بلاغة الحسن بن علي

بلاغة الحسن بن علي
خطبه في زمن أبيه:
روى ابن عساكر بأسناده عن معمر بن يحيى بن سام قال: «سمعت جعفراً قال: سمعت أبا جعفر قال: قال علي: قم فاخطب الناس يا حسن، قال: اني أهابك أن أخطب وأنا أراك، فتغيب أميرالمؤمنين عنه حيث يسمع كلامه ولا يراه، فقام الحسن، فحمد الله وأثنى عليه وتكلم، ثم نزل فقال علي: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(1)(2).
قال المسعودي: «قد كان علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه اعتل، فأمر ابنه الحسن رضي الله عنه أن يصلي بالناس يوم الجمعة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ان الله لم يبعث نبياً إلاّ اختار له نقيباً ورهطاً وبيتاً، فو الذي بعث محمّداً بالحق نبياً لا ينتقص من حقنا أهل البيت أحد إلاّ نقصه الله من عمله مثله، ولا تكون علينا دولة إلاّ وتكون لنا العاقبة، ولتعلمن نبأه بعد حين»(3).
ومن خطب الحسن في أيامه في بعض مقاماته أنه قال: «نحن حزب الله المفلحون وعترة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الأقربون وأهل بيته الطاهرون الطيبون، وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والثاني كتاب الله فيه تفصيل كلّ شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، والمعول عليه في كل شيء، لا يخطئنا تأويله بل نتيقن حقائقه، فاطيعونا، فان طاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولي الأمر مقرونة (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ(4)… وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(5) واحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان، انه لكم عدوٌ مبين، فتكونون كأوليائه الذين قال لهم (لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ)(6)فتلقون للرماح أزرا، وللسيوف جزراً، وللعمد خطأ وللسام غرضاً، ثم (لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً)(7) والله أعلم(8).
وروى ابن شهر اشوب عن محمّد بن سيرين: «أن علياً قال لابنه الحسن: إجمع الناس فاجتمعوا فأقبل وخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال:أيها الناس، ان الله اختارنا لنفسه وارتضانا لدينه واصطفانا على خلقه وأنزل علينا كتابه ووحيه، وأيم الله، لا ينقصنا أحد من حقنا شيئاً إلاّ انتقصه الله من حقه في عاجل دنياه وآخرته ولا يكون علينا دولة الاّ كانت لنا العاقبة (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين)(9) ثم نزل فجمع بالناس وبلغ أباه فقبل بين عينيه ثم قال: بأبي وأمي (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(10).
قال السيد شهاب الدين أحمد: «وروي أن الحسن ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان يصعد المنبر بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويتكلم على الناس وكان كلامه شبيهاً بكلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فكان الصحابة يجتمعون إليه لا ستماع كلامه فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام فأتاه بحيث لا يراه ليستمع كلامه أيضاً. فقال الحسن عليه السّلام: كل لساني وعسر بياني كأن علياً يراني»(11).
وروى الصدوق بأسناده «قال علي للحسن يا حسن: قم فاصعد المنبر فتكلم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي، فيقولون: ان الحسن بن علي لا يحسن شيئاً، قال الحسن عليه السّلام: يا أبه كيف أصعد وأتكلم وأنت في الناس تسمع وترى، قال له: بأبي وأمي أواري نفسي عنك وأسمع وأرى وأنت لا تراني فصعد الحسن عليه السّلام المنبر، فحمد الله بمحامد بليغة شريفة وصلى على النبي موجزة، ثم قال: أيها الناس سمعت جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها وهل تدخل المدينة إلاّ من بابها، ثم نزل فوثب إليه علي عليه السّلام فحمله وضمه إلى صدره، ثم قال للحسين عليه السّلام يا بني قم فاصعد المنبر وتكلم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي، فيقولون: ان الحسين بن علي لا يبصر شيئاً، وليكن كلامك تبعاً لكلام أخيك، فصعد الحسين عليه السّلام المنبر فحمد الله واثنى عليه وصلى على نبيه صلاة موجزة ثم قال: معاشر الناس، سمعت جدي رسول الله وهو يقول ان علياً هو مدينة هدى فمن دخلها نجى ومن تخلف عنها هلك، فوثب إليه علي فضمه إلى صدره وقبله، ثم قال معاشر الناس، أشهد أنهما فرخا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ووديعته التي استودعنيها وأنا استودعكموها، معاشر الناس ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سائلكم عنهما»(12).
خطبه في زمن معاوية:
روى الهيثمي بأسناده عن أبي الطفيل، قال: خطبنا الحسن بن علي بن أبي طالب، فحمد الله وأثنى عليه وذكر أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه خاتم الأوصياء ووصي الأنبياء وأمين الصديقين والشهداء ثم قال: يا أيها الناس لقد فارقكم رجل ما سبقه الأولون ولا يدركه الآخرون، لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعطيه الراية فيقاتل جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فما يرجع حتى يفتح الله عليه، ولقد قبضه الله في الليلة التي قبض فيها وصي موسى وعرج بروحه في الليلة التي عرج فيها بروح عيسى بن مريم وفي الليلة التي أنزل الله عزّوجل فيها الفرقان، والله ما ترك ذهباً ولا فضة وما في بيت ماله الاّ سبعمائة وخمسون درهماً فضلت من عطائه أراد أن يشتري بها خادماً لأم كلثوم، ثم قال: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم تلاهذه الآية، قول يوسف (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ)(13) ثم أخذ في كتاب الله ثم قال: أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن النبي، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا ابن الذي أرسل رحمة للعالمين، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وأنا من أهل البيت الذين افترض الله عزّوجل مودتهم وولايتهم، فقال فيما أنزل على محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(14)(15).
وروى الصدوق بأسناده عن عبد الرحمان بن جندب عن أبيه وغيره: «أن الناس أتوا الحسن بن علي بعد وفاة عليه السّلام ليبايعوه فقال: الحمد لله على ما قضى من أمر وخص من فضل وعم من أمر وجلل من عافية، حمداً يتمم به علينا نعمه ونستوجب به رضوانه، ان الدنيا دار بلاء وفتنة وكل ما فيها إلى زوال، وقد نبأنا الله عنها كيما نعتبر، فقدم الينا بالوعيد كي لا يكون لنا حجة بعد الإنذار فازهدوا فيما يفنى، وارغبوا فيما يبقى، وخافوا الله في السر والعلانية ان علياً عليه السّلام في المحيا والممات والمبعث عاش بقدر ومات بأجل واني أبايعكم على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت فبايعوه على ذلك»(16).
قال ابن أبي الحديد: «روى أبو الحسن المدائني، قال: سأل معاوية الحسن ابن علي بعد الصلح أن يخطب الناس، فامتنع فناشده أن يفعل، فوضع له كرسي فجلس عليه، ثم قال: الحمد لله الذي توحد في ملكه وتفرد في ربوبيته، يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء، والحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم وأخرج من الشرك أولكم وحقن دماء اخركم، فبلاؤنا عندكم قديماً وحديثاً احسن البلاء ان شكرتم أو كفرتم، أيها الناس ان رب علي كان أعلم بعلي حين قبضه إليه، ولقد اختصه بفضل لم تعتدوا مثله ولم تجدوا مثل سابقته، فهيهات هيهات طالماً قلبتم له الأمور حتى أعلاه الله عليكم وهو صاحبكم وعدوكم في بدر واخواتها، جرعكم رنقاً وسقاكم علقاً وأذل رقابكم وأشرقكم بريقكم فلستم بملومين على بغضه، وأيم الله لاترى أمة محمّد خفضاً ما كانت سادتهم وقادتهم بني أمية، ولقد وجه الله اليكم فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا لطاعتكم طواغيتكم وانضوائكم إلى شياطينكم، فعند الله أحتسب ما مضى وما ينتظر من سوء دعتكم وحيف حكمكم، ثم قال: يا أهل الكوفة، لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله صائبٌ على أعداء الله نكال على فجار قريش، لم يزل آخذاً بحناجرها جاثماً على انفاسها، ليس بالملومة في أمر الله ولا بالسروقة لمال الله ولا بالفروقة في حرب اعداء الله أعطى الكتاب خواتمه وعزائمه دعاه فأجابه وقاده فاتبعه لا تأخذه في الله لومة لائم، فصلوات الله عليه ورحمته، ثم نزل، فقال معاوية: أخطأ عجل أو كاد وأصاب متثبت أو كاد. ماذا أردت من خطبة الحسن»(17).
وروى أبو الفرج بأسناده عن إسماعيل بن عبد الرحمان: «أن معاوية أمر الحسن أن يخطب لما سلم الأمر إليه وظن أن سيحصر، فقال في خطبته إنما الخليفة من سار بكتاب الله وسنة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم وليس الخليفة من سار بالجور، ذلك ملك ملك ملكاً يمتّع به قليلا ثم تنقطع لذته وتبقى تبعته (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين)(18) قال: وانصرف الحسن عليه السّلام إلى المدينة فأقام بها. وأراد معاوية البيعة لإبنه يزيد، فلم يكن شيء أثقل من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص، وفدسّ اليهما سماً فماتا منه»(19).
وروى محب الدين الطبري بأسناده أن معاوية قال له: «قم فاخطب الناس إلى أن قال أبو سعيد: انه عليه السّلام قال في خطبته: أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب، أنا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنا ابن البشير أنا ابن النذير، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن مزنة السماء، أنا ابن من بعث رحمةً للعالمين، أنا ابن من بعث الى الجن والانس أنا ابن من قاتلت معه الملائكة، أنا ابن من جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، أنا ابن من أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، أنا ابن من كان مستجاب الدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع أنا ابن أول من تنشق عنه الأرض ومن يقرع باب الجنة، أنا ابن أول من ينفض التراب عن رأسه، أنا ابن من رضاه رضا الرحمان وسخطه سخط الرحمان، أنا ابن من لا يسامى كرماً. فقال معاوية: حسبك يا أبا محمّد، ما أعرفناه بفضل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: يا معاوية، ان الخليفة من سار بسيرة رسول الله وعمل بطاعته، وليس الخليفة من دان بالجور وعطل السنن واتخذ الدنيا أماً وأباً»(20).
قال الطبري: «كان عمرو بن العاص حين اجتمعوا بالكوفة قد كلّم معاوية وأمره أن يأمر الحسن أن يقوم ويخطب الناس، فكره ذلك معاوية وقال: ما تريد إلا أن يخطب الناس، فقال عمرو: لكني أريد أن يبدو عيّه للناس، فلم يزل عمرو بمعاوية حتى أطاعه، فخرج معاوية فخطب الناس ثم أمر رجلا فنادى الحسن بن علي فقال: قم يا حسن فكلم الناس، فتشهد في بديهة أمر لم يرو فيه ثم قال: أما بعد، يا أيها الناس، فان الله قد هداكم بأولنا وحقن دمائكم بآخرنا، وان لهذا الأمر مدة والدنيا دول، وان الله تعالى قال لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين) فلما قالها قال معاوية: إجلس، فلم يزل ضرماً على عمرو وقال: هذا من رأيك. ولحق الحسن عليه السّلام بالمدينة»(21).
قال المسعودي: «ثم قال في كلامه ذلك: يا أهل الكوفة، لو لم تذهل نفسي عنكم إلاّ لثلاث خصال، لذهلت، مقتلكم لأبي، وسلبكم ثقلي، وطعنكم في بطني»(22).
وقال الخوارزمي: «وروي أن معاوية نظر إلى الحسن بن علي وهو بالمدينة وقد احتف به خلق من قريش يعظمونه فتداخله حسد، فدعا أبا الأسود الدؤلي والضحاك بن قيس الفهري فشاورهما في أمر الحسن والذي يهم به من الكلام، فقال له أبو الأسود: رأي أمير المؤمنين أفضل وأرى ألا يفعل فإن أمير المومنين لن يقول فيه قولا إلاّ أنزله سامعوه منه به حسداً ورفعوا به صعداً، والحسن ـ يا أمير المؤمنين ـ معتدل شبابه أحضر ما هو كائن جوابه فأخاف أن يرد عليك كلامك بنوافذ تردع سهامك، فيقرع بذلك ظنونك ويبدي به عيوبك، فإذن كلامك فيه صار له فضلا وعليك كلاًّ، إلاّ أن تكون تعرف له عيبا في أدب أو وقيعة في حسب وأنه لهو المهذب قد اصبح من صريح العرب في عز لبابها وكريم محتدها وطيب عنصرها، فلا تفعل يا أمير المؤمنين.
وقال الضحاك بن قيس الفهري: إمض يا أمير المؤمنين فيه برأيك ولا تنصرف عنه بدائك، فانك لو رميته بقوارص كلامك ومحكم جوابك يذلّ لك كما يذل البعير الشارف من الابل، فقال: افعل، وحضرت الجمعة، فصعد معاوية على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه وذكر علي بن أبي طالب فتنقّصه، ثم قال: أيها الناس إن صبية من قريش ذوي سفه وطيش وتكدّر من عيش اتعبتهم المقادير، فاتخذ الشيطان رؤسهم مقاعد والسنتهم مبادر فباض وفرخ في صدورهم ودرج في نحورهم، فركب بهم الزلل وزين لهم الخطل وأعمى عليهم السبل، وأرشدهم إلى البغي والعدوان والزور والبهتان، فهم له شركاء وهو لهم قرين (وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً)(23) وكفى لهم مؤدباً، والمستعان الله، فوثب الحسن بن علي وأخذ بعضادتي المنبر، فحمد الله وصلى على نبيه ثم قال: «أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني، فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب، أنا ابن نبي الله، أنا ابن من جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن البشير النذير، أنا ابن خاتم النبيين وسيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين، أنا ابن من بعث إلى الجن والإنس، أنا ابن من بعث رحمة للعالمين.
فلما سمع كلامه معاوية غاظه منطقه وأراد أن يقطع عليه، فقال: يا حسن، عليك بصفة الرطب فقال الحسن: الريح تلقحه والحر ينضجه والليل يبرده ويطيبه على رغم أنفك يا معاوية.
ثم أقبل على كلامه فقال: أنا ابن المستجاب للدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب، ويقرع باب الجنة، أنا ابن من قاتلت الملائكة معه ولم تقاتل مع نبي قبله، أنا ابن من نصر على الأحزاب، أنا ابن من ذل له قريش رغماً. فقال معاوية، أما انك تحدث نفسك بالخلافة ولست هناك، فقال الحسن: أما الخلافة، فلمن عمل بكتاب الله وسنة نبيه، ليست الخلافة لمن خالف كتاب الله وعطل السنة، انما مثل ذلك مثل رجل اصاب ملكاً فتمتع به وكأنه انقطع عنه وبقيت تبعاته عليه. فقال معاوية: ما في قريش رجل الاّ ولنا عنده نعم جزيلة ويد جميلة، قال: بلى من تعززت به بعد الذلة وتكثرت به بعد القلة، فقال معاوية: من أولئك يا حسن؟ قال: من يلهيك عن معرفته، ثم قال الحسن: أنا ابن من ساد قريش شاباً وكهلا، أنا ابن من ساد الورى كرماً ونبلا، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالجود الصادق والفرع الباسق والفضل السابق، أنا ابن من رضاه رضا الله وسخطه سخطه، فهل لك أن تساميه يا معاوية؟ فقال: أقول لا تصديقاً لقولك، فقال له الحسن: الحق أبلج والباطل لجلج، ولم يندم من ركب الحق وقد خاب من ركب الباطل، (والحق يعرفه ذوو الألباب) ثم نزل معاوية وأخذ بيد الحسن، وقال: «لا مرحباً بمن ساءك»(24).
وروى ابن شهر اشوب بإسناده عن المنهال بن عمرو: «أن معاوية سأل الحسن أن يصعد المنبر وينتسب فصعد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فسأبين له نفسي، بلدي مكة ومنى، وأنا ابن المروة والصفا وأنا ابن النبي المصطفى وأنا ابن من علا الجبال الرواسي، وأنا ابن من كسا محاسن وجهه الحياء، أنا ابن فاطمة سيدة النساء، أنا ابن قليلات العيوب نقيات الجيوب، وأذن المؤذن فقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن محمّداً رسول الله، فقال لمعاوية: محمّد أبي أم أبوك؟ فإن قلت ليس بأبي فقد كفرت، وان قلت نعم فقد أقررت، ثم قال: اصبحت قريش تفتخر على العرب بأن محمّداً منها وأصبحت العرب تفتخر على العجم بأن محمّداً منها وأصبحت العجم تعرف حق العرب بأن محمّداً منها يطلبون حقنا ولا يردون الينا حقنا»(25).
قال ابن شهر آشوب: «قال معاوية للحسن بن علي: أنا خيرٌ منك يا حسن! قال: وكيف ذاك يا ابن هند؟(26) قال: لأن الناس قد أجمعوا علي ولم يجمعوا عليك، قال: هيهات هيهات لشر ما علوت يا ابن آكلة الأكباد، المجتمعون عليك رجلان بين مطيع ومكره، فالطايع لك عاص لله والمكره معذور بكتاب الله، وحاش لله أن أقول: أنا خير منك فلا خير فيك، ولكن الله برأني من الرذائل كما برأك من الفضائل»(27).
وروى ابن قتيبة قال: «وفد الحسن بن علي على معاوية الشام، فقال عمرو ابن العاص: ان الحسن رجل أفه، فلو حملته على المنبر فتكلم فسمع الناس من كلامه عابوه، فأمر فصعد المنبر فتكلم فأحسن، وكان في كلامه أن قال: أيها الناس، لو طلبتم إبناً لنبيكم ما بين جابرس إلى جابلق لم تجدوه غيري وغير أخي (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين) فساء ذلك عمراً وأراد أن يقطع كلامه فقال: يا أبا محمّد، هل تنعت الرطب؟ فقال: أجل، تلقحه الشمال وتخرجه الجنوب، وينضجه برد الليل بحر النهار، قال: يا أبا محمّد هل تنعت الخراءة؟ قال: نعم، تبعد المشى في فتنة السكوت، ومن سقطات الصمت، قال: ليس هذا أريد، قال: فكأنك انما تريد تخير اللفظ في حسن افهام؟ قال: نعم، قال: انك ان أردت تقرير حجة الله في عقول المكلفين وتخفيف المؤنة على المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة في الآذان المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة من الكتاب والسنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب، واستوجبت على الله جزيل الثواب»(28).
وروى محمّد بن المحسن الكاشاني عن سليم بن قيس، قال: «قام الحسن بن علي بن أبي طالب على المنبر حين اجتمع مع معاوية وأصحابه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، ان معاوية زعم اني رأيته للخلافة أهلا ولم أر نفسي لها أهلا، وكذب معاوية، أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان رسول الله، فأقسم بالله، لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها، ولما طمعت فيها يا معاوية، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وما ولّت أمة أمرها رجلا قط وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ملة عبدة العجل، وقد ترك بنو إسرائيل هارون واعتكفوا على العجل وهم يعلمون أن هارون خليفة موسى، وقد تركت الأمة علياً عليه السّلام وقد سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لعلى عليه السّلام: أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة فلا نبي بعدي، وقد هرب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من قومه وهو يدعوهم إلى الله حتى فر إلى الغار، ولو وجد أعواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعواناً ما بايعتك يا معاوية، وقد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه لما لم يجد أعواناً عليهم، وكذلك أنا وأبي في سعة من الله حين تركتنا الأمة وبايعت غيرنا ولم نجد أعوانا، وانما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً، أيها الناس، انكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب رجلا لم تجدوا رجلا من ولد نبي غيري وغير أخي»(29).
وروى الحراني: «قال معاوية للحسن بعد الصلح: اذكر فضلنا، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمّد النبي وآله، ثم قال: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن رسول الله، أنا ابن البشير النذير، أنا ابن المصطفى بالرسالة، أنا ابن من صلت عليه الملائكة، أنا ابن من شرفت به الأمة، أنا ابن من كان جبرئيل السفير من الله اليه، أنا ابن من بعث رحمة للعالمين، فلم يقدر معاوية أن يكتم عداوته وحسده، فقال: يا حسن عليك بالرطب فانعته لنا، قال: نعم يا معاوية، الريح تلقحه والشمس تنفحه والقمر يلونه والحر ينضجه والليل يبرده، ثم أقبل على منطقه فقال: أنا ابن المستجاب الدعوة أنا ابن من كان من ربه كقاب قوسين أو ادنى، أنا ابن الشفيع المطاع أنا ابن مكة ومنى أنا ابن من خضعت له قريش رغماً، أنا ابن من سعد تابعه وشقي خاذله، أنا ابن من جعلت الأرض له طهوراً ومسجداً، أنا ابن من كانت أخبار السماء اليه تترى، أنا ابن من أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فقال معاوية: أظن نفسك يا حسن تنازعك إلى الخلافة! فقال: ويلك يا معاوية، انما الخليفة من سار بسيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعمل بطاعة الله، ولعمري انا لأعلام الهدى ومنار التقى، ولكنك يا معاوية ممن أبار السنن وأحيا البدع واتخذ عباد الله خولا ودين الله لعباً، فكان قد أخمل ما أنت فيه فعشت يسيراً وبقيت عليك تبعاته، يا معاوية، والله لقد خلق الله مدينتين إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب أسماهما جابلقا وجابلسا، ما بعث الله اليهما أحداً غير جدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال معاوية: يا أبا محمّد، أخبرنا عن ليلة القدر، قال: نعم عن مثل هذا فاسأل، ان الله خلق السماوات سبعاً والأرضين سبعاً والجن من سبع والإنس من سبع، فتطلب من ليلة ثلاث وعشرين إلى ليلة سبع وعشرين، ثم نهض عليه السّلام»(30).
وروى ابن كثير عن محمّد بن سيرين قال: «لما دخل معاوية الكوفة وبايعه الحسن بن علي، قال أصحاب معاوية لمعاوية: مر الحسن بن علي أن يخطب فانه حديث السن عيّ، فلعله يتلعثم فيتضع في قلوب الناس، فأمره فقام فاختطب، فقال في خطبته: أيها الناس لو اتبعتم بين جابلق وجابرس رجلا جده نبي غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنا قد أعطينا بيعتنا معاوية ورأينا أن حقن دماء المسلمين خير من إهراقها والله ما أدري (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين) وأشار إلى معاوية فغضب من ذلك وقال: ما أردت من هذه؟ قال: أردت منها ما أراد الله منها. فصعد معاوية وخطب بعده وقد رواه غير واحد وقدمنا أن معاوية عتب على أصحابه»(31).

(1) سورة آل عمران: 34.
(2) ترجمة الإمام الحسن من تاريخ مدينة دمشق ص144 الرقم 243.
(3) مروج الذهب ج3 ص9.
(4) سورة النساء: 59.
(5) سورة النساء: 83.
(6) سورة الانفال: 48.
(7) سورة الانعام: 158.
(8) مروج الذهب ج3 ص9.
(9) سورة ص: 88.
(10) المناقب ج7 ص11.
(11) توضيح الدلائل في تصحيح الفضائل ص715.
(12) كتاب التوحيد باب 43 ص307.
(13) سورة يوسف: 38.
(14) سورة الشورى: 23.
(15) مجمع الزوائد ج9 ص146.
(16) كتاب التوحيد ص378.
(17) شرح نهج البلاغة ج4 طبع مصر ص10.
(18) سورة الأنبياء: 111.
(19) مقاتل الطالبيين ص72.
(20) ذخائر العقبى ص140.
(21) تاريخ الطبري ج5 ص163، ورواه المسعودي وابن عساكر في ترجمة الإمام الحسن من تاريخ مدينة دمشق ص194 رقم 323. قال الدكتور أحمد شلبي: «لما بايع الحسن معاوية ودخل هذا الكوفة واجتمع بالناس في المسجد أراد معاوية أن يخطب الناس فأشار عليه عمرو أن يقدم الحسن ليخطب الناس، ولكن معاوية كان سيء الظن بعمرو فقال له: أما تريدني أن اخطب الناس؟ فأجاب عمرو: بلى ولكني أريد أن يبدو عيُّ الحسن للجماهير والح على معاوية فاستجاب وقدم الحسن فاجاد هذا في خطابه القصير وغمز في معاوية وختم خطابه بقوله تعالى (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين) فاغتاط معاوية من عمرو، وقال له: هكذا أردت يا إبن عاص؟» (التاريخ الاسلامي والحضارة الإسلامية ج2 ص40).
(22) مروج الذهب ج3 ص8.
(23) سورة النساء: 38.
(24) مقتل الحسين ج1 ص125.
(25) المناقب ج4 ص12.
(26) قال سبط ابن الجوزي: «قال الشعبي: وقد أشار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى هند يوم فتح مكه بشيء من هذا فانها لما جاءت تبايعه، وكان قد أهدر دمها فقالت: على ما اباعك؟ فقال: على أن لا تزنين، فقالت: وهل تزني الحرة؟ فعرفها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنظر إلى عمر، فتبسم» (تذكرة الخواص ص203).
(27) المناقب ص22.
(28) عيون الأخبار كتاب العلم والبيان ص58.
(29) معادن الحكمة ج2 ص24.
(30) تحف العقول ص232.
(31) البداية والنهاية ج8 ص42.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *