كلمة ابن عبّاس

كلمة ابن عبّاس

قال السيّد:
«وقد قال ابن عبّاس: نزل في عليٍّ وحده ثلاثمائة آية».

قال في الهامش:
«أخرجه ابن عساكر عن ابن عبّاس، كما في الفصل 3 من الباب 9 من الصواعق ص 76».

أقول:
سيأتي الكلام عليه في المراجعة رقم 49، فانتظر.

* * *

هذا تمام الكلام على هذه المراجعة المختصّة بالآيات المنزَّلة بشأن أمير المؤمنين عليه السلام، المستدلّ بها على إمامته بلا فصل، على ضوء كتب القوم، ومن نَظَر إلى ما حوته من بحوث في الكتاب والسُنّة وبالإستناد إلى أشهر الأسفار والكتب، وحرّر فكره من التقليد والتعصّب، هُدي إلى الحقّ المبين، مذهب النبيّ وآله الطاهرين.

قال الشيخ البشري:
«ربّما اعترض بأنّ الّذين رووا نزول تلك الآيات في ما قلتم، إنّما هم من رجال الشيعة، ورجال الشيعة لا يحتجّ أهل السُنّة بهم، فماذا يكون الجواب؟ تفضّلوا به إن شئتم، ولكم الشكر».

قال السيّد:
«الجواب: إنّ قياس هذا المعترض باطل، وشكله عقيم، لفساد كلٍّ من صغراه وكبراه.
أمّا الصغرى، وهي قوله: «إنّ الّذين رووا نزول تلك الآيات إنّما هم من رجال الشيعة» فواضحة الفساد، يشهد بهذا ثقات أهل السُنّة الّذين رووا نزولها في ما قلناه، ومسانيدهم تشهد بأنّهم أكثر طرقاً في ذلك من الشيعة، كما فصّلناه في كتابنا تنزيل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة. وحسبك غاية المرام المنتشر في بلاد الإسلام.
وأمّا الكبرى، وهي قوله: «إنّ رجال الشيعة لا يحتجّ أهل السُنّة بهم» فأوضح فساداً من الصغرى، تشهد بهذا أسانيد أهل السُنّة وطرقهم المشحونة بالمشاهير من رجال الشيعة. وتلك صحاحهم الستّة وغيرها تحتجّ برجال من الشيعة، وصمهم الواصمون بالتشيّع والانحراف، ونبذوهم بالرفض والخلاف، ونسبوا إليهم الغلوّ والإفراط والتنكّب عن الصراط. وفي شيوخ البخاري رجال من الشيعة نُبزوا بالرفض ووُصموا بالبغض، فلم يقدح ذلك في عدالتهم عند البخاري وغيره، حتّى احتجّوا بهم في الصحاح بكلّ ارتياح، فهل يصغى بعد هذا إلى قول المعترض: «إنّ رجال الشيعة لا يحتجّ أهل السُنّة بهم»؟! كلاّ!
ولكنّ المعترضين لا يعلمون، ولو عرفوا الحقيقة لعلموا أنّ الشيعة إنّما جروا على منهاج العترة الطاهرة، واتّسموا بسماتها، وأنّهم لا يطبعون إلاّ على غرارها، ولا يضربون إلاّ على قالبها، فلا نظير لمن اعتمدوا عليه من رجالهم في الصدق والأمانة، ولا قرين لمن احتجّوا به من أبطالهم في الورع والإحتياط، ولا شبيه لمن ركنوا إليه من أبدالهم في الزهد والعبادة وكرم الأخلاق، وتهذيب النفس ومجاهدتها ومحاسبتها بكلّ دقة آناء الليل وأطراف النهار، لا يبارون في الحفظ والضبط والإتقان، ولا يجارون في تمحيص الحقائق والبحث عنها بكلّ دقّة واعتدال.
فلو تجلَّت للمعترض حقيقتهم ـ بما هي في الواقع ونفس الأمر ـ لناط بهم ثقته، وألقى إليهم مقاليده، لكنّ جهله بهم جعله في أمرهم كخابط عشواء، أو راكب عمياء في ليلة ظلماء، يتّهم ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني، وصدوق المسلمين محمّد بن علي بن بابويه القمّي، وشيخ الأُمّة محمّد بن الحسن بن علي الطوسي، ويستخفُّ بكتبهم المقدّسة ـ وهي مستودع علوم آل محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ ويرتاب في شيوخهم أبطال العلم وأبدال الأرض، الّذين قصروا أعمارهم على النصح للّه تعالى ولكتابه ولرسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولأئمّة المسلمين ولعامّتهم.
وقد علم البرّ والفاجر حكم الكذب عند هؤلاء الأبرار، والأُلوف من مؤلّفاتهم المنتشرة تلعن الكاذبين، وتعلن أنّ الكذب في الحديث من الموبقات الموجبة لدخول النار، ولهم في تعمّد الكذب في الحديث حكم قد امتازوا به، حيث جعلوه من مفطّرات الصائم، وأوجبوا القضاء والكفّارة على مرتكبه في شهر رمضان كما أوجبوهما بتعمّد سائر المفطّرات، وفقههم وحديثهم صريحان بذلك. فكيف يتّهمون بعد هذا في حديثهم وهم الأبرار الأخيار، قوّامون الليل صوّامون النهار؟! وبماذا كان الأبرار من شيعة آل محمّد وأوليائهم متّهمين ودعاة الخوارج والمرجئة والقدرية غير متّهمين؟! لولا التحامل الصريح، أو الجهل القبيح! نعوذ باللّه من الخذلان، وبه نستجير من سوء عواقب الظلم والعدوان، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العليّ العظيم، والسلام»(1).

أقول:
أمّا الصغرى، فقد أوضحنا فسادها بإثباتنا نزول الآيات ـ التي ذكرها السيّد ـ في أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام، اعتماداً على كتب أهل السُنّة فقط، وصحّحنا أسانيد رواياتهم في ذلك على ضوء كلمات علمائهم، بحيث لا يبقى مجال للاعتراض والمكابرة، والحمد للّه على التوفيق.
وأمّا الكبرى، فهي موضوع المراجعة الآتية.
وقد أشار السيّد رحمه اللّه في هذا المقام إشارةً إجماليّةً إلى أحوال العلماء الأبرار ورواة الأخبار والآثار من الشيعة الإمامية، في العلم والزهد والضبط والأمانة والورع والاحتياط، وأنّ الّذين تكلّموا في علماء الإمامية كانوا جاهلين بأحوالهم… فأقول:
نعم، قد تكلّم بعض الجاهلين أو المتعصّبين في علماء الإمامية، وربّما اتّهم الكليني والصدوق والمفيد والطوسي، وأمثالهم من أكابر شيوخ الإمامية، ولكنّ أكثر المؤرّخين من أهل السُنّة، يترجمون هؤلاء الأعلام في كتبهم الرجالية والتاريخيّة، ولا نجد منهم أيّ اتّهام لهم بالكذب أو بشيء من الموبقات الموجبة لدخول النار، في حين أنّهم لمّا يترجمون لعلماء السُنّة يذكرون كثيراً من الكبائر والموبقات الفظيعة، ممّا يدلّ على براءة علماء الإماميّة ونزاهتهم عن ذلك، وإلاّ لذكروا عنهم ما ذكروا عن علماء طائفتهم….
هذا، ومن المناسب التوسّع في هذا المطلب، بمراجعة كتاب سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، فإنّه موسوعة رجالية تاريخية ضخمة، شملت تراجم المئات من الشخصيات الإسلاميّة وأعلام الأمّة في مختلف العلوم وشتّى الطبقات، حتّى القرن الثامن من الهجرة.
فالذهبي(2)، وإنْ لم يذكر من أعلام الإمامية إلاّ عدداً ضئيلاً، وهو عندما يترجم لواحد منهم يحاول الاختزال والاختصار، فلا تتجاوز ترجمته له الأسطر القلائل، وكذلك حاله مع كلّ من يخالفه في العقيدة، كما ذكر تلميذه السبكي ـ كما سيأتي ـ إلاّ أنّك لا تجد بترجمة واحد منهم شيئاً ممّا يخلُّ بالعدالة….
فمثلاً يقول: «الكليني: شيخ الشيعة وعالم الإمامية، صاحب التصانيف، أبو جعفر محمّد بن يعقوب الرازي الكليني ـ بنون ـ. روى عنه: أحمد بن إبراهيم الصيمري وغيره. وكان ببغداد، وبها توفّي، وقبره مشهور. مات سنة 328. وهو بضمّ الكاف وإمالة اللام. قيّده الأمين»(3).
ويقول: «المرتضى: العلاّمة الشريف المرتضى، نقيب العلوية، أبو طالب، علي بن حسين بن موسى، القرشي العلوي الحسيني الموسوي البغدادي. من وُلد موسى الكاظم. ولد سنة 355، وحدّث عن: سهل بن أحمد الديباجي وأبي عبداللّه المرزباني وغيرهما. قال الخطيب: كتبت عنه. قلت: هو جامع كتاب نهج البلاغة المنسوبة ألفاظه إلى الإمام عليّ رضي اللّه عنه، ولا أسانيد لذلك وبعضها باطل وفيه حقّ، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها، ولكن أين المنصف؟ وقيل: بل جمع أخيه الشريف الرضي(4).
وديوان المرتضى كبير وتواليفه كثيرة، وكان صاحب فنون.
وله كتاب الشافي في الإمامة والذخيرة في الأُصول وكتاب التنزيه وكتاب في إبطال القياس وكتاب في الاختلاف في الفقه، وأشياء كثيرة. وديوانه في أربع مجلّدات. وكان من الأذكياء الأولياء، المتبحّرين في الكلام والاعتزال، والأدب والشعر. لكنّه إماميٌّ جلد. نسأل اللّه العفو.
قال ابن حزم: الإماميّة كلّهم على أنّ القرآن مبدّل وفيه زيادة ونقص(5)، سوى المرتضى، فإنّه كفّر من قال ذلك، وكذلك صاحباه أبو يعلى الطوسي وأبوالقاسم الرازي.
قلت: وفي تواليفه سبّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فنعوذ باللّه من علم لا ينفع.
توفّي المرتضى في سنة 436»(6).
ويقول: «أبوجعفر الطوسي: شيخ الشيعة وصاحب التصانيف، أبو جعفر محمّد بن الحسن بن علي الطوسي. قدم بغداد، وتفقّه أوّلاً للشافعي(7)، ثم أخذ الكلام وأصول القوم عن الشيخ المفيد رأس الإمامية، ولزمه وبرع، وعمل التفسير وأملى أحاديث ونوادر في مجلّدين عامّتها عن شيخه المفيد. وروى عن: هلال الحفّار والحسين بن عبيداللّه الفحّام والشريف المرتضى وأحمد بن عبدون وطائفة. روى عنه ابنه أبو علي. وأعرض عنه الحفّاظ لبدعته، وقد أُحرقت كتبه عدّة نوب في رحبة جامع القصر، واستتر لمّا ظهر عنه من التنقُّص بالسلف. وكان يسكن بالكرخ محلّة الرافضة، ثمّ تحوّل إلى الكوفة وأقام بالمشهد يفقّههم. ومات في المحرّم سنة 460. وكان يعدّ من الأذكياء لا الأزكياء. ذكره ابن النجّار في تاريخه. وله تصانيف كثيرة منها: كتاب تهذيب الأحكام كبير جدّاً، وكتاب مختلف الأخبار وكتاب المفصح في الإمامة، وأشياء، ورأيت له مؤلّفاً في فهرسة كتبهم وأسماء مؤلّفيها»(8).
ويقول بترجمة الصدوق: «ابن بابويه. رأس الإماميّة، أبو جعفر، محمّد بن العلاّمة علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، صاحب التصانيف السائرة بين الرافضة. يضرب بحفظه المثل، يقال: له ثلاث مئة مصنّف، منها: كتاب دعائم الإسلام، كتاب الخواتيم، كتاب الملاهي، كتاب غريب حديث الأئمّة، كتاب التوحيد، كتاب دين الإماميّة، وكان أبوه من كبارهم ومصنّفيهم.
حدّث عن أبي جعفر جماعة، منهم: ابن النعمان المفيد والحسين بن عبداللّه بن الفحّام وجعفر بن حسنكيه القمّي»(9).
ويقول: «الشيخ المفيد: عالم الرافضة، صاحب التصانيف، الشيخ المفيد، واسمه محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادي الشيعي، ويعرف بابن المعلّم. كان صاحب فنون وبحوث وكلام واعتزال وأدب. ذكره ابن أبي طيّ في تاريخ الإماميّة فأطنب وأسهب وقال: كان أوحد في جميع فنون العلم: الأصلين والفقه… إلى أن قال: مات سنة 413 وشيّعه ثمانون ألفاً.
وقيل: بلغت تواليفه مائتين، لم أقف على شيء منها وللّه الحمد، يكنّى أبا عبداللّه»(10).
ويقول: «الكراجكي: شيخ الرافضة وعالمهم، أبو الفتح، محمّد بن علي، صاحب التصانيف. مات بمدينة صور سنة 449»(11).
وهكذا… ترجمته لعلماء الإماميّة، في أسطر قليلة، مع أغلاط وهفوات كثيرة… إلاّ أنّك لا تجد في هذه التراجم شيئاً من الآثام والقبائح الموبقة… وحتّى لو كان نُسب إلى أحد منهم شيءٌ ممّا لا يجوز لأورده كما ذكر ذلك بتراجم علماء طائفته، مؤكّداً على كثير من ذلك:
فقد ذكر بترجمة (زاهر بن طاهر ) بعد أنّ وصفه بـ«الشيخ العالم، المحدّث المفيد، المعمّر، مسند خراسان، أبو القاسم ابن الإمام أبي عبدالرحمن، النيسابوري، الشحامي، المستملي، الشروطي، الشاهد»!! وعدّد مشايخه وتصانيفه… ذكر عن جماعة أنّه كان يخلُّ بالصلوات إخلالاً ظاهراً…(12).
وذكر بترجمة (عمر بن محمّد، المعروف بابن طبرزد) وقد وصفه بـ«الشيخ المسند الكبير الرحلة، أبو حفص عمر بن محمّد بن معمّر بن…» وعدّد شيوخه ومن روى عنه من المشاهير كابن النجّار والكمال ابن العديم والمجد ابن عساكر والقطب ابن أبي عصرون وأمثالهم، ثمّ أورد قول ابن نقطة: «ثقة في الحديث»، وقول ابن الحاجب: «كان مسند أهل زمانه» حتّى نقل عن ابن النجّار: «كان متهاوناً بأُمور الدين، رأيته غير مرّة يبول من قيام، فإذا فرغ من الإراقة أرسل ثوبه وقعد من غير استنجاء بماء ولا حجر» قال الذهبي: «قلت: لعلّه يرخّص بمذهب من لا يوجب الاستنجاء!».
ثمّ حكى عن ابن النجّار: «وكنّا نسمع منه يوماً أجمع، فنصلّي ولا يصلّي معنا، ولا يقوم لصلاة…».
قال الذهبي: «وقد سمعت أبا العبّاس ابن الظاهري يقول: كان ابن طبرزد لا يصلّي»(13).
ثم إنّ الذهبي روى خبرين بترجمة (مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي القصّاب) في سند أحدهما «زاهر» والآخر «عمر» فقال: «في الإسنادين ضعف، من جهة زاهر وعمر، لإخلالهما بالصلاة، فلو كان فيَّ ورع لَما رويتُ لمن هذا نعته»(14).
لكنْ في مشايخ الذهبي غير واحد من هؤلاء، فقد نصَّ ـ مثلاً ـ بترجمة (علي بن مظفّر الإسكندراني، شيخ دار الحديث النفيسيّة!! المتوفّى سنة 716): «لم يكن عليه ضوء في دينه، حملني الشره على السماع من مثله، واللّه يسامحه، كان يخلُّ بالصلوات، ويُرمى بعظائم!!»(15).
وذكر بترجمة (الشيخ المعمّر أبو المعالي عثمان بن علي بن المعمّر بن أبي عِمامة البغدادي البقّال): «قال ابن النجّار: كان عسراً، غير مرضي السيرة، يخلُّ بالصلوات، ويرتكب المحظورات»(16).
وبترجمة (الجعابي) الموصوف بـ«الحافظ البارع العلاّمة، قاضي الموصل، أبوبكر محمّد بن عمر بن محمّد بن سلم التميمي البغدادي» قال بعد ذكره مشايخه، وأنّه حدّث عنه: أبو الحسن الدارقطني وأبوحفص ابن شاهين وابن رزقويه وابن مندة والحاكم… وبعد ذكر بعض الكلمات في الثناء عليه… قال: «ونقل الخطيب عن أشياخه أنّ ابن الجعابي كان يشرب في مجلس ابن العميد. وقال أبو عبدالرحمن السلمي: سألت الدارقطني عن ابن الجعابي، فقال: خلّط؛ وذكر مذهبه في التشيّع، وكذا نقل أبو عبداللّه الحاكم عن الدارقطني قال: وحدّثني ثقة أنّه خلّى ابن الجعابي نائماً وكتب على رجله، قال: فكنت أراه ثلاثة أيّام لم يمسّه الماء…».. «قال الحاكم: قلت للدارقطني: يبلغني عن الجعابي أنّه تغيَّر عمّا عهدناه. قال: وأيّ تغيّر؟! قلت: باللّه هل اتّهمته؟! قال: إي واللّه. ثمّ ذكر أشياء. فقلت: وضحَ لك أنّه خلط في الحديث؟! قال: إي واللّه، قلت: هل اتّهمته حتّى خفت المذهب؟! قال: ترك الصلاة والدين»(17).

أقول:
لكنّ بقاء الكتابة على رجله ثلاثة أيّام، إنّما يدلّ على عدم غسله لرجليه في الوضوء ولا يدلّ على عدم الوضوء وترك الصلاة، فلعلّه كان من القائلين بالمسح في الوضوء، تعييناً أو تخييراً، فإنّ هذا مذهب كثير من الصحابة والتابعين والفقهاء الكبار كابن جرير الطبري ـ صاحب التفسير والتاريخ ـ وأتباعه…(18).
وأمّا شرب المسكر، فمذكور بتراجم كثير من أعلام القوم:
ففي ترجمة (نصرك) وهو: «الحافظ، المجوّد، الماهر، الرّحال، أبو محمّد، نصر بن أحمد بن نصر، الكندي البغدادي»: «قال أبو الفضل السليماني: يقال إنّه كان أحفظ من صالح بن محمّد جزرة، إلاّ أنّه كان يتّهم بشرب المسكر»(19).
وبترجمة (علي بن سراج) وهو: «الإمام الحافظ البارع، أبو الحسن ابن أبي الأزهر»: «إلاّ أنّ الدارقطني قال: كان يشرب ويسكر»(20).
وبترجمة (الذهبي) وهو: «الحافظ العالم الجوّال، أبو بكر أحمد بن محمّد بن حسن بن أبي حمزة البلخي ثمّ النيسابوري» ذكر مشايخه ومن حدّث عنه وهم أكابر المحدّثين الحفّاظ ثمّ قال: «لكنّه مطعون فيه. قال الإسماعيلي: كان مستهتراً بالشرب»(21).
وبترجمة (عبداللّه بن محمّد بن الشرقي): «ذكر الحاكم أنّه رآه… قال: ولم يَدعِ الشرب إلى أن مات، فنقموا عليه ذلك، وكان أخوه لا يرى لهم السماع منه لذلك»(22).
وبترجمة (أبو عبيد الهروي): «قال ابن خلّكان… قيل: إنّه كان يحبّ البِذلة، ويتناول في الخلوة، ويعاشر أهل الأدب في مجالس اللذّة والطرب»(23).
وبترجمة (الزوزني)، وهو: «الشيخ المسند الكبير، أبو سعد أحمد بن محمّد… من مشاهير الصوفيّة»!! حدّث عنه: ابن عساكر والسمعاني وابن الجوزي وآخرون، «قال السمعاني: كان منهمكاً في الشرب، سامحه اللّه… وقال ابن الجوزي: ينسبونه إلى التسمّح في دينه»(24).

أقول:
ومثل هذه القضايا في تراجمهم كثير، وهم حفّاظ، أئمّة، يقتدون بهم… وقد جاء بترجمة «الإمام!! القدوة!! العابد!! الواعظ!! محمّد بن يحيى الزبيدي،نزيل بغداد» عن السمعاني: «سمعت جماعةً يحكون عنه أشياء السكوت عنها أَوْلى. وقيل: كان يذهب إلى مذهب السالمية، ويقول:… إنّ الشارب والزاني لا يلام، لأنّه يفعل بقضاء اللّه وقدره»(25).
فهذا مذهب القوم، وهذه أعمالهم….
وجاء بترجمة «الشيخ المعمَّر المحدّث!!» (أحمد بن الفرج الحجازي) من مشايخ: النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم من الأئمّة، عن محمّد بن عوف: «هو كذّاب!! رأيته في سوق الرستن وهو يشرب مع مُردان وهو يتقيّأ!! وأنا مشرفٌ عليه من كوّة بيت كانت لي فيه تجارة سنة 219…»(26).
فاجتمع عنده: الشرب! والكذب! والعبث بالمردان!!
وكان العبث بالمردان من أفعال غير واحد من أعلام القوم، فقد جاء بترجمة قاضي القضاة!! (يحيى بن أكثم): «قال فضلك الرازي: مضيت أنا وداود الأصبهاني إلى يحيى بن أكثم، ومعنا عشرة مسائل، فأجاب في خمسة منها أحسن جواب، ودخل غلام مليح، فلمّا رآه اضطرب، فلم يقدر يجيء ولا يذهب في مسألة. فقال داود: قم، اختلط الرجل»(27).
وبترجمة (الخطيب البغدادي) الذي أطنب وأسهب الذهبي ترجمته بعد أن وصفه بـ«الإمام الأوحد، العلاّمة المفتي، الحافظ الناقد، محدّث الوقت… خاتمة الحفّاظ» ونحو ذلك من الألقاب، وبعد أن أورد كلمات الأئمّة في مدحه، قال: «كان سبب خروج الخطيب من دمشق إلى صور أنّه كان يختلف إليه صبي مليح، فتكلّم الناس في ذلك»(28).
وبترجمة (ابن الأنماطي) وهو: «الشيخ العالم الحافظ، المجوّد البارع، مفيد الشام، تقي الدين أبو الطاهر إسماعيل بن عبداللّه» عن ابن الحاجب: «وكان يُنبَز بالشرّ، سألت الحافظ الضياء عنه فقال: حافظ ثقة مفيد إلاّ أنّه كثير الدعابة مع المُرد»(29).
وجاء بترجمة الحافظ أبي بكر أحمد بن إسحاق (الصِبغي): «قال الحاكم: وسمعت أبا بكر بن إسحاق يقول: خرجنا من مجلس إبراهيم الحربي ومعنا رجل كثير المجون، فرأى أمرد، فتقدّم فقال: السلام عليك، وصافحه وقبَّل عينيه وخدّه، ثم قال: حدّثنا الدَبَري بصنعاء بإسناده، قال: قال رسول اللّه: إذا أحبّ أحدكم أخاه فليعلمه. فقلت له: ألا تستحي؟! تلوط وتكذب في الحديث!! يعني: أنّه ركّب إسناداً للمتن»(30).
هذا، ولا أريد أنْ أُطيل في هذا المقام، وفي كتابنا «الانتقاء» من هذا القبيل كثير، وبعضه عجيبٌ وغريبٌ!

* * *

(1) المراجعات: 39 ـ 41.
(2) هذا الفصل ملخّص من أحد موضوعات كتابنا الانتقاء من سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي، المطبوع في 23 مجلداً.
وهو كتابٌ يحتوي على بحوث عقائديّة، تاريخية، رجاليّة، ويشتمل على قضايا ونوادر وحكايات، من أحوال الصحابة والتابعين والعلماء من مختلف الطبقات، نسأل اللّه تعالى أن يهيّئ أسباب نشره.
(3) سير أعلام النبلاء 15 : 280 رقم 125.
(4) وهذا هو الصحيح، والكلام في ثبوت ما في «نهج البلاغة» عن أمير المؤمنين عليه السلام في موضعه.
(5) ليس هذا عقيدة الإماميّة، والكلام في ذلك في كتابنا التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف المطبوع مراراً.
(6) سير أعلام النبلاء 17 : 588 رقم 394.
(7) هذا لا أساس له من الصّحة.
(8) سير أعلام النبلاء 18 : 334 رقم 155.
(9) سير أعلام النبلاء 16 : 303 رقم 212.
(10) سير أعلام النبلاء 17 : 344 رقم 213.
(11) سير أعلام النبلاء 18 : 121 رقم 61.
(12) سير أعلام النبلاء 20 : 9 رقم 5.
(13) سير أعلام النبلاء 21 : 507 رقم 266.
(14) سير أعلام النبلاء 10 : 317.
(15) معجم الشيوخ: 389 رقم 562.
(16) سير أعلام النبلاء 19 : 453 رقم 261.
(17) سير أعلام النبلاء 16 : 88 رقم 69.
(18) قد بحثنا ذلك في رسالتنا: حكم الأرجل في الوضوء… وهو من البحوث المنشورة عن مؤتمر ألفية الشيخ المفيد رحمه اللّه.
(19) سير أعلام النبلاء 13 : 538 رقم 271.
(20) سير أعلام النبلاء 14 : 284.
(21) سير أعلام النبلاء 14 : 461 رقم 251.
(22) سير أعلام النبلاء 15 : 40 رقم 22.
(23) سير أعلام النبلاء 17 : 147.
(24) سير أعلام النبلاء 20 : 57 رقم 34.
(25) سير أعلام النبلاء 20 : 318.
(26) سير أعلام النبلاء 12 : 585.
(27) سير أعلام النبلاء 12 : 10.
(28) سير أعلام النبلاء 18 : 281.
(29) سير أعلام النبلاء 22 : 174.
(30) سير أعلام النبلاء 15 : 487.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *