يوم زفّت أسماء بنت النعمان إلى النبيّ

يوم زفّت أسماء بنت النعمان إلى النبيّ
أقول:
أخرج الحاكم عن محمد بن عمر الواقدي «قال: وذكر هشام بن محمد أنّ ابن الغسيل حدّثه عن حمزة بن أبي اسيد الساعدي عن أبيه ـ وكان بدريّاً ـ قال: تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أسماء بنت النعمان الجونيّة، فأرسلني فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة: اخضبيها أنت وأنا أُمشّطها، ففعلتا، ثم قالت لها احداهما: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يعجبه من المرأه ـ إذا دخلت عليه ـ أن تقول: اعوذ باللّه منك. فلما دخلت عليه وأغلق الباب وأرخى الستر مدّ يده إليها، فقالت: أعوذ باللّه منك. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بكمّه على وجهه فاستتر به وقال: عذت بمعاذ ـ ثلاث مرات ـ قال أبو اسيد: ثم خرج إليّ فقال: يا أبا اسيد، ألحقها بأهلها، ومتّعها برازقيين ـ يعني كرباسين ـ. فكانت تقول: ادعوني الشقية. (قال ابن عمر) قال هشام بن محمد: فحدّثني زهير بن معاوية الجعفي أنها ماتت كمداً»(1).
وقد رواه قبل الحاكم: ابن سعد ـ وهو كاتب الواقدي ـ لكن لا بواسطة الواقدي، وإنّما عن هشام مباشرة فقال: «أخبرنا هشام بن محمد، حدثني ابن الغسيل، عن حمزة بن أبي اسيد الساعدي، عن أبيه ـ وكان بدريّاً ـ قال: تزوّج رسول اللّه أسماء بنت النعمان الجونيّة، فأرسلني فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة أو عائشة لحفصة…»(2).
وقال الحافظ ابن حجر: «وأخرج ابن سعد، عن هشام بن محمّد ـ وهو ابن الكلبي ـ عن ابن الغسيل، الذي أخرجه البخاري، وزاد فيه: فقالت حفصة لعائشة أو عائشة لحفصة….
ومن طريق عمر بن الحكيم، عن أبي أُسيد ـ في هذه القصة ـ: «فقلت: يا رسول اللّه، قد جئتك بأهلك. فخرج يمشي وأنا معه، فلما أتاها أقعى وأهوى ليقبّلها ـ وكان يفعل ذلك إذا اختلى النساء ـ فقالت: أعوذ باللّه منك… الحديث، وفيه: موسى بن عبيدة، وهو ضعيف»(3).
أقول: لقد سعوا بشتّى الطرق وراء التعتيم على هذه المؤامرة، محاولين التستّر على تلك الخديعة الكبيرة والخيانة القبيحة، وإليك بعض التوضيح في نقاط:
1 ـ إن البخاري قد أخرج القصّة في كتابه، لكنّه بَتَرها فلم يذكر القصة بكاملها.
2 ـ إنّهم قد ذكروا في سبب فراقه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لها أسباباً عديدة، قال ابن عبدالبر: «أجمعوا على أنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله تزوّج الجونية، واختلفوا في قصّة فراقه…»(4).
وقال ابن كثير: «وقال محمّد بن سعد عن الواقدي: حدثني أبو معشر قال: تزوّج رسول اللّه مليكة بنت كعب ـ وكانت تذكر بجمال بارع ـ فدخلت عليها عائشة فقالت: ألا تستحين أن تنكحي قاتل أبيك؟ فاستعاذت منه، فطلّقها. فجاء قومها فقالوا: يا رسول اللّه، إنها صغيرة ولا رأي لها، وإنّها خدعت فارتجعها. فأبى»(5).
3 ـ إنهم ـ كما ذكروا أسباباً عديدةً للفراق ـ اختلفوا في اسم صاحبة القصّة، قال ابن حجر: «حديث عائشة إنّ ابنة الجون استعاذت. هي أُميمة بنت النعمان بن شراحيل، كما عند المصنف من حديث أبي أُسيد، وفي رواية له: أُميمة بنت شراحيل، ولابن ماجة: عمرة، ولابن إسحاق: أسماء بنت كعب، وقال ابن الكلبي: أسماء بنت النعمان بن الحرث بن شراحيل ابن الجون بن حجر بن معاوية بن عمرو.
وما في الصحيح أولى(6).
ولكنّه في الشرح اضطرب كلامه جدّاً، فحاول الجمع بين الأخبار والأقوال حتى قال: «وأشار ابن سعد إلى أنها واحدة اختلف في اسمها» ثم قال: «والصحيح أن التي استعاذت منه هي الجونّية، وروى ابن سعد من طريق سعيد بن عبدالرحمن بن أبزى قال: لم تستعذ منه امرأة غيرها.
قلت: وهو الذي يغلب على الظن، لأن ذلك إنما وقع للمستعيذة بالخديعة المذكورة، فيبعد أن يخدع أُخرى بعدها بمثل ما خدعت به بعد شيوع الخبر بذلك»(7).
أقول: إنّ ابن حجر لم يذكر ما جاء في رواية ابن سعد بتمامه والسبب واضح! فإنّ النص الكامل هكذا: «الجونّية استعاذت من رسول اللّه وقيل لها: هو أحظى لك عنده، ولم تستعذ منه امرأة غيرها، وإنما خدعت لما رؤي من جمالها وهيئتها. ولقد ذكر لرسول اللّه من حملها على ما قالت لرسول اللّه فقال رسول اللّه: إنهن صواحب يوسف وكيدهنّ عظيم!
قال: وهي أسماء بنت النعمان بن أبي الجون»(8).
ولكنّ ابن حجر ـ بعد أن رجّح أن القضية واحدة ـ قال: فإن كانت القصة واحدة، فلا يكون قوله في حديث الباب: ألحقها بأهلها، ولا قوله في حديث عائشة: الحقي بأهلك، تطليقاً، ويتعيّن أنها لم تعرفه. وإن كانت القصة متعددة ولا مانع من ذلك…» ثم قال بعد كلام له: «فيقوى التعدّد، ويقوى أن التي في حديث أبي اسيد اسمها اميمة، والتي في حديث سهل اسمها أسماء، واللّه أعلم».
ثم قال ابن حجر: «ووقع في رواية ابن سعد: فأهوى إليها ليقبّلها….
وفي رواية لابن سعد: فدخل عليها داخل من النساء ـ وكانت من أجمل النساء ـ فقالت: إنك من الملوك، فإن كنت تريدين أن تحظي عند رسول اللّه، فإذا جاءك فاستعيذي منه.
ووقع عنده عن هشام بن محمد، عن عبدالرحمن بن الغسيل بإسناد حديث الباب: إنّ عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت، فمشطتاها وخضبّتاها وقالت لها أحداهما: إنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول: أعوذ باللّه منك»(9).

أقول:
ونحن أيضاً نرجّح تعدّد القصّة، وحاصل الكلام: إنّ عائشة كانت هي السبب في فراق غير واحدة من أزواج النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وهي التي خدعتهنّ بأن يقلن لرسول اللّه: أعوذ باللّه منك، فمرةً قالت: «إنك من الملوك، فإن كنت تريدين أن تحظي عند رسول اللّه…» ومرّةً أُخرى قالت: «ألا تستحين أن تنكحي قاتل أبيك؟…» وهنا قال رسول اللّه: «إنهنّ صواحب يوسف وكيدهنّ عظيم».
ثم إنّا لم نجد في هذه الكتب التي نقلنا عنها القصة طعناً في سند رواية ابن سعد في الطبقات من جهة «هشام بن محمد الكلبي»، فلم يتكلّم ابن حجر ولا ابن كثير ولا غيرهما فيه، مع أنّ ابن حجر ـ مثلاً ـ ذكر في (الاصابة) روايتين فضعّف الثانية وسكت عن الأُولى التي فيها «هشام بن محمد».
وقد ترجم الخطيب في تاريخه له فقال: «روى عنه ابنه العباس وخليفة بن خياط وشباب العصفري ومحمد بن سعد كاتب الواقدي ومحمد ابن أبي السريوأبو الأشعث أحمد بن المقدام وغيرهم، وهو من أهل الكوفة، قدم بغداد وحدّث بها…»(10).
ولم يذكر فيه قدحاً أبداً.
وترجم له الذهبي في أعلام النبلاء وعنونه بقوله: «ابن الكلبي، العلامة الأخباري النسّابة الأوحد أبو المنذر، هشام ابن الأخباري الباهر محمّد بن السائب بشر الكلبي الكوفي الشيعي، أحد المتروكين كأبيه» ثم ذكر الرواة عنه ثم قال: «قال أحمد بن حنبل: إنما كان صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن أحداً يحدّث عنه»(11)وهو يقصد أنه لم يكن من المحدّثين، ولذا قال ابن عدي: «هذا ـ كما قال أحمد ـ الغالب عليه الأخبار والأسمار والنسبة ولا أعرف له شيئاً من المسند»(12).
وأمّا أنّه «متروك» فلكونه متّهماً بالرفض كأبيه، والسبب في ذلك كونه ـ كما في اللّسان ـ «راويةً للمثالب»(13) وقد رأينا كيف يروون عنه الخبر في خيانة عائشة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ولأزواجه، والتسبب في الفراق بينه وبينهنّ.
هذا، ولا يخفى عدم وجود أبيه في سند الحديث أصلاً، فما ذكره المفتري كذب آخر.

قيل:
4 ـ أما قوله: أن النبيصلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم كلّفها مرّةً بالاطلاع على امرأة مخصوصة لتخبره عن حالها فأخبرته ـ إيثاراً لغرضها ـ بغير ما رأت، فهو قول مردود من وجهين:
الأول: سند هذه الرواية كما جاء في الطبقات 8 : 160 فيه محمد بن عمر الواقدي. قال أحمد بن حنبل عنه: هو كذّاب يقلّب الأحاديث. وقال ابن معين: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال البخاري وأبو حاتم: متروك. وقال أبو حاتم أيضاً والنسائي: يضع الحديث.
الثاني: ليس في متن الرواية لفظاً واحداً(14) يصلح أن يكون دليلاً على مذهب الموسوي. بل على العكس من ذلك تماماً، فإن عائشة رأت من هذه المرأة وهي (شَراف بنت خليفة) ما اقشعّر له بدنها فكرهتها للنبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم وكتمت عنه ما رأت حتى أخبرها به عليه الصّلاة والسلام دون أن يراه، وإليك الرواية كما جاءت في الطبقات:
أخبرنا محمد بن عمر، حدثني الثوري عن جابر عن عبدالرحمن بن سابط قال: خطب رسول اللّه امرأة من كلب، فبعث عائشة تنظر إليها، فذهبت ثم رجعت، فقال لها رسول اللّه: ما رأيت؟ فقالت: ما رأيت طائلاً، فقال لها رسول اللّه: لقد رأيت طائلاً، لقد رأيت خالاً بخدّها اقشعرّت كلّ شعرة منك، فقالت: يا رسول اللّه ما دونك سرّ.

(1) المستدرك على الصحيحين 4 : 37.
(2) الطبقات الكبرى 8 : 145.
(3) الاصابة 8 : 12.
(4) الاستيعاب 4 : 1785.
(5) البداية والنهاية 5 : 299.
(6) مقدمة فتح الباري: 322.
(7) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9 : 292.
(8) الطبقات الكبرى 8 : 144.
(9) فتح الباري 9 : 294 ـ 295.
(10) تاريخ بغداد 14 : 45.
(11) سير أعلام النبلاء 10 : 101.
(12) الكامل في ضعفاء الرجال 8 : 412.
(13) لسان الميزان 6 : 197.
(14) كذا، والصحيح لفظ واحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *