مقدّمات/الاولى (في تعريف المفهوم)

مقدّمات:
الاولى (في تعريف المفهوم)
إن المفاهيم مداليل الجمل التركيبيّة، والبحث هو في أصل ثبوت وعدم ثبوته لا في حجيته وعدم حجيّته، فهو في الواقع بحث عن أنه هل للجملة الشرطيّة ـ مثلاً ـ مدلول التزامي أو لا؟ فإنْ كان فلا كلام في حجيته، فيكون البحث ناظراً إلى صغرى أصالة الظهور لا كبرى الظواهر، فهو نظير البحث عن ظهور صيغة الأمر ـ مثلاً ـ في الوجوب وعدم ظهوره فيه. وعلى هذا، يكون البحث عن المفاهيم بحثاً عن الأدلة لا الأصول، ومن الأدلة اللفظية لا العقليّة.
ثم إنهم قد عرّفوا «المفهوم» بتعاريف وأشكلوا عليها طرداً وعكساً، واعتذر صاحب (الكفاية) ـ كما هو دأبه في نظائره ـ بأنها تعاريف لفظيّة وليست حقيقيّة، فلا وجه للإشكال والقيل والقال…
وكان التعريف المشهور بين القدماء: أن المفهوم ما دلَّ عليه اللّفظ لا في محلّ النطق، في مقابل المنطوق وهو: ما دلّ عليه اللّفظ في محلّ النطق… ويفيد هذا التعريف أنّ المفهوم ـ كالمنطوق ـ من المداليل اللّفظية. ثم فسّروا ذلك بقولهم: إن الحكم في طرف المفهوم لغير المذكور، وفي طرف المنطوق مذكور… لكنّ ظاهر تعريف القدماء كونه أعم من مفهوم اللفظ الإفرادي والمفاهيم التركيبيّة، وقد ذكرنا أنّ المفهوم مدلول الجملة التركيبيّة فقط.
فظهر أن تعريف القدماء يشتمل على نقاط قوة وضعف.
وجاء صاحب (الكفاية) بتعريف مع النظر إلى التعريف المذكور، فقال ما ملخصه:
إن المفهوم عبارة عن الحكم الإنشائي أو الإخباري المستتبع لخصوصية هي مدلول جملة، أعم من أن يكون المفهوم موافقاً لمدلولها أو مخالفاً، فمثال الحكم الإنشائي قولك: إن جاءك زيد فأكرمه، والإخباري: إن جئتني اكرمك. ومثال مفهوم الموافقة قول اللّه عزّوجلّ (فَلا تَقُل لَّهُمَا أُف)(1) والمخالفة مثل: إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه.
(قال): فالمفهوم عبارة عن الحكم غير المذكور لا الحكم لغير المذكور.
ثم ترك رحمه اللّه ما لا فائدة له من البحوث في هذا المقام.
ولنوضّح كلامه بشيء من التفصيل:
لا يخفى أنّ الملازمة ثبوتاً بين شيئين تدور مدار الوجود والعدم، فقد تكون وقد لا تكون، إلاّ أنها في مقام الإثبات تنقسم إلى أقسام.
فمنها: ما لا يكفي تصوّر الشيئين والنسبة الموجودة بينهما لإثبات الملازمة، كما يقع كثيراً في المناقشات العلمية بين العلماء، إذ يطرحون كلاماً ويقولون إن لازم هذا الكلام كذا، فهذا يفيد وجود تلك الملازمة في الواقع غير أنها خافية في مقام الإثبات، غفل عنها صاحب الكلام والتفت إليها المستشكل… وهذه الملازمة تسمّى اصطلاحاً باللزوم غير البيّن.
ومنها: ما ليس بهذا الحدّ من الخفاء، إلاّ أنّه يُحتاج إلى تصوّر الموضوع والمحمول والنسبة، فإذا تمّ تصوّر هذه الامور ثبتت الملازمة، وتسمى باللزوم البيّن بالمعنى الأعم.
ومنها: ما يكون فيه نفس تصوّر الملزوم كافياً لإدراك الملازمة، وهذا هو اللّزوم بالمعنى الأخص.
مثال الأول هو: إن من يقول بالملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن الضدّ، يحتاج إلى الاستعانة بمقدّمة خارجية لإثباتها، لكونها غير بيّنة لا بالمعنى الأعمّ ولا الأخص… وجميع المباحث الاستلزامية الاصولية كلّها من هذا القبيل، كالملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها وهكذا.
ومثال القسم الثاني هو: استنباط أقلّ الحمل وهو ستة أشهر من الآيتين: (وَالْوَالِدَات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَينِ كامِلَينِ)(2) و(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شهْراً)(3)، فمن من تصوّرهما وتصوّر النسبة بينهما ينتج ذلك بلا حاجة إلى دليل خارجي.
ومثال القسم الثالث: تصوّر الشمس، فإنّه يستلزم تصوّر اللاّزم وهو وجود النهار.
فأفاد قوله رحمه اللّه: المفهوم عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري يستتبع… عدم دخول القسم الثالث في البحث، لأن بحثنا في مفاهيم الجمل، وهو ما أشار إليه بكلمة «حكم» وليس في المفاهيم الأفراديّة…
والحاصل إنه نبّه على إشكالين في تعريف القدماء: أحدهما: شموله للمفاهيم الأفرادية، والآخر قولهم: إن المفهوم حكم لغير المذكور، فهذا غير صحيح بل الصحيح إنه حكم غير مذكور.
فهذا ما اقتضى ذكره، ولا نتعرّض لكلمات المحقّقين، ومن شاء الاطّلاع عليها فليراجع.

(1) سورة الإسراء: الآية 23.
(2) سورة البقرة: الآية 233.
(3) سورة الأحقاف: الآية 15.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *