مخاصماتها مع النبي

مخاصماتها مع النبي
أقول:
روى الغزالي في آداب المعاشرة من كتاب (الاحياء) قال: «جرى بينه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم وبين عائشة كلام، حتى أدخلا بينهما أبابكر ـ رضي اللّه عنه ـ حكماً واستشهده، فقال رسول اللّه: تكلَّمين أو أتكلّم؟ فقالت: بل تكلّم أنت ولا تقل إلاّ حقاً، فلطمها أبو بكر حتى دُمي فوها وقال: يا عديّة نفسها، أو يقول غير الحق! فاستجارت برسول اللّه وقعدت خلف ظهره، فقال له النبيّ: لم ندعك لهذا ولا أردنا منك هذا»(1).
فقال الزين العراقي في تخريجه: «أخرجه الطبراني في الأوسط والخطيب في التاريخ، من حديث عائشة بسند ضعيف»(2).
وقد أخذ المفتري هذا الكلام فذكره من دون أن ينسبه إلى الزين العراقي! ولم يبيّن سبب الضعف! لكنّ الغزالي أورده مرسلاً إيّاه إرسال المسلّم الثابت.
وقد روى الحافظ أبو بكر ابن أبي الدنيا، فقال: «حدثنا عبيداللّه بن جرير أبو العبّاس، حدثنا أبو معمر عبداللّه بن عمرو، حدثنا عبدالوارث بن سعيد، حدثنا محمد بن الزبير الحنظلي، عن عمر بن عبدالعزيز قال: كان بين النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم وبين عائشة بعض عتاب…» ثم قال: «فيه محمد بن الزبير الحنظلي، وبقية رجاله ثقات»(3).
قلت: ترجم ابن عدي «محمد بن الزبير الحنظلي» وروى قائلاً: «أخبرنا نصر بن القاسم الفارض، ثنا محمد بن إسماعيل الخشوعي، ثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، ثنا عبدالوارث بن سعيد العنبري، ثنا محمد بن الزبير الحنظلي قال: سمعت عمر بن عبدالعزيز يقول: ثنا عروة بن الزبير قال: حدثتني عائشة أُم المؤمنين أنه كان بينها وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] كلام، فقال لها: بمن ترضين بيني وبينك؟» فذكر الحديث.
قال الشيخ: وهذا لم نكتبه إلاّ عن أبي الليث الفارض بهذا الإسناد.
ولمحمد بن الزبير الحنظلي غير ما ذكرت من الحديث، وحديثه قليل، والذي يرويه غرائب وإفرادات»(4).

أقول:
أولاً: هذا الرجل من رجال سنن النسائي الذي قالوا بأنّ شرطه أشدّ من شرط البخاري ومسلم، وأخرج عنه أبو داود في المراسيل.
وثانياً: لم يورد ابن عدي الحديث بكامله، والسبب معلوم!
وكذلك فَعلَ الطبراني، إذ رواه قائلاً: «حدثنا عباد بن سعيد الجعفي الكوفي، قال حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي البهلول قال: حدثنا صالح بن أبي الأسود، عن الأعمش، عن مسلم أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: كان بيني وبين النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم كلام، فقال: أجعل بيني وبينك عمر؟ فقلت: لا، فقال: أجعل بيني وبينك أباك؟ قلت: نعم.
لم يرو هذا الحديث عن الأعمش إلاّ صالح بن أبي الأسود»(5).
وأخرجه الخطيب بصورة كاملة وهذا لفظه: «أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، حدثنا أبو القاسم عمر بن عبدالعزيز بن دينار ـ إملاءً ـ حدثنا محمد بن أحمد بن أبي العوام الرياحي، حدثنا أبي أبو العوام، حدثنا حفص بن عمر أبو عمر العمري، حدثنا مبارك بن فضالة قال حدثني عبيداللّه بن عمر عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت:
كان بيني وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم كلام فقال: بمن ترضين أن يكون بيني وبينك؟ أترضين بأبي عبيدة بن الجراح؟ قلت: لا، ذاك رجل ليّن يقضي لك عليَّ. قال: أترضين بعمر بن الخطاب؟ قلت: لا، إني لأفرق من عمر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم: والشيطان يفرق منه. فقال: أترضين بأبي بكر؟ قلت: نعم، فبعث إليه فجاء، فقال رسول اللّه: إقض بيني وبين هذه، قال: أنا يا رسول اللّه؟ قال: نعم.
فتكلّم رسول اللّه.
فقلت له: أقصد يا رسول اللّه.
قالت: فرفع أبو بكر يده فلطم وجهي لطمةً بدر منها أنفي ومنخراي دماً وقال: لا أُمّ لك، فمن يقصد إذا لم يقصد رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم.
فقال صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم: ما أردنا هذا، وقام فَغَسل الدم عن وجهي وثوبي بيده»(6).
ورواه الديلمي أيضاً كما في كنز العمال: «عن عائشة: أنها خاصمت النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم إلى أبي بكر، فقالت: يا رسول اللّه اقصد. فلطم أبو بكر خدّها وقال: تقولين لرسول اللّه اقصد! وجعل الدم يسيل من أنفها على ثيابها ورسول اللّه يغسل الدم من ثيابها بيده ويقول: إنا لم نرد هذا، إنا لم نرد هذا»(7).

تنبيه:
وقد ورد نظير هذا في حفصة أيضاً!!
قال الحلبي: «جاء عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ في سبب اعتزاله صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم لنسائه في المشربة: أنه شجر بين النبي وبين حفصة أمر، فقال لها: اجعلي بيني وبينك رجلاً! قالت: نعم، قال: فأبوك إذن. فأرسلت إلى عمر، فجاء، فلما دخل عليهما قال لها النبي: تكلّمي. فقالت: بل أنت يا رسول اللّه تكلَّم ولا تقل إلاّ حقّاً. فرفع عمر يده فوجأها في وجهها، فقال له النبي: كف يا عمر. فقال عمر: يا عدّوة اللّه، النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم لا يقول إلاّ الحقَّ، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي.
فقام رسول اللّه إلى الغرفة، فمكث فيها شهراً لا يعرف شيئاً من نسائه، ونزلت آية التخيير»(8).

قيل:
6 ـ أما قوله: وقالت له مرّة في كلام غضبت عنده: أنت الذي تزعم أنك نبي اللّه… إلى آخره، فهو قول مردود من وجهتين:
الأول: سند تلك الرواية ضعيف، وفيه ابن إسحاق وقد عنعنه، والحديث رواه أبو يعلى في مسنده، وأبو الشيخ في كتاب الأمثال. انظر الإحياء 2 : 44.
الثاني: إن مثل هذا الكلام لا يصح أن يصدر من مسلم في عموم الأحوال، في الغضب وغير الغضب، لما فيه من شك في رسالة النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، وعائشة أعلم الناس بهذا الأمر، فكيف يتأتى منها مثل هذا الكلام؟!! تنبه لهذا أخي المسلم.

أقول:
وهذا أيضاً أرسله الغزالي إرسال المسلّم إذ قال: «وقالت له مرةً ـ في كلام غضبت عنده ـ أنت الذي تزعم أنك نبي اللّه، فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم واحتمل ذلك حلماً وكرماً»(9).
فجاء في تخريجه للزين العراقي: «أخرجه أبو يعلى في مسنده وأبو الشيخ في كتاب الأمثال، من حديث عائشة. وفيه ابن إسحاق وقد عنعنه»(10).
فأخذ المفتري هذا الكلام وأورده من دون أن ينسبه إلى قائله!
لكنّ الزين العراقي ـ وهو الحافظ الكبير المعتمد عندهم ـ قد دلّس في كلامه المذكور، فإنّ الناظر فيه يتوهّم كون «ابن إسحاق» في سند مسند أبي يعلى وكتاب الأمثال معاً، والحال أنّ الحافظ الهيثمي قد صرّح بوجود «ابن إسحاق» في طريق أبي يعلى، وأمّا كتاب الأمثال فقال: «ليس فيه غير أُسامة بن زيد الليثي وهو من رجال الصحيح وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات» ولنذكر القصّة وكلامه بالنص الكامل:
«وعن عائشة إنها قالت: وكان متاعي فيه خف وكان على جمل ناج، وكان متاع صفية فيه ثقل وكان على جمل ثفال بطيء يبطئ بالركب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] حوّلوا متاب عائشة على جمل صفية، وحوّلوا متاع صفية على جمل عائشة حتى يمضي الركب. قالت عائشة: فلما رأيت ذلك قلت: يا لعباد اللّه، غلبتنا هذه اليهودية على رسول اللّه. قالت: فقال رسول اللّه: إن متاعك كان فيه خف وكان متاع صفية فيه ثقل فأبطأ بالركب، فحوّلنا متاعها على بعيرك وحوّلنا متاعك بعيرها، قالت: فقلت: ألست تزعم أنك رسول اللّه، قالت: فتبسّم فقال: أو في شكّ أنت يا أُم عبداللّه؟ قالت قلت: ألست تزعم أنك رسول اللّه فهلاّ عدلت!
وسمعني أبو بكر ـ وكان فيه غرب، أي حدّة ـ فأقبل عليَّ ولطم وجهي.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله]: مهلاً يا أبا بكر.
فقال: يا رسول اللّه، أما سمعت ما قالت.
فقال رسول اللّه: إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه.
رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن إسحاق، وهو مدلّس، وسلمة بن الفضل، وقد وثّقه جماعة: ابن معين وابن حبان وأبو حاتم، وضعفه جماعة، وبقيّة رجاله رجال الصحيح.
وقد رواه أبو الشيخ بن حيان في كتاب الأمثال، وليس فيه غير اسامة بن زيد الليثي وهو من رجال الصحيح وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات»(11).

أقول:
أمّا «محمد بن إسحاق» فالكلام فيه بينهم طويل جدّاً، وقد ذكر الحافظ ابن سيّد الناس في مقدمة سيرته توثيقاته، ثم أورد ما قيل فيه من التدليس وغيره، وأجاب عن ذلك بالتفصيل.
وأمّا «سلمة بن الفضل» فمن رجال أبي داود والترمذي وابن ماجة في التفسير.
هذا، لكنّ المهم هو سند أبي الشيخ، فقد ذكر أنّه ليس فيه غير «أُسامة بن زيد الليثي» قال: «وهو من رجال الصحيح» أي: هو من رجال البخاري ـ في التعاليق ـ ومسلم والأربعة…(12).
ورواه الصالحي الدمشقي، قال: «وروى أبو يعلى بسند لا بأس به وأبو الشيخ بن حيان بسند جيّد قويّ عن عائشة… (قال): «ورواه الإمام أحمد بسند لا بأس به عن صفيّة»(13).
ثم قال هذا المفتري:
إن مثل هذا الكلام لا يصح أن يصدر من مسلم في عموم الأحوال، في الغضب وغير الغضب….

أقول:
ونحن أيضاً نقول هذا. فتأمّل.

قيل:
ثانياً: أما تحسين العقل وتقبيحه والتي أنكرها الشيخ البشري بما جاء على لسانه في المراجعة (75) والتي أيّدها الموسوي في المراجعة (76) وعاب فيها على الشيخ البشري إنكاره لهذه المسألة، واتّهمه بالسفسطة. فالنزاع فيها مشهور وقديم، والتحقيق أن الناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال طرفان، ووسط.
وقبل الشروع ببيان تلك الأقوال، وبيان الحق فيها، فلابدّ من تحرير المناط فنقول وباللّه التوفيق: إن كلاًّ من الحسن والقبح يطلقان على ثلاثة معان هي:
1 ـ الحُسْن بمعنى كمال الشيء وتمامه كالعلم مثلاً، والقُبْح بمعنى النقصان وعدم التمام كالجهل مثلاً.
2 ـ الحُسْن بمعنى ملاءمة الشيء للطبع وموافقته له كالعدل مثلاً، والقُبْح بمعنى منافرة الشيء للطبع وعدم موافقته له كالظلم مثلاً. والحُسْن والقُبْح بالمعنيين السابقين لا نزاع لأحد في كونهما عقليين. وإنما النزاع في كونهما عقليين أو شرعيين بالمعنى الثالث فقط وهو:
3 ـ الحُسْن بمعنى استحقاق الشيء للمدح والثواب عليه، والقُبْح بمعنى استحقاق الشيء للذم والعقاب عليه عاجلاً أو آجلا
وهذا هو المفهوم الذي فيه النزاع وكان الناس فيه طرفان ووسط كما سبق القول، وبيان ذلك:
1 ـ الطرف الأول: الأشاعرة، ويقولون: إن الحُسْنَ والقُبْح بالمعنى الثالث والذي سبق بيانه شرعيان لا عقليان، بمعنى أنه لا يوصف فعل بالحسن إلاّ إذا ورد في الشرع ما يدل على أنه حسن، أي يستحق فاعله المدح والثواب عاجلاً أو آجلاً، ولا يوصف فعل بالقبح إلاّ إذا ورد في الشرع ما يدل على أنه قبيح، أي يستحق فاعله الذم والعقاب عاجلاً أم آجلاً.
وبهذا المعنى قالوا: ليس للعقل حكم في حسن الأفعال وقبحها، وفي كون الفعل سبباً للثواب والعقاب، بل إن الحَسن ما حسَّنه الشرع، والقبيح ما قبّحه الشرع، والأمر والنهي أمارة موجبة للحُسْن والقُبح لا غيره، وأن الأفعال لا تشتمل على علل ولا حكم، ولا صفات. وأن اللّه يأمر بالشيء لمحض إرادته لا لحكمة ولا لمصلحة، ولا يخفى على مسلم عنده شيء من العلم ضعف هذا القول ومخالفته للكتاب والسنة والاجماع، والعقل لم يترتب عليه من الأُصول الفاسدة، إذ أجازوا على اللّه أن يأمر بما هو قبيح في العقل وقالوا: إلغاء دور العقل أسلم من نسبة القبح إلى الشرع، ومثلوا لذلك: بذبح الحيوان، فإنه إيلام له بلا ذنب وهو قبيح في العقل ومع ذلك أباحه الشرع. ولقد كان موقفهم هذا رد فعل لقول البراهمة والمعتزلة ومن وافقهم من الإمامية.
قال الشيخ سفر بن عبدالرحمن في مذكرته منهج الأشاعرة في العقيدة: كان البراهمة يحرّمون أكل الحيوانات، فلما عجزوا ـ أي الأشاعرة ـ عن رَدّ شبهتهم ووافقوهم عليها أنكروا حكم العقل من أصله، وتوهّموا أنهم بهذا يدافعون عن الاسلام.
وقال ابن تيمية ـ رحمه اللّه ـ في أصحاب هذا الرأي: وأما الطرف الآخر في مسألة (التحسين والتقبيح) فهو قول من يقول: إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام، وعلى صفات هي علل للأحكام، بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر، لمحض الإرادة، لا لحكمة ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر، ويقولون: إنه يجوز أن يأمر اللّه بالشرك باللّه وينهى عن عبادته وحده، ويجوز أن يأمر بالظلم والفواحش، وينهى عن البرّ والتقوى، والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط، وليس المعروف في نفسه معروفاً عندهم، ولا المنكر في نفسه منكراً عندهم.
ثم قال رحمه اللّه: فهذا القول ولوازمه هو أيضاً قول ضعيف مخالف للكتاب والسنّة، ولإجماع السلف والفقهاء، مع مخالفته أيضاً للمعقول والصريح، فإن اللّه نزه نفسه عن الفحشاء فقال: (إن اللّه لا يأمر بالفحشاء) والفقهاء وجمهور المسلمين يقولون: اللّه حرّم المحرمات فحرمت، وأوجب الواجبات فوجبت، ومعنى ذلك أن هناك إيجاب وتحريم من اللّه، وذلك بكلامه وخطابه، وهناك وجوب وحرمة وذلك صفة للفعل نفسه، واللّه تعالى عليم حكيم، علم بما تضمنته الأحكام من المصالح فأمر ونهى، لعلمه بما في الأمر والنهي والمأمور والمحظور من مصالح العباد ومفاسدهم، فأثبت سبحانه وتعالى حكم الفعل بالخطاب، وأما صفة الفعل فقد تكون ثابتة بدون الخطاب. أهـ بتصرف، الفتاوى 8 : 423.
2 ـ الطرف الثاني: المعتزلة، والبراهمة، والرافضة ومن تبعهم:
يقولون: إن الحُسْن والقبح عقليان لا شرعيان، أي أن الأفعال في نفسها ـ مع قطع النظر عن الشرع ـ فيها جهة حُسن أو قبح تقتضي مدح فاعله وثوابه. أو ذمه وعقابه، والحسن أو القبح أمران ملازمان للفعل، واختلفوا فيما بينهم فقال بعضهم: إن حسن الأفعال إنما هو لصفة زائدة على الذات دونها، وهم جميعاً متفقون على أن الشرع ما هو إلاّ كاشف لصفة الحُسْن والقبح فقط، وأن كل ما استحسنه العقل فهو عند اللّه حسن، وكلّ ما استقبحه العقل فهو عند اللّه قبيح.
ولا يخفى بطلان هذا القول لما يترتب عليه من الأُصول الفاسدة، كتأليه العقل وجعله حكماً على الشرع من ثمّ استبداد العقل في هذا الجانب، وتعطيل النصوص الشرعيّة أو جحودها بحجة معارضتها للعقل وإنكار بعض المعجزات أو الغيبيات، وتأويل الأسماء والصفات أو بعضها، وإنكار القدر، ونفيه، تحكيماً للعقل.
ونقول لأصحاب هذا المذهب عموماً وللرافضة منهم خاصة: إن مذهبكم مخالف للكتاب والعترة.
أما مخالفته للكتاب، فلقوله تعالى: (إن الحكم إلا للّه) ولقوله: (ألا له الحكم)ولقوله: (لا معقّب لحكمه) ولقوله: (يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد) فتلك آيات جعلت الحاكم على الفعل بالحُسْن أو القُبْح ـ بمعنى استحقاق فاعله للمدح والثواب، أو للذم والعقاب ـ هو اللّه سبحانه وتعالى، بخلاف ما آمنتم به، وأصلتموه في كتبكم.
كما أن مذهبكم هذا يتعارض مع قوله تعالى: (وما كنّا معذّبين حتى نبعث رسولاً)ووجه ذلك أن الآية قررت أن الثواب والعقاب إنما يكون بعد إرسال الرسل، على حين أن من مستلزمات مذهبهم أن الثواب والعقاب واجب بحكم العقل سواء بعث رسول أم لم يبعث، فلو صحّ ذلك للزم العذاب بترك الواجب قبل بعثة الرسل، ولا يخفى تعارض ذلك مع الآية ومع ما حكاه القرآن من قصص الأنبياء مع أممهم.
وأما مخالفة مذهبهم للعترة فواضح فما(14) رواه الكليني أحد أعلامهم في كتاب الكافي أصح كتبهم والذي يعتبرونه بمثابة صحيح البخاري عند أهل السنة، روى فيه عن الإمام أبي عبداللّه أنه قال: «ليس للّه على خلفه أن يعرفوه، ولا للخلق على اللّه تعالى أن يعرِّفهم»، فلو كانت المعرفة واجبة بحكم العقل لكانت معرفة اللّه تعالى واجبة على الخلق قبل تعريفه جلَّ شأنه، وهو خلاف قول الصادق. مختصر التحفة الاثني عشرية، ص 70، ط. استانبول.
3 ـ أما الرأي الوسط الذي بين الطرفين السابقين، فهو ما عليه أهل السنة وهو الحق، وبيان ذلك: أنه لا يحكم على الفعل بالحسن أو القبح بمعنى أنه مستحق للثواب أو العقاب إلاّ بعد أن يأمر به الشرع، حتى وإن كان الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة بحكم العقل كالعدل والظلم مثلاً.
وإن الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً واكتسب الفعل صفة الحُسن أو القبح بخطاب الشارع، ولو لم تظهر للعقل فيه مصلحة أو مفسدة.
وأن الشارع قد يأمر بالشيء امتحاناً للعبد فقط هل يطيع أم يعصي، ولا يكون المراد فعل المأمور، كما أمر اللّه إبراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل، فلما أسلما وتله للجبين حصل المقصود، ففداه اللّه بذبح عظيم. فالحكم في هذه الحالة في الأمر لا في المأمور به.
قال ابن تيمية رحمه اللّه مبيناً عقيدة أهل السنة في مسألة التحسين والتقبيح بحكم العقل، قال: وقد ثبت والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الشرع بذلك كالعدل، فإنه مشتمل على مصلحة العالم والظلم فإنه يشتمل على فسادهم، فهذا النوع حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك لأنه أثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث اللّه إليهم رسولاً، وهذا خلاف قوله تعالى: (وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً).
ثانيها: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسناً وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحُسْن والقُبْح بخطاب الشارع.
ثالثها: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد، هل يطيع أم يعصي، ولا يكون المراد فعل المأمور به كما أمر إبراهيم بذبح ابنه، فلما أسلما وتلّه للجبين حصل المقصود بالذبح، وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، لما بعث اللّه إليهم من سألهم الصدقة، فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضي عنك، وسخط على صاحبيك.
فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به ـ وهذا النوع والذي قبله ـ لم يفهمه المعتزلة والرافضة ومن تبعهم في هذا الأمر، إذ زعموا أن الحسن والقبح لا يكون إلاّ لما هو متصف بذلك، بدون أمر الشارع.
ثم قال رحمه اللّه تعالى: والأشعرية ادّعوا: أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأنّ الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع، وأما الحكماء والجمهور فقد أثبتوا الأقسام الثلاثة وهو الصواب. عن الفتاوى بشيء من التصرف 8 : 445.

(1) إحياء علوم الدين 2 : 43.
(2) تخريج أحاديث احياء علوم الدين. ط مع الاحياء 2 : 43.
(3) كتاب العيال 2 : 761.
(4) الكامل في الضعفاء 7 : 422.
(5) المعجم الأوسط 5 : 241 / 4879.
(6) تاريخ بغداد 11 : 240.
(7) كنز العمال 13 : 696 برقم 37782.
(8) السيرة الحلبية 3 : 317.
(9) إحياء علوم الدين 2 : 43.
(10) المغني عن حمل الأسفار في تخريج أحاديث الاحياء. ط مع الاحياء 2 : 43.
(11) مجمع الزوائد 4 : 322.
(12) تقريب التهذيب 1 : 53.
(13) سبل الهدى والرشاد 9 : 71.
(14) كذا، والصحيح: ممّا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *