الرأي المختار

الرأي المختار

وقد اختار شيخنا ـ في كلتا الدورتين ـ ما ذهب إليه جماعة من المحققين، كالإصفهاني والعراقي والبروجردي، من أنّ النهي عبارة عن الزجر، كما أن الأمر عبارة البعث.
وتوضيح ذلك: إنه كما في الإرادة التكوينيّة يلحظ الإنسان الشيء ـ كالصّلاة مثلاً ـ فيرى فيه المصلحة ويتعلّق به غرضه، فيشتاق إليه ويتحرّك نحوه أو يأمر الغير به فتكون إرادة تشريعيّة، كذلك في طرف النهي، فإنّه يتصوّر الشيء ويرى فيه المفسدة وما ينافي الغرض، فينزجر عنه تكويناً، ويزجر غيره عنه تشريعاً… وهذا هو واقع الحال في الأمر والنهي، فهو لمّا يرى وجود المفسدة في شرب الخمر لا يُقدم على ذلك، وإذا أراد زجر الغير يقول له: «لا تشرب الخمر» أو يشير إلى هذا المعنى بيده إشارةً مفهمةً له… فمعنى «النهي» هو «الزجر» عن الشيء المعبّر عنه بالفارسية «باز داشتن»، فهيئة «لا تفعل» مدلولها والنسبة الزجريّة، «النّسبة» معنى حرفي، كما أنّ مدلول هيئة «إفعل» هو «النسبة البعثيّة».
هذا تمام الكلام في… وقد ظهر أن الخلاف يرجع إلى أنّه هل المدلول في الأمر والنهي واحد والمتعلّق متعدّد، أو أن المعنى متعدّد والمتعلّق واحد؟
قال المشهور بالأوّل، وعليه المحقق الخراساني والمحقق النائيني.
وقال الآخرون بالثاني.
واختلف المشهور على قولين، فمنهم من جعل المتعلّق أمراً عدميّاً وهو الترك وعليه صاحب (الكفاية) والميرزا، ومنهم من جعله وجوديّاً وهو الكفّ.
واختلف الآخرون على أقوال، والمختار هو «الزجر» وفاقاً للمحقق الإصفهاني وغيره.
هذا، وفي (منتقى الاصول) أنّ التحقيق موافقة صاحب (الكفاية) فيما ذهب إليه، قال:
والتّحقيق: موافقة صاحب (الكفاية) في ما ذهب إليه من الرّأي.
والّذي ندّعيه: أنّ المنشأ في مورد النّهي ليس إلاّ البعث نحو التّرك مع الالتزام بأنّ مفهوم النّهي يساوق عرفاً مفهوم المنع والزّجر لا البعث والطّلب.
والوجه فيما ادّعيناه: هو أنّ التكليف أعّم من الوجوب والتّحريم ـ على جميع المباني في حقيقته ـ إنّما هو لجعل الدّاعي وللتحريك نحو المتعلّق بحيث يصدر المتعلّق عن إرادة المكلّف، ومن الواضح أنّ ما يقصد إعمال الارادة فيه في باب النّهي هو التّرك وعدم الفعل، ولا نظر إلى إعمال الإرادة في الفعل كما لا يخفى جدّا، وهذا يقتضي أن يكون المولى في مقام تحريك المكلّف نحو ما يَتِعلّق به اختياره وهو التّرك، ويكون في مقام جعل ما يكون سبباً لإعمال إرادة المكلّف في التّرك، فواقع النّهي ليس إلاّ هذا المعنى وهو قصد المولى وإرادته تحريك المكلّف وإعمال إرادته في التّرك.
وهذا كما يمكن أن ينشأ بمدلوله المطابقي وهو طلب الترك، كذلك يمكن أن ينشأ بمدلوله الالتزامي وهو الإنزجار عن الفعل، فإنّه لازم ارادة ترك العمل، وهو في باب النّهي منشأ بمدلوله الالتزامي بعكسه في باب الأمر فإنّه منشأ بمدلوله المطابقي، فالمنشأ في باب النّهي إرادة الترك بمفهوم المنع والنّهي، وليس المنشأ هو نفس المنع عن الفعل، لأنّه غير المقصود الأوّلي وأجنّبي عمّا عليه واقع المولى.
وأمّا دعوى: أنّه ليس في الواقع سوى كراهة الفعل تبعاً لوجود المفسدة فيه دون إرادة التّرك، فهي باطلة، فإنه كما هناك كراهة للفعل كذلك هناك إرادة ومحبوبيّة للتّرك، ويشهد لذلك الأفعال المبغوضة بالبغض الشّديد، فإنّ تعلّق المحبوبيّة بتركها ظاهر واضح لا إنكار فيه، كمحبوبيّة الصحة التي هي في الحقيقة عدم المرض ونحو ذلك.
وأمّا تمييز الواجب عن الحرام، فليس الضّابط فيه ما هو المنشأ وما هو متعلّق الإرادة أو الكراهة، بل الضّابط فيه ملاحظة ما فيه المفسدة والمصلحة، فإن كان الفعل ذا مفسدة كان حراماً وإن كان المنشأ طلب الترك، وإن كانت المصلحة في الفعل أو في الترك كان الفعل أو الترك واجباً، ومثل الصّوم تكون المصلحة في نفس التّرك فيكون واجباً(1).
أقول:
إن موضوع البحث هو مفاد النهي، وما ذهب إليه صاحب (الكفاية) هو دلالة النهي على طلب الترك، وقد عرفت ما فيه. وأمّا ما ذهب إليه السيّد الأُستاذ من أنّ النهي كما يمكن أن ينشأ بمدلوله المطابقي وهو طلب الترك، كذلك يمكن أنْ ينشأ بمدلوله الالتزامي وهو الانزجار عن الفعل، فإنه لازم إرادة ترك العمل، ففيه: إنّ الانزجار عن الفعل حالة تحدث للمكلَّف عند إرادته ترك العمل امتثالاً للنهي كما ذكر، لا أنّه مدلولٌ للنهّي، فكون الشيء مدلولاً للنهي ـ كما هو موضوع البحث ـ أمرٌ، وكونه ملازماً للمدلول ـ كما نصّ عليه في موضع آخر(2) ـ أمر آخر، بل إنّ التعبير بالانزجار يناسب ما ذهب إليه الجماعة ـ وتبعهم شيخنا الأُستاذ ـ من أن المدلول هو الزّجر، للتضايف بينهما كما لا يخفى.
فما أفاده، إمّا يرجع إلى ما ذكروه وإما هو خلط بين المعنى ولازمه، كما تقدَّم في الإشكال على (المحاضرات) لو تمّ رأي صاحب (الكفاية).

(1) منتقى الاصول 3 / 6 ـ 7.
(2) منتقى الاصول 3 / 11.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *