ردّ العذر

ردّ العذر
قال السيّد:
الأمر حقيقة في الوجوب، فلا يتبادر إلى الأذهان منه سواه، فحمله على الإستحباب مما لا يصح إلا بالقرينة، ولا قرينة في المقام على ذلك، بل القرائن تؤكد إرادة المعنى الحقيقي، أعني الوجوب، فأنعم النظر في تلك الأحاديث تجد الأمر كما قلناه، وحسبك قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السّهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه، فاقتلوهم هم شرّ البريّة. وقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: لو قتل ما اختلف من أمتي رجلان، فإن هذا الكلام ونحوه، لا يقال إلاّ في إيجاب قتله والحضّ الشديد على ذلك.
وإذا راجعت الحديث في مسند أحمد، تجد الأمر بقتله متوجّهاً إلى أبي بكر خاصّة ثم إلى عمر بالخصوص، فكيف ـ والحال هذه ـ يكون الوجوب كفائياً.
على أن الأحاديث صريحة بأنهما لم يحجما عن قتله إلا كراهة أن يقتلاه وهو على تلك الحال من التخشع في الصلاة، لا لشيء آخر، فلم يطيبا نفساً بما طابت به نفس النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولم يرجّحا ما أمرهما به من قتله، فالقضيّة من الشواهد على أنهم كانوا يؤثرون العمل برأيهم على التعبّد بنصه، كما ترى(1).

فقيل:
لقد أظهرت لنا المراجعة رقم 93 أن البشري قد شبع من طول الحديث في سرية أسامة، وفي رزية يوم الخميس، لأن الحق فيهما قد وضح لكلّ ذي عينين.
ولهذا طلب من الموسوي الاكتفاء بما قيل فيهما، والتحدّث بغيرهما من الموارد التي تورد الموسوي إلى النار.
فيستجيب الموسوي لهذه الدعوة ويورد حديثاً في مسند الامام أحمد، ثم يتّخذه بعد ذلك وسيلة طعن بالصحابة رضي اللّه عنهم، بتأويلات لا تستقيم مع اللغة، ولا العقل، ولا الشرع.
وهذا نصّ الحديث ـ كما جاء في مسند الامام أحمد ـ عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه: أن أبا بكر رضي اللّه عنه جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول اللّه إني مررت بواد كذا وكذا، فإذا رجل متخشع حسن الهيئة يصلّي، فقال له النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم: إذهب فاقتله، قال: فذهب إليه أبو بكر فلما رآه على هذه الحال كره أن يقتله، فرجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم قال: فقال النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم لعمر: إذهب فاقتله، فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر، قال: فكره أن يقتله، قال: فرجع، فقال: يا رسول اللّه إني رأيته يصلّي متخشعاً فكرهت أن أقتله، قال: يا علي، إذهب فاقتله، قال: فذهب علي فلم يره، فرجع علي فقال: يا رسول اللّه إنه لم يره، قال: فقال النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم: إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، حتى يعود السهم في فوقه، فاقتلوهم هم شرّ البرية.
انظر بعد ذلك: كيف أبعد الموسوي النجعة عندما استدلّ بهذا الحديث على أن أبا بكر وعمر كانوا لا يمتثلون أوامر النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ولا يتعبدون اللّه بها، ويقدّمون آراءهم عليها. وهذه هي الحقيقة التي أراد أن يؤكدها الموسوي في مراجعاته المتقدمة واللاحقة، ليخلص بعد ذلك كله إلى القول: بأنهما أنكرا وصية النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم لعلي بالإمامة، متأوّلين تلك النصوص، مقدّمين آراءهم عليها، كما كانا يفعلان في كلّ ما يؤمران به.
والحق أنهما ـ رضي اللّه عنهما ـ كانا من أشدّ الصحابة تمسّكاً بهدي المصطفى صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، وهذه حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، فكتب السنّة بأكملها ناطقة بذلك، ولولا هذا لما كانوا من أقرب الناس وأحبّهم إلى النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، ولما كان يقدّمهم على غيرهم في أكثر الأُمور، ولما كان يستشيرهم في كثير من المواقف، ولما يشهد بفضلهم، ولما بشّرهم بالجنّة، ولولا هذا ما أقرّ لهم الصحابة بالفضل وعلوّ المنزلة، وبما فيهم العترة الطاهرة وفي مقدّمتهم علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
ثم إن هذا الحديث ليس فيه ما يسعف الموسوي وينهض بمدّعاه على الإطلاق.
أما قوله: إن أمر النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم لهما بالقتل كان للوجوب، فغير صحيح من عدّة وجوه:
1 ـ ليس كلّ أمر يقتضي الوجوب وإن كان الوجوب أصلاً فيه، ولكن الأمر ينصرف عن مقتضاه، كالندب والإباحة، بصوارف، وقد وجدت هنا في هذا الحديث.
منها: أن النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم لم ينكر على أحد منهما عدم قتله يوم أن رجعا غير ممتثلين للأمر، فلو كان الأمر للوجوب لأنكر عليهما، وشدد النكير، فدلّ هذا على أن أمره لهما كان ندباً منه لقتله.
ومنها: أن الرجل ما أظهر ما يوجب قتله، بل العكس من ذلك، فإنه كان يصلّي للّه متخشّعاً.
ومنها: عدم وضوح الحكمة من قتله وهو على هذه الحال، وإن كان الحديث قد أوضحها فإن ذلك كان بعد الأمر لا قبله.
ومنها: ترك الرجل وعدم البحث عنه، وعدم الأمر بملاحقته وقتله بعد أن لم يجده علي رضي اللّه عنه، فدلّ هذا على أن قتله لم يكن واجباً.
2 ـ إن حصر الموسوي للأمر في الحديث على الوجوب يتعارض مع مذهبه في هذا، فقد نص المرتضى في (الدرر والغرر) على أن الأمر ليس مختصاً بالوجوب. انظر مختصر التحفة الاثني عشرية: 240.

أقول:
كأنّ هذا المفتري لا يفهم ما يقول….
إنّ المقصود هو الاستشهاد بهذه القضية على عدم تعبّد القوم بالنسبة إلى أوامر النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ونواهيه، فيدّعي هذا الرجل قيام قرائن على عدم دلالة هذا الأمر على الوجوب فيقول:
منها: إن النبي لم ينكر على أحد منهما عدم قتله.
والحال أنّ الواجب عليهما هو الامتثال، أمّا أنّ النبي لم ينكر عليهما عدم الامتثال فذاك أمر آخر، وهل كانا يعلمان بأنه سوف لا ينكر عليهما ذلك؟
ومنها: إن الرجل ما أظهر ما يوجب قتله بل العكس….
وهذا أقبح من سابقه، فكأنّ الرّجل يزعم أنهما قد أحسنا، وكان أمر النبي بقتله في غير محلّه.
ومنها: عدم وضوح الحكمة….
وهذا كذلك، فكأنه يزعم عدم وجوب امتثال أوامر النبي إلاّ إذا علم وجه الحكمة فيه!
ومنها: ترك الرجل وعدم البحث عنه….
وهذا كذلك، فإنّ المقصود إثبات أنهما قد عصيا أمر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.
وأمّا قوله: إنّ حصر الموسوي للأمر….
فهذا الكلام قد أخذه من صاحب مختصر التحفة الاثني عشرية بلا مراجعة وتدبّر، لأنّ الشريف المرتضى الموسوي علم الهدى ـ رحمه اللّه ـ روى خبر أمر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله عليّاً بقتل ابن عمّ مارية القبطيّة ـ رضي اللّه عنها ـ وقد جاء فيه عن الإمام عليه السلام: «قلت: يا رسول اللّه، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكّة المحماة أمضي لما أمرتني أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال لي النبي: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب».
ثم قال رحمه اللّه: «في هذا الخبر أحكام وغريب، ونحن نبدأ بأحكامه ثم نتلوها بغريبه» فقال: «فأمّا قوله: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب» فإنما عنى به رؤية العلم لا رؤية البصر، لأنه لا معنى في هذا الموضع لرؤية البصر، فكأنه ـ عليه وآله السلام ـ قال: بل الشاهد يعلم ويصحّ له من وجه الرأي والتدبير ما لا يصح للغائب، ولو لم يقل ذلك لوجب قتل الرجل على كلّ حال، وإنما جاز منه عليه الصّلاة والسلام أن يخيّر بين قتله والكفّ عنه ويفوّض في ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام، من حيث لم يكن قتله من الحدود والحقوق التي لا يجوز العفو عنها ولا يسع إلاّ إقامتها، لأن ناقض العهد ممّن إلى الإمام القائم بأمر المسلمين إذا قدر عليه قبل التوبة أن يقتله أو أن يمنّ عليه. ومما فيه أيضاً من الأحكام: اقتضاؤه أنّ مجرّد أمر الرسول لا يقتضي الوجوب، لأنّه لو اقتضى ذلك لما حسنت مراجعته ولا استفهامه، وفي حسنها ووقوعها موقعها دلالة على أنّها لا تقتضي ذلك»(2).
فهذا كلام السيد المرتضى رحمه اللّه بشرح سؤال الإمام عليه السلام: «يا رسول اللّه أكون في أمرك…» قائلاً: «لو لم يقل ذلك لوجب قتل الرجل على كلّ حال» إذن، قد يكون الأمر الصادر من النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لغير الوجوب ـ فمجرّده أمره لا يقتضي الوجوب ـ إلاّ أن ذلك لا يفهم إلاّ بالمراجعة والاستفهام كما فعل الامام.
وفي قضية أمر النبيّ بقتل المارق، لو كان الشيخان في شك من أنّه أمر وجوبي أو لا، لكان عليهما المراجعة والإستفهام، لكنهما لم يفعلا ذلك، ولم يدّعيا وجود الشك عندهما من الأمر، بل اعتذرا بكون المارق متخشّعاً حسن الهيئة يصلّي، فكرها قتله على هذه الحال، وهذا هو محلّ الكلام والإشكال.
فكم فرق بين هذه القضية التي ذكرها السيّد في هذا المقام، وتلك القضية التي ذكر فيها السيد المرتضى ذلك الكلام؟!

(1) المراجعات: 264.
(2) غرر الفوائد ودرر القلائد = أمالي السيد المرتضى 1 : 77.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *