليلا مستقلاًّ على وقوع تلك الكارثة بأمره، وعلى إلحاده وكفره.
وذلك ما سـنعرضه ببعض التفصيـل.

***

(1) المنح المكّـيّـة ـ شرح القصيدة الهمزية ـ : 271.
وقد ذكر ابن الجوزي وسـبطه وابن حجر أنّ أحمد بن حنبل ذكر في حـقّ يزيد ما يزيد على اللعنة; انظر: الردّ على المتعصّب العنيد: 13، تذكرة الخواصّ: 257، الصواعق المحرقة: 332 ـ 333.
(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 154.
(3) تاريخ الطبري 3 / 269.
(4) الفتوح 5 / 9.
(5) مقتل الحسـين 1 / 262 ف 9 ح 6.
(6) الردّ على المتعصّب العنيد: 34.
(7) الطبقات الكبرى 6 / 423 ـ 424 رقم 1374.
(8) أنساب الأشراف 3 / 368.
(9) تاريخ دمشق 14 / 206 رقم 1566، وانظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 6 / 424، مختصر تاريخ دمشق 7 / 138 رقم 126.
(10) تهذيب الكمال 4 / 488 رقم 1305.
(11) الكامل في التاريخ 3 / 377 حوادث سـنة 60 هـ، وانظر: البداية والنهاية 8 / 118.
(12) سـير أعلام النبلاء 3 / 295 رقم 48.
(13) المختصر في أخبار البشر 1 / 189.
(14) انظر: تاريخ دمشق 19 / 17 رقم 2253، مختصر تاريخ دمشق 9 / 38 رقم 10، تاريخ خليفة بن خيّاط: 177 حوادث سـنة 60 هـ.
(15) البداية والنهاية 8 / 119 حوادث سـنة 60 هـ.
(16) تاريخ ابن خلدون 3 / 25.
(17) تاريخ اليعقوبي 2 / 155.
(18) أنساب الأشراف 3 / 371.
(19) هو: أبو مَعِيّة الحصين بن حُمَام بن ربيعة المرّي الذبياني، كان رئيـساً وفياً، شاعراً، فارساً، ياقّب مانع الضيم، وكان من الشعراء المقلّين في الجاهلية، وهو ممّن نبذ عبادة الأوثان في الجاهلية، توفّي قبل ظهور الإسلام، وقيل: بل أدرك الإسلام.
انظر: الشعر والشعراء 2 / 648 رقم 128، الأغاني 14 / 10، الاستيعاب 1 / 354 رقم 520، الإصابة 2 / 84 رقم 1735.
(20) المعجم الكبير 3 / 115 ـ 116 ح 2846.
(21) تاريخ دمشق 14 / 213 ـ 214.
(22) مجمع الزوائد 9 / 193.
(23) سـير أعلام النبلاء 3 / 305 رقم 48.
(24) تاريخ الخلفاء: 246 ـ 247.
(25) هو: شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل الكوفي، ثقة مخضرم، مات في خلافة عمر بن عبـد العزيز، وله مئة سنة، من رجال الكتب الستّة. قاله الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب 1 / 421 رقم 2826، وانظر: تحرير تقريب التهذيب 2 / 119 رقم 2816.
(26) الكامل في التاريخ 3 / 466 ـ 467 حوادث سـنة 64 هـ، وانظر: تاريخ اليعقوبي 2 / 161 ـ 164.
(27) الصواعق المحرقة: 336.
(28) أنساب الأشراف 2 / 335.
(29) تاريخ الطبري 3 / 280.
(30) المنتظم 4 / 142، وانظر: الفتوح 5 / 39 ـ 40، تهذيب التهذيب 2 / 349 رقم 615، تهذيب الكمال 4 / 494 رقم 1305، الأخبار الطوال: 231، السـيرة النبويّة ـ لابن حبّان ـ : 556، وغيرهـا.
(31) تقدّمت مصادر ذلك في الصفحة 182 هـ 1.
(32) كان مع أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام في صفّين، ثمّ اعتزل فكان من الخوارج; انظر: مختصر تاريخ دمشق 9 / 33 رقم 7.
(33) ترجمة الإمام الحسـين عليه السلام من «الطبقات الكبير»: 81 ـ 82، وانظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 6 / 447 رقم 1374، تاريخ الطبري 3 / 338.
(34) مروج الذهب 3 / 67.
(35) تاريخ الطبري 3 / 365 حوادث سـنة 64 هـ.
(36) الكامل في التاريخ 3 / 439.
(37) سـير أعلام النبلاء 3 / 319 رقم 48.
(38) تاريخ الخلفاء: 248.
(39) نور العين في مشهد الحسـين ـ للأسفرائيني ـ : 70.
(40) الكامل في التاريخ 3 / 474 حوادث سنة 64 هـ، وانظر: تاريخ الطبري 3 / 374.
(41) انظر: الفتوح ـ لابن أعثم ـ 5 / 95، مقتل الحسـين ـ للخوارزمي ـ 1 / 340، بحار الأنوار 44 / 383 ب 37.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *