كانت تكره ذكره بخير

كانت تكره ذكره بخير
أقول:
هذا الحديث بسند صحيح في مسند أحمد: «عبداللّه، حدّثني أبي، ثنا عبدالأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن عبيداللّه بن عبداللّه، عن عائشة: لمّا مرض رسول اللّه…»(1).
فأمّا «عبدالأعلى» فمن رجال الصحاح الستّة(2).
وأمّا «معمر» فكذلك(3).
وأمّا «الزهري» فكذلك(4).
وأمّا «عبيداللّه بن عبداللّه» فكذلك(5).
وكذلك سند ابن سعد؛ إذ قال: «أخبرنا أحمد بن الحجّاج، قال: أخبرنا عبداللّه بن المبارك، قال: أخبرنا معمر ويونس، عن الزهري، أخبرني عبيداللّه بن عبداللّه بن عتبة: أنّ عائشة زوج النبيّ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم قالت: لمّا ثقل رسول اللّه وأشتدّ به وجعه، استأذن أزواجه في أن يمرّض في بيتي فأذنّ له، فخرج بين رَجلين تخطُّ رِجلاه في الأرض، بين ابن عبّاس ـ تعني: الفضل ـ وبين رجل آخر.
قال عبيداللّه: فأخبرت ابن عبّاس بما قالت، قال: فهل تدري مَن الرجل الآخر الذي لم تسمّ عائشة؟!
قال: قلت: لا.
قال ابن عبّاس: هو عليّ، إنّ عائشة لا تطيب له نفساً بخير…»(6).
فأمّا «ابن سعد»، فقد قال ابن حجر: «صدوق فاضل»، ووضع عليه علامة أبي داود(7).
وأمّا «أحمد بن الحجّاج» وهو الخراساني المروزي، فقد قال ابن حجر: «ثقة»، ووضع عليه علامة البخاري(8)؛ فهو من رجاله في صحيحه.
وأمّا «عبداللّه بن المبارك» المروزي، فمن رجال الصحاح الستّة، وقد وصفه ابن حجر: «ثقة، ثبت، فقيه، عالم، جواد، مجاهد، جُمعت فيه خصال الخير»(9).
وأمّا «معمر» فمن رجال الصحاح الستّة؛ كما تقدّم.
وأمّا «يونس بن يزيد» فمن رجال الصحاح الستّة كذلك(10)، ولو فرض ضعفه فلا يضرّ؛ لوثاقة «معمر» كما هو واضح.
وأمّا «الزهري» و«عبيداللّه بن عبداللّه» فقد تقدّما.
فظهر: إنّ رجال السند كلّهم ثقات، ومن رجال الصحاح الستّة..
وبعد، فإنّ هذا المفتري نقل بعض الكلام في «يونس» و«معمر» عن كتاب تقريب التهذيب، ولكن لم ينقل عنه كونهما من رجال الصحاح الستّة!!
وأيضاً، فإنّ الرجلين من رجال البخاري في كتابه الموسوم بـ: الصحيح، فأيّ معنىً لقوله: «تأمّل يا أخي المسلم! ـ يتّضح لك سبب ترك البخاري لهذه الزيادة، وكذب الموسوي على البخاري وظلمه له»؟!
إنّ تركه لهذه الجملة من الحديث لا سبب له إلاّ العناد والبغض لأمير المؤمنين عليه السلام، كما ذكر السيّد، كما أنّ هذا هو السبب في ترك عائشة اسمه، كما ذكر ابن عبّاس.
والحاصل: إنّ الطعن في سند هذا الحديث طعنٌ في الصحاح الستّة وأصحابها، ويا حبّذا لو يصرّح القوم بعدم اعتبار تلك الكتب، فإنّ ذلك هو الحقيقة التي يشقّ عليهم الاعتراف بها.
وإذ لم يتمكّن أئمّة القوم من ردّ هذا الحديث من ناحية السند، فقد حاولوا تبرير صنع عائشة، فاضطربوا في بيان معناه وتضاربت كلماتهم:
أمّا النوويّ، فقد حاول التبرير بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان معتمداً على اثنين، لكنّ أحدهما كان هو العبّاس، والآخر لم يكن واحداً معيّناً، فلذا أبهمت، وهذا نصّ كلامه:
«قولها: فخرج بين رجلين، أحدهما العبّاس.
وفسّر ابن عبّاس الآخر بعليّ بن أبي طالب، وفي الطريق الآخر: فخرج ويدٌ له على الفضل بن عبّاس ويدٌ له على رجل آخر، وجاء في غير مسلم: بين رجلين، أحدهما: أُسامة بن زيد.
وطريق الجمع بين هذا كلّه: أنّهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، تارةً هذا وتارةً ذاك وذاك، ويتنافسون في ذلك، وهؤلاء هم خواصّ أهل بيته الرجال الكبار، وكان العبّاس أكثرهم ملازمةً للأخذ بيده الكريمة المباركة صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم. أو أنّه أدام الأخذ بيده، وإنّما يتناوب الباقون في اليد الأُخرى، وأكرموا العبّاس باختصاصه بيد واستمرارها له؛ لِما له من السنّ والعمومة وغيرهما، ولهذا ذكرته عائشة مسمّىً وأبهمت الرجل الآخر؛ إذ لم يكن أحد الثلاثة الباقين ملازماً في جميع الطريق، ولا معظمه، بخلاف العبّاس. واللّه أعلم»(11).
وهكذا حاول النووي الجمع، متغافلاً عن الرواية المشتملة على الجملة المنقوصة!!
لكنّ ابن حجر العسقلاني تعرّض لذلك فقال: «زاد الإسماعيلي من رواية عبدالرزّاق، عن معمر: ولكنّ عائشة لا تطيب نفساً له بخير».
ولابن إسحاق في المغازي، عن الزهري: «ولكنّها لا تقدر على أن تذكره بخير».
ثمّ قال ابن حجر: «ولم يقف الكرماني على هذه الزيادة، فعبّر عنها بعبارة شنيعة».
ثمّ قال ابن حجر: «وفي هذا ردّ على من تنطّع فقال: لا يجوز أن يظنّ ذلك بعائشة». ثمّ ردّ على النووي قائلاً: «وردٌّ على من زعم أنّها أبهمت الثاني لكونه لم يتعيّن في جميع المسافة… وهذا توهّم ممّن قاله، والواقع خلافه؛ لأنّ ابن عبّاس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأنّ المبهم: عليّ؛ فهو المعتمد..
ودعوى وجود العبّاس في كلّ مرّة والذي يتبدّل غيره، مردودة؛ بدليل رواية عاصم التي قدمت الإشارة إليها، وغيرها صريح في أنّ العبّاس لم يكن في مرّة ولا في مرّتين منها. واللّه أعلم»(12).

قلت:
وقد كان على ابن حجر العسقلاني أن يذكر أحمد، وابن سعد أيضاً، في الرواة لتلك الزيادة.
وفي عمدة القاري بعد كلام النووي: «قلت: وفي رواية الإسماعيلي من رواية عبدالرزّاق، عن معمر: ولكنّ عائشة لا تطيب نفساً له بخير..
وفي رواية ابن إسحاق في المغازي، عن الزهري: ولكنّها لا تقدر على أن تذكره بخير.
وقال بعضهم: وفي هذا ردّ على من زعم أنّها أبهمت الثاني؛ لكونه لم يتعيّن في جميع المسافة ولا معظمها.
قلت: أشار بهذا إلى الردّ على النووي، ولكنّه ما صرّح باسمه؛ لاعتنائه به ومحاماته له»(13).

قلت:
والعيني لم يصرّح باسم القائل وهو ابن حجر العسقلاني، وقد تقدّمت عبارته.
وأمّا كلام الكرماني الذي أشار إليه ابن حجر، فهو أنّه علّق على قول ابن عبّاس: «هل تدري مَن الرجل الذي لم تسمّ عائشة؟» فقال: «قوله: لم تسمّ. فإن قلت: لِمَ ما سمّته؟! قلت: عدم تسميتها له لم يكن تحقيراً أو عداوةً، حاشاها من ذلك. قال النووي:…»(14).
فذكر الجمع الذي ذكره النووي، كاتماً حديث الزيادة تبعاً له، وقد عرفت الجواب عنه….
وبذلك يتبيّن أنّها إنّما لم تسمّه عداوةً وحسداً منها له.

قيل:
وأمّا الرواية التي ساقها الموسوي والتي أخرجها الإمام أحمد… ففي سندها: «حبيب بن أبي ثابت بن قيس»، كان كثير الإرسال والتدليس؛ انظر ترجمته في تقريب التهذيب.
وفي سندها أيضاً: «أبو أحمد محمّد بن عبداللّه بن الزبير»؛ انظر ترجمته في الخلاصة: 344.

أقول:
لقد راجعنا تقريب التهذيب في الرجلين:
أمّا «حبيب بن أبي ثابت»، فقد قال ابن حجر: «ثقة، فقيه، جليل»، ووضع عليه علامة الصحاح الستّة(15).
وأمّا «محمّد بن عبداللّه بن الزبير» فمن رجال الصحاح الستّة كذلك(16).
فإن كان مجرّد كون «حبيب» كثير الإرسال مضرّاً بوثاقته، فهذا طعن في الصحاح وأصحابها، وسقوطها عن الاعتبار رأساً، وهو المطلوب، ونِعم المطلوب….
وهل يرضى هذا المفتري بأن نتّبع هذا الأُسلوب معه في ردودنا عليهم؟!
وإذ تبيّن صحّة الرواية على أُصولهم، فما هو «المبرّر لعائشة مثل هذه الإجابة؟» عند المنصفين، بل حتّى عند المدافعين عنها المتعسّفين؟! ليقول القائل منهم: «قد يكون في كلام الرجل ما يبرّر لعائشة…»!!
لكنّا نقول له ـ كما في الحديث المتّفق عليه ـ: «إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت».

قيل:
أمّا إنكار الموسوي حجّية حديث عائشة… فجوابه….

أقول:
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام وسائر الصحابة المخلصين، يعلمون بأنّ الرسول صلّى اللّه عليه وآله قد أدلى بوصيّته لعامّة المسلمين بالثقلين، في مواضع متعدّدة وبألفاظ مختلفة، بل لقد روى القوم وصيّته بهما في الساعات الأخيرة من عمره الشريف، وفي الحجرة ناسٌ… فدعوى أنّ الإمام وكلّ الصحابة كانوا يعلمون بأنّه لم يوصِ لأحد… كذب واضح.
وقد عرفت أنّ علماء القوم ينصّون على أنّ حديث الثقلين كانت وصيّةً منه، وكأنّ عائشة ـ التي زعمت موت النبيّ على صدرها في ما يروون ـ قد توهّمت أنّ الوصيّة لا تصحّ إلاّ عند الموت…!!
لكن سيأتي ذكر المعارض لما يروون عنها….

قيل:
أمّا ما رواه مسلم… فقد ردّه الموسوي… فجواب ذلك….

أقول:
لا خلاف ولا ريب في أنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد ترك أشياء، وهذا صريح الأحاديث في مسند أحمد والصحيحين وغيرهما، وقد نصّ عليه القاضي عبدالجبّار المعتزلي، وأبو يعلى الفرّاء الحنبلي، وابن كثير الدمشقي، وغيرهم(17).

وقيل:
ـ بعد إيراد روايات في مطالبة الزهراء عليها السلام بإرثها ـ: «من خلال استعراض هذه الروايات، يتبيّن لنا الحقائق التالية…».

أقول:
لا خلاف ولا ريب في أنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله كان أزهد العالمين في الدنيا، وأنّه لم يترك من حطامها ما يتركه أهلها….
ولا خلاف ولا ريب كذلك في أنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد خرج من الدنيا وهو مشغول الذمّة بدَين وعِدات، وعنده أمانات تستوجب الوصيّة، وترك ما يفي بالدَين وإنجاز العِدة….
فإن كان المراد من أنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم «لا أوصى بشيء»، أنّه لحق بربّه عزّ وجلّ بلا وصيّة في مثل هذه الأُمور ـ كما هو ظاهر الحديث؛ إذ نفت الوصيّة بعد القول بأنّه: ما ترك رسول اللّه ديناراً… ـ فهذا كذب، ويشهد بذلك مطالبة الزهراء الصدّيقة عليها السلام بإرثها، وكذا مطالبة الأزواج، والعبّاس عمّه، حسب الأحاديث التي يروونها.
وإن كان المراد أنّه لم يوصِ في أمر الخلافة بشيء، فقد أشرنا إلى أنّ حديث الثقلين وأمثاله وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
وكأنّ هذا المفتري أحسّ بأن استدلال السيّد بمطالبة الصدّيقة الطاهرة بإرثها، ثمّ ما كان من أبي بكر تجاهها… طعنٌ في أبي بكر، فانبرى للدفاع عن إمامه، قائلاً: «إنّ فاطمة عليها السلام قد أخطأت في طلبها لهذا الميراث؛ لما في ذلك من معارضة لصريح قوله عليه الصلاة والسلام: لا نورّث ما تركناه صدقة».
لكنّ السيّد لم يكن من قصده التعرّض لمسألة فدك وغيرها، بل إنّه قد أشار إلى ذلك إشارةً عابرةً، مستدلاًّ بتلك المسألة لإثبات أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قد ترك أشياء؛ فما رووه عن عائشة ليس بصحيح.

(1) مسند أحمد بن حنبل 7 : 53 / 23541.
(2) تقريب التهذيب 1 : 465.
(3) تقريب التهذيب 2 : 266.
(4) تقريب التهذيب 2 : 207.
(5) تقريب التهذيب 1 : 535.
(6) الطبقات الكبرى 2 : 232.
(7) تقريب التهذيب 2 : 163.
(8) تقريب التهذيب 1 : 13.
(9) تقريب التهذيب 1 : 445.
(10) تقريب التهذيب 2 : 386.
(11) شرح صحيح مسلم ـ للنووي ـ 4 : 137 ـ 138.
(12) فتح الباري بشرح البخاري 2 : 123 ـ 124.
(13) عمدة القاري شرح صحيح البخاري 5 : 192.
(14) صحيح البخاري بشرح الكرماني 5 : 52.
(15) تقريب التهذيب 1 : 148.
(16) تقريب التهذيب 2 : 176.
(17) المغني في الإمامة 20 ـ ق 1 ـ / 331، الأحكام السلطانيّة: 199 ـ 203، البداية والنهاية 6 : 2 ـ 10، شرح نهج البلاغة 16 : 217.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *