اجتماع الخوارج و مسير علي اليهم

اجتماع الخوارج و مسير علي اليهم:
قال المسعودي: «واجتمعت الخوارج في أربعة آلاف، فبايعوا عبدالله بن وهب الراسبي ولحقوا بالمدائن وقتلوا عبدالله بن خباب عامل علي عليها، ذبحوه ذبحا وبقروا بطن امرأته وكانت حاملا، وقتلوا غيرها من النساء، وقد كان علي انفصل عن الكوفة في خمسة وثلاثين الفاً، وأتاه من البصرة من قبل ابن عبّاس ـ وكان عامله عليها ـ عشرة آلاف فيهم الاتحنف بن قيس وحارثة بن قدامة السعدي، وذلك في سنة ثمان وثلاثين، فنزل على الأنبار والتأمت اليه العساكر، فخطب الناس وحرضهم على الجهاد، وقال: سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار قدماً، فانهم طالما سعوا في اطفاء نور الله وحرضوا على قتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن معه، ألا ان رسول الله امرني بقتال القاسطين وهم هؤلاء الذين سرنا اليهم، والناكثين وهم هؤلاء الذين فرغنا منهم، والمارقين ولم نلقهم بعد، فسيروا إلى القاسطين، فهم اهم علينا من الخوارج، سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين يتخذهم الناس أرباباً، ويتخذون عباد الله خولا ومالهم دولا، فأبوا الا ان يبدؤوا بالخوارج، فسار علي اليهم، حتى أتى النهروان، فبعث اليهم بالحارث بن مرة العبدي رسولا يدعوهم إلى الرجوع، فقتلوه، وبعثوا إلى علي: ان تبت من حكومتك وشهدت على نفسك بالكفر بايعناك، وان ابيت فاعتزلنا حتى نختار لأنفسنا اماماً فانا منك براء فبعث اليهم علي: ان ابعثوا الي بقتلة اخواني فاقتلهم ثم اتارككم إلى ان افرغ من قتال أهل المغرب ولعل الله يقلب قلوبكم، فبعثوا اليه: كلنا قتلة اصحابك وكلنا مستحل لدمائهم مشتركون في قتلهم واخبره الرسول ـ وكان من يهود السواد ـ ان القوم قد عبروا نهر طبرستان، وهذا النهر عليه قنطرة، تعرف بقنطرة طبرستان بين حلوان وبغداد، من بلاد خراسان، فقال علي: والله ما عبروه ولا يقطعونه حتى نقتلهم بالرميلة دونه، ثم تواترت عليه الأخبار بقطعهم لهذا النهر وعبورهم هذا الجسر، وهو يأبى ذلك ويحلف انهم لم يعبروه وأن مصارعهم دونه، ثم قال: سيروا إلى القوم، فوالله لا يفلت منهم الا عشرة ولا يقتل منكم الا عشرة، فسار علي، فاشرف عليهم، وقد عسكروا بالموضع المعروف بالرميلة على حسب ما قال لأصحابه فلما اشرف عليهم قال: الله أكبر، صدق (الله و) رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتصاف القوم ووقف عليهم بنفسه، فدعاهم إلى الرجوع والتوبة، فابوا ورموا اصحابه، فقيل له: قد رمونا فقال: كفوا، فكرروا القول عليه ثلاثاً وهو يأمرهم بالكف، حتى أتى برجل قتيل متشحط بدمه، فقال علي: الله أكبر، الآن حل قتالهم، احملوا على القوم، فحمل رجل من الخوارج على اصحاب علي فخرج فيهم، وجعل يغشى كل ناحية، ويقول:
أضربهم ولو أرى علياً *** ألبسته أبيض مشرَفيّا
فخرج اليه علي رضي الله عنه، وهو يقول:
يا ايَّهذا المبتغي علياً *** اني أراك جاهلا شقيّا
قد كنت عن كفاحه غنّياً *** هلّم فابرزها هنا اليّا
وحمل عليه عليٌ فقتله، ثم خرج منهم آخر، فحمل على الناس، ففتك فيهم وجعل يكر عليهم، وهو يقول:
أضربهم ولو أرى أبا حسن *** البسته بصارمي ثوب غَبَن
فخرج اليه علي وهو يقول:
يا أيّهذا المبتغى أبا حسن *** اليك فانظر أيّنا يلقى الغبن
وحمل عليه عليٌ وشكه بالرمح، وترك الرمح فيه، فانصرف علي وهو يقول: لقد رأيت أبا حسن فرأيت ما تكره وحمل أبو ايوب الأنصاري على زيد بن حصن فقتله، وقتل عبد الله بن وهب الراسبي، قتله هاني بن حاطب الأزدي، وزياد بن حفصصة، وقتل حرقوص بن زهير السعدي، وكان جملة من قتل من اصحاب علي تسعة ولم يفلت من الخوارج الا عشرة، وأتى عليٌ على القوم، وهم أربعة آلاف، فيهم المخدع [ذو الثدية] الا من ذكرنا من هؤلاء العشرة، وأمر علي بطلب المخدج، فطلبوه، فلم يقدروا عليه، فقام علي وعليه أثر الحزن، لفقد المخدج فانتهى إلى قتلى بعضهم فوق بعض، فقال: افرجوا، ففرجوا يميناً وشمالا واستخرجوه، فقال علي رضي الله عنه: الله أكبر، ما كذبت على محمّد، انه لناقص اليد، ليس فيها عظم، طرفها حلمة مثل ثدي المرأة عليها خمس شعرات أو سبع، رؤوسها معقفة، ثم قال: أئتوني به، فنظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة عليه شعرات سود إذا مدت اللحمة امتدت حتى تحاذي بطن يده الأخرى، ثم تترك فتعود إلى منكبه، فثنى رجله ونزل، وخر لله ساجداً.
ثم ركب ومر بهم وهم صرعى، فقال: لقد صرعكم من غركم، قيل: ومن غرهم؟ قال: الشيطان وانفس السوء(1)، فقال اصحابه: قد قطع الله دابرهم إلى آخر الدهر، فقال: كلا والذي نفسي بيده، وانهم لفي اصلاب الرجال وارحام النساء، لا تخرج خارجة الا خرجت بعد مثلها حتى تخرج خارجة بين الفرات ودجلة مع رجل يقال له الأشمط، يخرج اليه رجل منا أهل البيت فيقتله، ولا يخرج بعدها خارجة إلى يوم القيامة»(2).
ومن كلام لأمير المؤمنين عليه السّلام لما عزم على حرب الخوارج، وقيل له: ان القوم عبروا جسر النهروان «مصارعهم دون النطفة، والله لا يفلت منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة».
قال الشريف الرضي: «يعني بالنطفة ماء النهر، وهي أفصح كناية عن الماء وان كان كثيراً جماً»(3).
قال ابن الأثير: «ثم ان الخوارج قصدوا جسر النهر وكانوا غربه، فقال لعلي اصحابه: انهم قد عبروا النهر، فقال: لن يعبروا، فارسلوا طليعة فعاد وأخبرهم انهم عبروا النهر، وكان بينهم وبينه عطفة من النهر، فلخوف الطليعة منهم لم يقربهم فعاد فقال: انهم قد عبروا النهر، فقال علي عليه السّلام: والله ما عبروه وان مصارعهم لدون الجسر، ووالله لا يقتل منكم عشرة ولا يسلم منهم عشرة، وتقدم علي اليهم فرآهم عند الجسر لم يعبروه، وكان الناس قد شكوا في قوله وارتاب به بعضهم. فلما رأوا الخوارج لم يعبروا كبروا وأخبروا علياً بحالهم، فقال: والله ما كذبت ولا كذّبت»(4).
وروى ابن أبي الحديد عن أبي عبيدة: «استنطقهم علي عليه السّلام بقتل عبدالله بن خباب فأقروا به فقال: انفردوا كتائب لا سمع قولكم كتيبة كتيبة، فكتبوا كتائب، واقرت كل كتيبة بمثل ما اقرت به الأخرى، من قتل ابن خباب، وقالوا: ولنقتلنك كما قتلناه، فقال علي: والله لو أقر أهل الدنيا كلهم بقتله هكذا وأنا أقدر على قتلهم به لقتلتهم، ثم التفت إلى أصحابه، فقال لهم شدوا عليهم، فأنا أول من يشد عليهم، وحمل بذي الفقار حملة منكرة ثلاث مرات، كل حملة يضرب به حتى يعوج متنه ثم يخرج فيسويه بركبتيه، ثم يحمل به حتى افناهم»(5).
روى ابن المغازلي باسناده عن مسروق قال: «قالت عائشة يا مسروق انك من ولدي وانك من احبهم الي فهل عندك علم من المخدج؟ قال: قلت: نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه تامراً ولأسفله النهروان بين حقايق وطرفاء. قالت: أبغنى على ذلك بينة فأتيتها بخمسين رجلا من كل خمسين بعشرة ـ وكان الناس اذ ذاك أخماساً ـ يشهدون أن علياً عليه السّلام قتله على نهر يقال لأعلاه تامراً ولأسفله النهروان بين حقائق وطرفاء، فقلت: يا امّه. أسألك بالله وبحق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبحقي ـ فاني من ولدك ـ أيّ شيء سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول فيه؟ قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: هم شر الخلق والخليقة. يقتلهم خير الخلق والخليقة. وأقربهم عند الله وسيلة»(6).

(1) وفي الكامل في التاريخ ج3 ص348 أنه قال: «الشيطان وأنفسٌ أمّارة بالسوء غرّتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي ونبّأتهم أنهم ظاهرون».
(2) مروج الذهب ج2 ص415.
(3) نهج البلاغة ـ صبحي الصالح ص93.
(4) الكامل في التّاريخ ج3 ص345.
(5) شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج2 ص282.
(6) المناقب ص56 الحديث 79.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *