الوجه الثاني

الوجه الثاني

ذكره بعض المتقدمين، ونقّحه في (المحاضرات)(1) ضمن أربع مقدمات:
الاولى: إنّ الأمر ـ وكذا النهي ـ إذا تعلَّق بشيء فإنّه لا يتجاوز عن الشيء إلى ما يقارنه أو يلازمه، لأن المتعلَّق هو الذي يقوم به الغرض من الأمر والنهي.
الثانية: إن المتعلَّق هو الطبيعي، إلاّ أنْ مقتضى ذات الطبيعة هو سراية الحكم منها إلى الفرد، ولا علاقة لهذه السراية بإرادة الآمر أو الناهي، فلو تعلَّقت إرادته بذلك لزم عليه الإتيان بما يدلّ عليه في مقام الإثبات، كأن يقول: أكرم كلّ عالم، فيأتي بلفظ «كلّ» الدالّ على عموم الأفراد، لإفادة أن الحكم متوجّه إليهم لا إلى طبيعي العالم.
الثالثة: إن الطبيعة اللاّبشرط تتّحد مع البشرط، إلاّ أنّ هذا الاتّحاد لا يوجب سراية الحكم من الطبيعة إلى الشرط وكاشفيّتها عنه، فالرقبة وهي لا بشرط عن الإيمان والكفر تتّحد مع الإيمان ولا تكون كاشفةً وحاكيةً عنه، كما أنّ الحكم المتعلَّق بالرقبة لا يسري إلى الإيمان، فلا سراية ولا حكاية، بل كلّ لفظ يكون حاكياً عن مفهومه فقط….
الرابعة: إن متعلّق الحكم هو نفس الطبيعة ـ لا ما يصدر من المكلّف كما في (الكفاية) ـ فلا دخل للوجود الذهني ولا الخارجي في المتعلَّق، والطبائع متباينة كما تقدّم.
ونتيجة هذه الامور:
إنّه لمّا كان المتعلَّق هو ما يقوم به الغرض ولا يتجاوزه إلى غيره، فالصّلاة متعلَّق الأمر ولا يتجاوز الأمر إلى ما قارنها كالغصب، وكذا العكس، ولمّا كان المتعلَّق هو الطبيعي ولا يسري الحكم عنه إلى أفراده، فإذا أمر بالصّلاة فلا لحاظ لأفرادها حتى يتوجّه إلى منها الواقع في الدار المغصوبة. نعم، هذا السريان موجود بحكم العقل، وذاك أمر آخر. ولمّا كان الاتّحاد غير موجب لسراية الحكم من طبيعة إلى اخرى، ولا للكشف عنها، فلا حكاية للصّلاة المأمور بها عن الغصب المنهي عنه وبالعكس… فأين يكون الإجتماع بين متعلَّق الأمر ومتعلَّق النهي
وفيه:
إنّه لا يخفى أنّ ملاك الامتناع هو التعارض بين الدليلين، وإذا انتفى تحقّق ملاك الاجتماع، لكنّ التعارض قد يكون بالدلالة المطابقيّة وبالدلالة الالتزامية، واللازم قد يكون عقليّاً فلا يقبل الانفكاك عن الملزوم، وإذا ثبتت هذه النقاط، فإنّ الإطلاق، ولو فرض عدم لحاظ خصوصيّات الأفراد، لازمه ـ عقلاً ـ الترخيص في التطبيق على أيّ فرد يكون مصداقاً للطبيعة، هذا في جانب الأمر. أمّا في جانب النهي، فإنّه الزجر عن جميع الأفراد… فالخصوصيّات موردٌ للتعرّض عقلاً وإنْ لم تكن مورداً لتعلَّق الأمر والنهي شرعاً، وحينئذ، يقع التمانع بين المدلولين العقليين الالتزاميين اللذين لا يمكن الانفكاك بينهما وبين الملزومين لهما، فيمتنع الاجتماع.
وبعبارة اخرى:
صحيح أنّ الإطلاق عبارة عن كون تمام الموضوع هو الطبيعة بلا لحاظ للأفراد والخصوصيّات وأنّه لا كاشفية لها عنها، لكنّ جعل الإطلاق البدلي ـ وهو الذي في طرف الأمر ـ لا ينفك عقلاً عن لازم هو الترخيص في التطبيق، وجعل الإطلاقي الشمولي، وهو في طرف النهي، لا ينفكّ عقلاً عن لازم، هو الزجر عن جميع مصاديق الغصب مثلاً، وحينئذ، يلزم التمانع بين اللاّزمين في محلّ الاجتماع بينهما، وذلك يستلزم التمانع بين الملزومين، وقد تقدّم استحالة الانفكاك بين اللّوازم والملزومات العقليّة، فلابدّ من رفع اليد عن أحد الإطلاقين أو كليهما، وهذا يساوق الامتناع.
وما ذكر(2) من أنّ الوجوب والحرمة عرضان قائمان بالنفس، وأن الخارج ليس بمعروض للإرادة والكراهة والوجوب والحرمة، نظير تعلّق العلم والجهل معاً بالحيثيتين المتصادقين، فإنه أيضاً ممكن ولا يلزم منه محذور اجتماع الضدّين. فإذا تعلّق العلم بمجيء عالم غداً والجهل بمجيء عادل، فاتفق مجيء عالم عادل، فوجود هذا المجيء من حيث أنه مجيء العالم معلوم، ومن حيث أنه مجيء العادل مجهول، ومن المعلوم أنّ المعلومية والمجهوليّة ليستا إلاّ كالمحبوبيّة والمبغوضيّة والوجوب والحرمة، فلو كان اجتماع عنواني الوجوب والحرام في مجمع الحيثيّتين موجباً لاجتماع الضدّين، كان اجتماع عنواني المعلومية والمجهولية في مجيء العالم العادل أيضاً كذلك. والحاصل: إن الوجوب والحرمة لم يجتمعا في المتعلَّق كي يلزم المحذور، بل محلّ اجتماعهما هو نفس المولى، ولا محذور، كما يجتمع فيها العلم والجهل، وقد اُضيف الحكمان إلى الخارج كلٌّ إلى جهة كما في العلم والجهل، ومع اختلاف الجهتين لا يلزم محذور اجتماع الضدّين.
فقد تقدّم الإشكال فيه. وأمّا التنظير بالعلم والجهل على ما ذكر، فيرد عليه النقض: بأن لازمه أن يكون مثل: «أكرم العالم ولا تكرم الفاسق» من باب اجتماع الأمر والنهي، فيما لو كان الرجل الواحد عالماً وفاسقاً معاً، لاختلاف متعلّقي الأمر والنهي، والحال أنه من باب التعارض.
وأمّا حلّ المطلب فهو: أن العلم والجهل وصفان لهما متعلَّقان متغايران، إذْ تعلّق أحدهما بعنوان «العالم» والآخر بعنوان «العادل»، أمّا في باب الأمر والنهي، فإن المفروض أن السيد البروجردي يقول بوحدة المتعلّق، وهو الوجود الذهني الحاكي عن الخارج والمرآة له، فكيف يجتمع فيه الأمر والنّهي؟ وبعبارة اخرى: إن المفروض في الأمر والنهي وحدة المتعلَّق وهو الوجود، بخلاف الحال في العلم والجهل، فإنّ متعلَّق الأوّل حيثيّة علم زيد ومتعلَّق الثاني حيثيّة عدالته، فقياس ما نحن فيه بالعلم والجهل مع الفارق.
وأمّا ما ذكره(3) من أنّ قضيّة الوجدان كون جواز الاجتماع من أبده البديهيات، فإذا أمرت عبدك بخياطة ثوبك ونهيته عن التصرّف في فضاء دار الغير، فخاط العبد ثوبك في فضاء الغير، فهل يكون لك أن تقول له: أنت لا تستحق الاجرة لعدم إتيانك بما أمرتك؟ ولو قلت هذا، فهل لا تكون مذموماً عند العقلاء؟ لا واللّه، بل تراه ممتثلاً من جهة الخياطة وعاصياً من جهة التصرّف في فضاء الغير….
فقد نقله صاحب (الكفاية) عن الحاجبي والعضدي(4) في وجوه الاستدلال للقول بالجواز، وأجاب عنه ـ بعد المناقشة بأنه ليس من باب الاجتماع، ضرورة أن الكون المنهي عنه غير متّحد مع الخياطة وجوداً أصلاً ـ بأنّه لا يصدق إلاّ أحد العنوانين، إمّا الإطاعة وإمّا العصيان، ودعوى قيام السيرة من العقلاء على استحقاق الاجرة مع تحقق المعصية، أوّل الكلام.

(1) محاضرات في اصول الفقه 3 / 365 ـ 366.
(2) نهاية الاصول: 232.
(3) نهاية الاصول: 233.
(4) كفاية الاصول: 166 عن شرح المختصر في الاصول 92 ـ 93.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *