2 ـ الإطلاق

2 ـ الإطلاق
طريق الكفاية
وقد بيّنه بوجوه: أحدها من باب الإنصراف والباقي يبتني على مقدّمات الحكمة.
(الإطلاق الأول) هو: الإطلاق الإنصرافي، ووجه الإنصراف هو: إن لفظ الشرط دالّ على العليّة، والعلّة تنقسم إلى الكاملة والأكمل، فإنْ كانت منحصرةً كانت الأكمل، واللّفظ ينصرف إلى الفرد الأكمل.
(وفيه) بطلان الصغرى والكبرى. أمّا الكبرى، فإن اللفظ الموضوع للمعنى التشكيكي موضوع لنفس الحقيقة لا للفرد الأكمل منها أو غيره، وإلاّ لزم أنْ يكون إطلاق «العالم» على غير «الأعلم» مجازاً، وهذا باطل. وأما الصغرى، فلأنه ليس بين العلّة المنحصرة وغير المنحصرة اختلاف في المرتبة، إذ العليّة حيثيّة وجودها في كليهما على حدٍّ سواء.
(الإطلاق الثاني) ما ذكره بعنوان «إن قلت»، ومحصّله: التمسّك لإثبات انحصار العلّة بالإطلاق كما يتمسّك به لإثبات الوجوب في النفسيّة في مقابل الغيريّة ونحو ذلك. فأجاب: بالفرق بين المقامين، لأن معنى الوجوب النفسي هو الوجوب على كلّ تقدير، في قبال الغيري الذي هو الوجوب على بعض التقادير، فكان مقتضى الإطلاق عند التردّد هو النفسيّة، بخلاف ما نحن فيه، فإنه مع التردّد بين الانحصار وعدمه لا إطلاق يقتضي الانحصاريّة.
توضيح الاستدلال:
إنه تارةً: تكون الحصّتان للطبيعة الواحدة وجوديتيّن، كالرقبة التي منها الكافرة ومنها المؤمنة، واخرى: تكون احداهما وجودية والاخرى عدميّة. والوجوب من القسم الثاني، فإن الوجوب النفسي مقيّد بقيد عدمي وهو كونه «لا للغير» والغيري مقيد بقيد وجودي وهو كونه «للغير».
والانحصار وعدمه حصّتان للعلّة، وهما مثل النفسي والغيري بالنسبة إلى الوجوب، فالمنحصرة يعني التي لا معها شيء في المؤثرية وغير المنحصرة هي التي معها شيء، فكما يتمسّك بالإطلاق لإثبات النفسية، كذلك يتمسّك به لإثبات الإنحصار… لأن الجهة الوجودية هي المحتاجة إلى بيان زائد، وأمّا الجهة العدميّة فهي مقتضى أصالة الإطلاق، فلا تحتاج العليّة غير المنحصرة إلى بيان وأمّا المنحصرة فتحتاج، وإذ لا بيان، فالأصل يفيد الانحصار كما في الوجوب النفسي.
اُجيب بوجهين:
أحدهما:
إنّه لا موضوع في المقام لجريان مقدّمات الحكمة لإفادة الإطلاق، لأنّها إنما تجري حيث يمكن الإطلاق والتقييد، والمقصود هنا هو إجراء المقدّمات في أداة الشرط حتى يتم الإطلاق، لكنّ معنى أداة الشرط معنىً حرفي، والمعنى الحرفي غير قابل للإطلاق والتقييد. أمّا أوّلاً: فلأنّه يعتبر فيما يراد إجراء الإطلاق فيه أنْ لا يكون جزئياً، لأن الجزئي غير قابل للتقييد فهو غير قابل للإطلاق، والمعنى الحرفي جزئي. وأمّا ثانياً: فلأنه يعتبر فيما يراد إجراء الإطلاق فيه أن يكون ممّا يلحظ بالاستقلال حتى يصلح للتوسعة والتضييق، كما في «الرقبة» فتلحظ بشرط ولا بشرط، والمعنى الحرفي لا يلحظ بالنظر الاستقلالي وإنّما دائماً ما به ينظر. وتلخّص: أن لا موضوع للإطلاق والتقييد هنا حتى يتمسّك بمقدّمات الحكمة لإثبات الإطلاق.
(وفيه):
هذا هو الجواب الأوّل، لكنْ يرد عليه النقض: بأنه إذا كان المعنى الحرفي غير قابل للتقييد فهو غير قابل للإطلاق، فإن مداليل الهيئات أيضاً ـ كهيئة إفعل الدالّة على الوجوب ـ معان حرفية، فكيف تمسّكتم بالإطلاق لإثبات كون الوجوب نفسيّاً؟ وكيف تمسّكتم بإطلاق هيئة إفعل للدلالة على الوجوب لا الندب بناءً على وضعها للجامع؟ وكيف تمسّكتم بالإطلاق لدلالة الهيئة على الوجوب التعيينيّ عند دوران الأمر بينه وبين التخييري، والعيني عند دوران الأمر بينه وبين الكفائي؟
والجواب الحلّي هو: أمّا على مسلك التحقيق، فالمعنى الحرفي قابلٌ للإطلاق والتقييد، وأمّا على مسلك صاحب (الكفاية) من عدم جريانهما فيه وإلاّ لانقلب إلى المعنى الاسمي، فإنّه إنما لا يجريان فيه بالذات، لكنّ المعنى الحرفي من شؤون المعنى الاسمي، فهو في وجوده تابع له، فإذا جرى الإطلاق والتقييد في الاسم جريا في الحرف التابع له.
الجواب الثاني
بطلان القياس وهو الصحيح، لأنّ الوجوب النفسي والغيري سنخان من الوجوب في عالم الثبوت، فأحدهما مطلق والآخر مشروط، ولكلٍّ منهما أثره الخاصّ به، والوجوب قدر مشترك بينهما، وإذا كانا حصّتين من طبيعة الوجوب فمقتضى القاعدة احتياج كلّ منهما إلى البيان في مقام الإثبات لكونهما وجوديين، إلا أن يكون في أحدهما خصوصيّة لا يحتاج بسببها إلى البيان.
وأمّا إذا كانت احدى الحصّتين وجوديةً والاخرى عدميةً، فإنّ العدمي، لا يحتاج إلى البيان بخلاف الوجودي، وهذا مورد التمسّك بالإطلاق.
وعلى الجملة، فإن المقيس عليه حصّتان من الوجوب ولهما أثرهما.
لكنّ الأمر في المقيس ليس كذلك، إذ الانحصار وعدمه في العليّة ليس سنخين من العليّة، لأن معناها تأثير شيء في شيء، ومن الواضح عدم الفرق في التأثير بين العلة المنحصرة وغير المنحصرة، بخلاف انقسامها إلى التامّة والناقصة، فهناك فرق في التأثير كما لا يخفى… فظهر أن قياس ما نحن فيه على الوجوب وانقسامه إلى النفسي والغيري مع الفارق.
والحاصل: إن الكلام في إطلاق الشرطية، وليس لها حصّتان حتى يحمل الكلام على صورة الانحصار مع عدم البيان. وهذا التحقيق من المحقق الإصفهاني.
(الإطلاق الثالث) وهو عبارة عن إطلاق الشرط. ولا يخفى الفرق بينه وبين ما تقدم، فقد تمسّك هناك بإطلاق العلّة، ببيان أن اللفظ الدالّ على العلية واللزوم كاف لإفادة الإنحصار، لكون العلّة المنحصرة هي الفرد الأكمل. والمقصود هنا هو إطلاق مجيء زيد، أي إطلاق الشرط النحوي، فهل يقتضي هذا الإطلاق انحصارها؟
تقريبه: إنّ المتكلّم لمّا جاء بالشرط وهو المجيء بعد الأداة، أمكنه تقييده بقيد لاحق أو سابق أو مقارن، لكنه جاء به مطلقاً عن هذه الانقسامات، فدلّ على ترتّب الجزاء وهو الإكرام على الشرط بلا تقيّد بشيء، فكان المجيء بوحده هو الدخيل في الجزاء ولا علّة له سواه.
(وفيه):
وقد اُشكل على هذا الاستدلال بوجوه:
أحدها: إنه يبتني على أن تكون للقضيّة الشّرطية ـ علاوةً على اللّزوم ـ دلالة على ترتّب الجزاء على الشرط وكونه علةً له، وعند ذلك يبحث عن كونه علةً له مطلقاً أو على بعض التقادير، لكنّ أصل العليّة محلّ بحث وكلام، وقد تقدّم صحّة أنْ يقال: إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة… فأصل الدلالة على العلية غير ثابت، فلا تصل النوبة إلى البحث عن الانحصار.
وفيه: إنه إشكالٌ مبنائي، إذ المفروض هو المفروغيّة عن ذاك البحث.
الثاني: إن القضيّة الشرطية في مقام بيان أصل تأثير الشرط في الجزاء لا بيان فعليّته ووجود الجزاء بالفعل عند وجود الشرط حتى يقال: لمّا وجد الشرط يوجد الجزاء، سواء وجد شيء آخر أو لم يوجد. قاله المحققان الإصفهاني والميرزا.
وفيه: إنه بعد الفراغ عن المقدّمتين، وهما: دلالة القضية الشرطية على اللّزوم، ودلالتها على العليّة، تكون الدلالة على فعليّة وجود الجزاء عند وجود الشّرط ضروريّةً، والحمل على الشأنية هو المحتاج إلى القرينة، وكذلك كلّ كلام ظاهر في معناه، فإن المراد منه هو الفعلية، للتبادر، وحمله على الشأنية خلاف الظاهر المتبادر منه. نعم، يتم الإشكال هنا لو نوقش في المقدّمتين.
والثالث: إن مفاد القضيّة الشرطيّة هو استناد المعلول إلى العلّة والشرط، وأمّا دلالتها على كون هذا الشرط كلّ العلّة فمن أين؟
وبعبارة اخرى: إن كان المتكلّم في مقام بيان تمام ما هو المؤثّر في المعلول فهو، وإلاّ فإن القضيّة الشرطية لا تفيد أكثر من أنّ المجيء مؤثر فعلاً في وجوب الإكرام… ولا تنفي مؤثّريّة غيره فيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *