سورة الأحزاب

(سورة الأحزاب)
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)(1).
قال الخوارزمي: «قال الله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) قيل نزل قوله: (فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ) في حمزة واصحابه كانوا عاهدوا الله تعالى لا يولون الادبار فجاهدوا مقبلين حتى قتلوا، ومنهم من ينتظر علي بن أبي طالب عليه السّلام مضى على الجهاد ولم يبدّل ولم يغير الآثار»(2).
روى السيد شهاب الدين أحمد باسناده عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، قال: «رجالٌ صدقوا: حمزة وعلي وجعفر، فمنهم من قضى نحبه: اي عهده وهو حمزة وجعفر، ومنهم من ينتظر قال: علي بن أبي طالب»(3).
قال ابن حجر: «وسئل علي وهو على المنبر بالكوفة عن قوله تعالى: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)فقال: اللّهم غفراً هذه الآية نزلت في وفي عمّي حمزة، وفي ابن عمّي عبيدة ابن الحارث بن عبد المطلب، فامّا عبيدة فقضى نحبه شهيداً يوم بدر، وحمزة قضى نحبه شهيداً يوم أحد، واما أنا فانتظر أشقاها يخضب هذه من هذه، واشار بيده إلى لحيته ورأسه، عهد عهده اليّ حبيبي أبو القاسم صلّى الله عليه وآله وسلّم(4).
قال الحافظ الكنجي: «قيل: نزل قوله (فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ) في حمزة واصحابه، كانوا عاهدوا ان لا يولّوا الادبار فجاهدوا مقبلين حتى قتلوا، (وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ)علي بن أبي طالب مضى على الجهاد، ولم يبدّل ولم يغير»(5).
روى الحاكم الحسكاني باسناده عن أبي اسحاق عن علي قال: فينا نزلت: (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) الآية: «فانا والله المنتظر وما بدلت تبديلا»(6).
وروى باسناده عن عبدالله بن عباس في قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) يعني علياً وحمزة وجعفر (فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ)يعني حمزة وجعفر (وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ) يعني علياً عليه السّلام كان ينتظر اجله والوفاء لله بالعهد والشهادة في سبيل الله، فوالله لقد رزق الشهادة(7).
(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً)(8).
قال ابن أبي الحديد : «ما وجدناه في السير والأخبار من إشفاق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحذره عليه. ودعائه له بالحفظ والسلامة، قال صلّى الله عليه وآله يوم الخندق، وقد برز علي إلى عمرو ورفع يديه إلى السماء، بمحضر من اصحابه، اللهم انك اخذت مني حمزة يوم أحد وعبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم عليّ علياً: (رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)(9)ولذلك ضن به عن مبارزة عمر وحين دعا عمرو الناس إلى نفسه مراراً، في كلها يحجمون ويقدم علي، فسأل الأذن له في البراز حتى قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: «انه عمروا» فقال: «وأنا عليّ» فأدناه وقبله وعممه بعمامته، وخرج معه خطوات كالمودع له. القلق لحاله، المنتظر لما يكون منه، ثم لم يزل صلّى الله عليه وآله رافعاً يديه إلى السماء مستقبلا لها بوجهه، والمسلمون صموت حوله، كأنما على رؤوسهم الطير، حتى ثارت الغبرة، وسمعوا التكبير من تحتها، فعلموا ان علياً قتل عمرواً، فكبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وكبر المسلمون تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين، ولذلك قال حذيفة بن اليمان: لو قسمت فضيلة علي عليه السّلام بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين باجمعهم لوسعتهم. وقال ابن عباس في قوله تعالى: (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) قال: بعلي بن أبي طالب»(10).
روى الحاكم الحسكاني باسناده عن عبدالله «انه كان يقرأ (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ) بعلي بن أبي طالب»(11).
وروى باسناده عن حذيفة، قال: «لما كان يوم الخندق عبر عمرو بن عبدود حتى جاء فوقع على عسكر النبي فنادى: البراز، فقال رسول الله: ايكم يقوم الى عمرو؟ فلم يقم أحد الاّ علي بن أبي طالب فانه قام فقال له النبي: اجلس، ثم قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ايكم يقوم إلى عمرو؟ فلم يقم احد، فقام إليه علي فقال: أنا له فقال النبي اجلس، ثم قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأصحابه ايكم يقوم إلى عمرو فلم يقم أحد، فقام علي، فقال أنا له، فدعاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: انه عمرو بن عبد ود، قال: وأنا علي بن أبي طالب فألبسه درعه ذات الفضول واعطاه سيفه ذا الفقار وعممه بعمامته السحاب على رأسه تسعة اكوار، ثم قال له: تقدم فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما ولى: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه، فجاء حتى وقف على عمرو، فقال: من أنت، فقال عمرو ما ظننت اني اقف موقفاً اجهل فيه، أنا عمرو بن عبد ود، فمن أنت قال: أنا علي بن أبي طالب فقال: الغلام الذي كنت اراك في حجر أبي طالب؟ قال: نعم، قال: ان اباك كان لي صديقاً وأنا اكره ان اقتلك فقال له علي: لكني لا اكره ان اقتلك، بلغني انك تعلقت باستار الكعبة وعاهدت الله عزّوجل ان لا يخيّرك رجل بين ثلاث خلال الاّ اخترت منها خلة؟ قال: صدقوا قال: اما ان ترجع من حيث جئت، قال: لا تحدث بها قريش قال: أو تدخل في ديننا فيكون لك ما لنا وعليك ما علينا، قال ولا هذه فقال له علي: فانت فارس وأنا راجل فنزل عن فرسه، وقال: ما لقيت من أحد ما لقيت من هذا الغلام، ثم ضرب وجه فرسه فأدبرت، ثم أقبل إلى علي وكان رجلا طويلا ـ يداوي دبر البعيرة وهو قائم ـ وكان علي في تراب دق ولا يثبت قدماه عليه فجعل علي ينكص إلى ورائه يطلب جلداً من الأرض يثبت قدميه ويعلوه عمرو بالسيف، فكان في درع عمرو قصر، فلما تشاك بالضربة تلقاها علي بالترس فلحق ذباب السيف في رأس علي وتسيف على رجليه بالسيف من اسفل، فوقع على قفاه فثارت بينهما عجاجة، فسمع علي يكبر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: قتله، والذي نفسي بيده فكان أول من ابتدر العجاج عمر بن الخطاب فإذا علي يمسح سيفه بدرع عمرو فكبر عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله قتله، فحز علي رأسه، ثم اقبل يخطر في مشيته، فقال له رسول الله: يا علي ان هذه مشية يكرهها الله عزّوجل الاّ في هذا الموضع، فقال رسول الله لعلي: ما منعك من سلبه، وكان ذو سلب، فقال: يا رسول الله انه تلقاني بعورته، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أبشر يا علي، فلو وزن اليوم عملك بعمل أمة محمّد لرجح عملك بعملهم وذلك انه لم يبق بيت من بيوت المسلمين الاّ وقد دخله عز بقتل عمرو»(12).
وروى باسناده عن علي قال: «خرج عمرو بن عبد ود يوم الخندق معلماً مع جماعة من قريش، فاتوا نقرة من نقر الخندق فقحموا خيلهم فعبروه وأتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ودعا عمرو البراز فنهضت اليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: يا علي انه عمرو، قلت يا رسول الله واني علي، فخرجت إليه ودعوت بدعاء علمنيه رسول الله قال: قل: بك اصول وبك احول واياك أدرأ في نحره، فنازلته وثار العجاج فضربني ضربة في رأسي فعملت، فضربته فجدلته وولت خيله منهزمة»(13).
وروى الحاكم النيسابوري باسناده عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبدود يوم الخندق افضل من اعمال امتي الى يوم القيامة»(14).
(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(15).
روى الطبري باسناده عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نزلت هذه الآية في خمسة: في وفي علي وحسن وحسين وفاطمة (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)»(16).
روى الحاكم الحسكاني باسناده عن صفية بنت شيبة قالت: قالت عائشة: «خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله معه، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء علي فأدخله معه، ثم قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)»(17).
روى الحمويني باسناده عن مجمع قال: «دخلت مع أمي على عائشة فسألتها أمي قالت: أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت: انه كان قدراً من الله سبحانه وتعالى فسألتها عن علي قالت: تسأليني عن أحب الناس كان إلى رسول الله، لقد رأيت علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وجمع رسول الله بثوب عليهم. ثم قال؟ اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، قالت فقلت: يا رسول الله وأنا من أهلك، قال تنحي فانك إلى خير»(18).
روى ابن كثير باسناده عن محمّد بن يزيد عن العوام بن حوشب عن عم له قال: «دخلت مع أبي على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن علي رضي الله عنه فقالت: تسألني عن رجل كان من أحب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت تحته ابنته وأحب الناس إليه، لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم: فألقى عليهم ثوباً فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قالت فدنوت منهم فقلت: يا رسول الله وأنا من أهل بيتك؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم تنحي فانك على خير»(19).
قال ابن حجر: «أكثر المفسرين على أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين لتذكير ضمير عنكم وما بعده… هذه الآية منبع فضائل أهل البيت النبوي لاشتمالها على غرر من مآثرهم، والاعتناء بشأنهم حيث ابتدأت بـ (انما) المفيدة لحصر ارادته تعالى في أمرهم على اذهاب الرجس الذي هو الإثم، أو الشك فيما يجب الايمان به عنهم وتطهيرهم من سائر الأخلاق والأحوال المذمومة… وتحريمهم على النار، وهو فائدة ذلك التطهير وغايته إذ منه الهام الانابة إلى الله تعالى وادامة الأعمال الصالحة»(20).
روى البلاذري باسناده عن انس بن مالك «ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يمر ببيت فاطمة ستة اشهر وهو منطلق إلى صلاة الصبح، فيقول: الصلاة أهل البيت (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(21).
قال السيوطي: وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة قالت: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن الحسين رضي الله عنهما فادخلهما معه ثم جائت فاطمة فادخلها، ثم جاء علي فأدخله معه، ثم قال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).
وروى الحاكم النيسابوري باسناده عن أم سلمة رضي الله عنها «أنها قالت: في بيتي نزلت هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)قالت فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي قالت ام سلمة: يا رسول الله ما أنا من أهل البيت؟ قال: انك لعلى خير وهؤلاء أهل بيتي اللهم اهلي احق، هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه»(22).
وروى السيوطي باسناده عن أم سلمة رضي الله عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لفاطمة رضي الله عنها ايتيني بزوجك وابنيه فجاءت بهم فالقى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم، ثم قال: اللهم ان هؤلاء أهل محمّد، وفي لفظ آل محمّد، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمّد كما جعلتها على آل إبراهيم انك حميد مجيد، قالت ام سلمة رضي الله عنها: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال: انك على خير»(23).
روى ابن عساكر بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: حين نزلت: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) كان يجيء نبي الله إلى باب علي صلاة الغداة ثمانية اشهر ويقول: الصلاة رحمكم الله (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(24).
وروى بسنده عن أبي الحمراء قال: أقمت بالمدينة سبعة اشهر كيوم واحد، كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يجيء كل غداة فيقوم على باب فاطمة، يقول: الصلاة (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(25).
روى ابن البطريق باسناده عن واثلة بن الاسقع أنه حدثه قال: «طلبت علياً في منزله، فقالت فاطمة: ذهب يأتي برسول الله صلّى الله عليه وآله قال فجاءا جميعاً فدخلا ودخلت معهما، فاجلس علياً عن يساره، وفاطمة عن يمينه والحسن والحسين بين يديه، ثم التفع عليهم بثوبه، وقال: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) اللهم ان هؤلاء أهلي احق»(26).
وروى بسنده عن عطاء بن أبي رباح، قال: «حدثني من سمع ام سلمة تذكر ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان في بيتها، فأتته فاطمة صلّى الله عليها ببرمة فيها خزيرة فدخلت بها عليه، قال: ادعي لي زوجك وابنيك، قال فجاء علي وحسن وحسين عليهم السلام، فدخلوا فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو وهم على منام له على دكان تحته كساء خيبري، قالت وأنا في الحجرة اصلي فأنزل الله تعالى هذه الآية (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قالت فأخذ فضل الكساء وكساهم به ثم أخرج يده فالوى بها الى السماء وقال: هؤلاء أهل بيتي وخاصتي. اللهم فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، قالت: فأدخلت رأسي البيت وقلت وأنا معكم يا رسول الله؟ قال انك إلى خير»(27).
قال العلامة الحلي: «أجمع المفسرون وروى الجمهور كأحمد بن حنبل وغيره، أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام، وروى أبو عبيدة محمّد بن عمران المرزباني عن أبي الحمراء قال: خدمت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نحواً من تسعة أشهر أو عشرة عند كل فجر لا يخرج من بيته حتى يأخذ بعضادتي باب علي عليه السّلام فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فتقول فاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السّلام: وعليك السلام يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، ثم يقول: الصلاة رحمكم الله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ثم ينصرف إلى مصلاه، والكذب من الرجس ولا خلاف في ان أميرالمؤمنين ادعى الامامة لنفسه فيكون صادقاً»(28).
وقال في (منهاج الكرامة): «وفي هذه الآية على العصمة مع التأكيد بلفظ (إِنَّمَا)وبادخال (اللام) في الخبر، والاختصاص في الخطاب بقوله (أَهْلَ الْبَيْتِ)والتكرير بقوله (وَيُطَهِّرَكُمْ)والتأكيد بقوله (تَطْهِيراً) وغيرهم ليس بمعصوم، فتكون الامامة في علي عليه السّلام. ولانه ادعاها في عدة من اقواله، كقوله والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وانه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى. وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقاً فيكون هو الإمام»(29).
وقال شرف الدين: «انما» وهي محققة لما اثبت بعدها نافية لما لم يثبت بعدها وقوله يريد قال أبو علي الطبرسي قدس الله روحه: هل هي الارادة المحضة او الارادة التي يتبعها التطهير واذهاب الرجس؟ فلا يجوز الوجه الأول لأن الله قد أراد من كل مكلف هذه الارادة المطلقة فلا اختصاص لها بأهل البيت عليهم السّلام دون سائر الخلق، ولان هذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بغير شك ولا مدح في الارادة المجردة. فثبت الوجه الثاني، وفي ثبوته ثبوت العصمة لهم لاختصاص الآية لهم لبطلان عصمة غيرهم، وقد جاء في اختصاص الآية روايات لا تحصى كثرة، والرجس عمل الشيطان، والتطهير العصمة منه، وأهل البيت: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السّلام(30).
أقول: روى البحراني في تفسير هذه الآية من طريق العامة واحداً وأربعين حديثاً ومن الخاصة أربعة وثلاثين حديثاً(31).
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(32).
روى اسماعيل القاضي باسناده عن كعب بن عجرة قال: «لما نزلت هذه الآية (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)قلنا: يا رسول الله، قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم انك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت وصليت على إبراهيم وآل إبراهيم انك حميد مجيد»(33).
وروى الدار قطني باسناده عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صلى صلاة لم يصل فيها علي ولا على أهل بيتي لم تقبل منه(34).
وروى اسماعيل القاضي باسناده عن السري بن يحيى قال: «سمعت الحسن قال: لما نزلت (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)قالوا: يا رسول الله هذا السلام قد علمنا كيف هو، فكيف تأمرنا ان نصلي عليك؟ قال: تقولون اللهم اجعل صلواتك وبركاتك على آل محمّد كما جعلتها على آل إبراهيم انك حميد مجيد»(35).
وباسناده عن عبدالله بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسين عن فاطمة بنت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قالت: «قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا دخلت المسجد فقولي: بسم الله والسلام على رسول الله اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد واغفر لنا وسهل لنا أبواب رحمتك. فإذا فرغت فقولي مثل ذلك، غير أن قولي وسهل لنا أبواب فضلك»(36).
روى العلامة الحلي رواية كعب بن عجرة عن البخاري (كتاب التفسير ـ الاحزاب) ومسلم (كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: ولا شك ان علياً عليه السّلام افضل آل محمّد فيكون اولى بالامامة(37).
(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً)(38).
روى الحاكم النيسابوري باسناده عن أبي بكر بن عبيدالله بن أبي مليكة عن أبيه قال: جاء رجل من أهل الشام فسب علياً عند ابن عباس فحصبه ابن عباس،فقال: يا عدو الله آذيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) لو كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حياً لآذيته. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد(39).
روى الحاكم الحسكاني قال: «حدثنا الحاكم أبو عبدالله الحافظ، حدثنا أحمد بن محمّد بن أبي دارم الحافظ، حدثنا علي بن أحمد العجلي، حدثنا عباد بن يعقوب، حدثنا أرطاة بن حبيب قال: حدثني أبو خالد الواسطي وهو آخذ بشعره قال: حدثني زيد بن علي وهو آخذ بشعره، قال: حدثني علي بن الحسين وهو آخذ بشعره، قال: حدثني الحسين بن علي وهو آخذ بشعره قال: حدثني علي بن أبي طالب وهو آخذ بشعره، قال: حدثني رسول الله وهو آخذ بشعره، فقال: من آذى شعرة منك فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فعليه لعنة الله»(40).
وروى باسناده عن جابر قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لعلي: من آذاك فقد آذاني»(41).
(إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِْنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(42).
من كلام لعلي بن أبي طالب عليه السّلام كان يوصي به اصحابه: «… ثم أداء الأمانة. فقد خاب من ليس من أهلها، إنها عرضت على السماوات المبنيّة، والأرضين المدحوة، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول ولا اعرض ولا اعلى ولا اعظم منها، ولو امتنع شيء بطول او عرض أو قوة أو عز لامتنعن ولكن اشفقن من العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن وهو الانسان (إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)ان الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يخفى عليه ما العباد مقترفون في ليلهم ونهارهم لطف به خبراً، وأحاط به علماً، أعضاؤكم شهوده، وجوارحكم جنوده، وضمائركم عيونه، وخلواتكم عيانه»(43).
روى البحراني عن الخوارزمي باسناده عن جابر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ان الله تعالى لما خلق السماوات والأرض دعاهن فأجبنه فعرض عليهم نبوتي وولاية علي بن أبي طالب فقبلتاهما، ثم خلق الخلق وفوض الينا أمر الدين، فالسعيد من سعد بنا والشقي من شقي بنا نحن المحللون لحلاله والمحرمون لحرامه»(44).
قال شرف الدين: قوله تعالى: إنا عرضنا اي عارضنا وقابلنا. والأمانة هنا الولاية، وقوله على السماوات والأرض والجبال فيه قولان، الأول ان العرض على أهل السماوات والأرض من الملائكة والجن والأنس فحذف، المضاف واقيم المضاف اليه مقامه، والقول الثاني قول ابن عباس وهو انه عرضت على نفس السماوات والأرض والجبال فامتنعت من حملها واشفقت منها ولأن نفس الأمانة قد حفظتها الملائكة والأنبياء والمؤمنون وقاموا بها، وقوله واشفقن منها اي ان هذه الأمانة في جلالة موقعها وعظم شأنها لو قيست السماوات والأرض والجبال وعرضت بها لكانت الأمانة ارجح قدراً واثقل وزناً منها ومع ذلك فقد حمل الانسان مع ضعفه ومعنى حملها أي خانها وضيعها وكل من حمل الأمانة فقد خانها وضيعها ومن لم يحملها فقد أداها وليس المراد بحملها الاستقلال بها وانشد بعضهم في ان حمل الأمانة بمعنى الخيانة، فقال:
إذا أنت لم تبرح تؤدي امانة *** وتحمل اخرى افدحتك الودائع
اي تؤدي امانة وتضيع اخرى وقوله وحملها الانسان وهو الكافر والمنافق انه كان ظلوماً لنفسه جهولا بالثواب والعقاب المعدّ له يوم المآب.
وأما تأويل الأمانة هي الولاية ما رواه محمّد بن العباس رحمه الله عن الحسين بن عامر عن محمّد بن الحسين عن الحكم بن مسكان عن اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله الله عزّوجل (إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِْنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) قال: يعني بها ولاية علي بن أبي طالب عليه السّلام(45).

(1) سورة الاحزاب: 23.
(2) المناقب الفصل السابع عشر ص197.
(3) توضيح الدلائل في تصحيح الفضائل ص326.
(4) الصواعق المحرقة ص80.
(5) كفاية الطالب ص249.
(6 و 7) شواهد التنزيل ج2 ص1 رقم /627/628.
(8) سورة الاحزاب: 25.
(9) سورة الانبياء: 89.
(10) شرح نهج البلاغة ج13 ص283.
(11) شواهد التنزيل ج2 ص3 رقم /629، ورواه السيوطي في الدر المنثور ج5 ص192. وابن عساكر في ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق ج2 ص420 رقم /920 والكنجي في كفاية الطالب ص234.
(12 و 13) شواهد التنزيل ج2 ص5 ص7 رقم /634 و635.
(14) المستدرك ج3 ص32، والخطيب في تاريخ بغداد ج13 ص18 رقم 6978 مع فرق.
(15) سورة الأحزاب: 33.
(16) جامع البيان (الطبري) ج22 ص6 ورواه البدخشي في مفتاح النجاء ص22.
(17) شواهد التنزيل ج2 ص36 رقم /680، ورواه ابن كثير في تفسيره ج3 ص485، والطبري في تفسيره.
(18) فرائد السمطين ج1 ص367 رقم /296.
(19) تفسير القرآن العظيم ج3 ص485.
(20) الصواعق المحرقة ص85 ص86.
(21) انساب الأشراف ج2 ص104 رقم /38. ورواه البدخشي في مفتاح النجاء ص22.
(22) المستدرك ج2 ص416.
(23) الدر المنثور ج5 ص198.
(24) ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق ج1 ص250 رقم /320.
(25) ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق ج1 ص251 رقم 321.
(26) خصائص الوحي المبين ص41.
(27) المصدر ص42.
(28) كشف الحق ونهج الصدق البحث الرابع في تعيين الإمام ص88.
(29) البرهان الخامس ص85 مخطوط.
(30) تأويل الآيات الظاهرة ص254.
(31) غاية المرام ص287.
(32) سورة الاحزاب: 56.
(33) وروى خبر كعب: الدار قطني في سننه 1 ص355 رقم 2 وابن حجر في الصواعق ص87.
(34) سنن الدار قطني ج1 ص355 باب ذكر وجوب الصلاة على النبي رقم /6.
(35 و 36) فضل الصلاة على النبي ص62 ص74 رقم /65/82.
(37) منهاج الكرامة، البرهان التاسع والعشرون.
(38) سورة الاحزاب: 57ـ58.
(39) المستدرك على الصحيحين ج3 ص121 وصححه الذهبي في تلخيصه.
(40) شواهد التنزيل ج2 ص97 رقم /776، ورواه الزرندي في نظم درر السمطين ص105.
(41) المصدر ص98 رقم 777، ورواه البلاذري في أنساب الاشراف عن ابن الحنفية ج2 ص146 رقم /147.
(42) سورة الاحزاب: 72.
(43) نهج البلاغة محمّد عبده طبع مصر ج2 205 رقم /194.
(44) غاية المرام الباب السابع عشر ص491.
قال العلامة الطباطبايي (إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الاِْنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) ـ إلى قوله ـ (غَفُوراً رَّحِيماً) الأمانة ـ ايا ما كانت ـ شيء يودع عند الغير ليحتفظ عليه ثم يرده الى من أودعه، فهذه الأمانة المذكورة في الآية شيء ائتمن الله الانسان عليه ليحفظ على سلامته واستقامته ثم يرده اليه سبحانه كما أودعه، ويستفاد من قوله (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ) الخ، أنه أمر يترتب على حمله النفاق والشرك. والايمان. فينقسم حاملوه باختلاف كيفية حملهم إلى منافق ومشرك ومؤمن.
فهو لا محالة أمر مرتبط بالدين الحق الذين يحصل بالتلبس به وعدم التلبس به النفاق والشرك والايمان، فهل هو الاعتقاد الحق والشهادة على توحده تعالى، أو مجموع الاعتقاد والعمل بمعنى أخذ الدين الحق بتفاصيله مع الغض عن العمل به، أو التلبس بالعمل به أو الكمال الحاصل للإنسان من جهة التلبس بواحد من هذه الأمور؟ وليس هي الأول اعني التوحيد فان السماوات والأرض وغيرها من شيء توحده تعالى وتسبح بحمده، وقد قال تعالى: (وَإِن مِّن شَيْء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) أسرى: 44، والآية تصرح بابائها عنه، وليست هي الثاني أعني الدين الحق بتفاصيله فان الآية تصرح بحمل الانسان كائناً من كان من مؤمن وغيره له ومن البين ان أكثر من لا يؤمن لا يحمله ولا علم له به، وبهذا يظهر أنها ليست بالثالث وهو التلبس بالعمل بالدين الحق تفصيلا. وليست هي الكمال الحاصل له بالتلبس بالتوحيد فان السماوات والأرض وغيرهما ناطقة بالتوحيد فعلا متلبسة به وليست هي الكمال الحاصل من أخذ دين الحق والعلم به إذ لا يترتب على نفس الاعتقاد الحق والعلم بالتكاليف الدينية نفاق ولا شرك، ولا ايمان، ولا يستعقب سعادة ولا شقاء وانما يترتب الأثر على الالتزام بالاعتقاد الحق والتلبس بالعمل، فبقي أنها الكمال الحاصل له من جهة التلبس بالاعتقاد والعمل الصالح وسلوك سبيل الكمال بالارتقاء من حضيض المادة إلى اوج الاخلاص الذي هو أن يخلصه الله لنفسه فلا يشاركه فيه غيره فيتولى هو سبحانه تدبير أمره وهو الولاية الإلهية. فالمراد بالأمانة الولاية الإلهية وبعرضها على هذه الاشياء اعتبارها مقيسة اليها والمراد بحملها والإباء عنه وجود استعدادها وصلاحية التلبس بها وعدمه، وهذا المعنى هو القابل لأن ينطبق على الآية فالسماوات والأرض والجبال على ما فيها من العظمة والشدة والقوة فاقدة لاستعداد حصولها فيها وهو المراد بابائهن عن حملها واشفاقهن منها. لكن الانسان الظلوم الجهول لم يأب ولم يشفق من ثقلها وعظم خطرها فحملها على ما بها من الثقل وعظم الخطر فتعقب ذلك أن انقسم الانسان من جهة حفظ الامانة وعدمه بالخيانة إلى منافق ومشرك ومؤمن بخلاف السماوات والأرض والجبال فما منها الا مؤمن مطيع؟ فان قلت: ما بال الحكيم العليم حمل على هذا المخلوق الظلوم الجهول حملا لا يتحمله لثقله وعظم خطره، السماوات والأرض والجبال على عظمتها، وشدتها وقوتها، وهو يعلم أنه أضعف من أن يطيق حمله، وانما حمله على قبولها ظلمه وجهله، وأجرأه عليه غروره، وغفلته عن عواقب الأمور، فما تحميله الأمانة باستدعائه لها ظلماً، وجهلا، الاّ كتقليد مجنون ولاية عامة يأبى قبولها العقلاء ويشفقون منها يستدعيها المجنون لفساد عقله وعدم استقامة فكره. قلت: الظلم والجهل في الانسان وان كانا بوجه ملاك اللوم والعتاب فهما بعينهما مصحح حمله الأمانة والولاية الإلهية، فان الظلم والجهل انما يتصف بهما من كان من شأنه الاتصاف بالعدل والعلم، فالجبال مثلا لا تتصف بالظلم والجهل فلا يقال: جبل ظالم أو جاهل لعدم صحة اتصافه بالعدل والعلم، وكذلك السماوات والأرض لا يحمل عليها الظلم والجهل لعدم صحة اتصافها بالعدل والعلم بخلاف الانسان والأمانة المذكورة في الآية وهي الولاية الإلهية وكما صفة العبودية انما تتحصل بالعلم بالله والعمل الصالح الذي هو العدل وانما يتصف بهذين الوصفين أعني العلم والعدل الموضوع القابل للجهل والظلم فكون الانسان في حد نفسه وبحسب طبعه ظلوماً جهولا هو المصحح لحمل الأمانة الالهية. فافهم ذلك. فمعنى الآيتين يناظر بوجه معنى قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون)(التين: 6). فقوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ)اي الولاية الإلهية والاستكمال بحقائق الدين الحق علماً وعملا وعرضها هو اعتبارها مقيسة إلى هذه الاشياء. وقوله: (عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَالْجِبَالِ) اي هذه المخلوقات العظيمة التي خلقها أعظم من خلق الانسان كما قال: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (المؤمن: 75)، وقوله: (فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا)أباؤها عن حملها واشفاقها منها عدم اشتمالها على صلاحية التلبس وتجافيها عن قولها وفي التعبير بالحمل ايماء إلى أنها ثقلية ثقلا لا يحتملها السماوات والأرض والجبال. وقوله: (وَحَمَلَهَا الاِْنسَانُ) أي اشتمل على صلاحيتها والتهيؤ للتلبس بها على ضعفه وصغر حجمه (إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) أي ظالماً لنفسه جاهلا بما تعقبه هذه الأمانة لو خانها من وخيم العاقبة والهلاك الدائم. وبمعنى أدق لكون الانسان خالياً بحسب نفسه عن العدل والعلم قابلا للتلبس بما يفاض عليه من ذلك، والارتقاء من حضيض الظلم والجهل إلى أوج العدل والعلم. والظلوم والجهول وصفان من الظلم والجهل معناهما من كان من شأنه الظلم والجهل نظير قولنا: فرس شموس ودابة جموح وماء طهور أي من شأنها ذلك كما قاله الرازي أو معناهما المبالغة في الظلم والجهل كما ذكر غيره، والمعنى مستقيم كيفما كانا» (الميزان ج16 ص348).
(45) تأويل الآيات الظاهرة ص262 مخطوط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *